القربان : هو ما يُتقرب به إلى الله عَزَّ وجَلَّ من عبادات وأعمال صالحة ، من هنا تُسمّى الذبائح التي يُراد منها وجه الله تعالى والتقرب اليه ب " القربان " . قال سبحانه وتعالى في قصة ابني آدم عليه السلام : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ .
وورد عَنْ أمير المؤمنين عليه السلام قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله : " الصَّلَاةُ قُرْبَانُ كُلِ تَقِيٍّ " .
وثمّة موضوع مهمّ نريد التطرق اليه بإيجاز وحذر ، وهو مسألة القرابين البشرية ، وهذه المسألة لها جذرها في التاريخ البشري ومنه الديني - بتفصيل يأتي - ، فمن القرابين البشرية في التاريخ ( ابنة يفتاح ) ، والقصة باختصار : [ عندما نشبت حرب بين بني إسرائيل وعمون رغب شيوخ جلعاد أن يقيموا قائدًا عليهم ، فأبى يفتاح في بادئ الأمر لسوء معاملتهم إياه سابقًا ، ولكنه أذعن أخيراً لطلبهم فصار زعيمهم .
وحاول يفتاح أولًا تسوية النزاع بالطرق السلميَّة دون اللجوء إلى الحرب وعندما اتضح له عدم نجاح هذه الطريقة شن الحرب على العمونيين ، وقبل الشروع في القتال نذر انه إذا انتصر قدّم من يلاقيه أولًا عند رجوعه محرقة للرب . وانتهت الحركة بظفره وهزيمة عمون ، وكان أول من لقيه ابنته الوحيدة ومعها صويحباتها يضربن الدفوف ويرقصن ابتهاجاً بنصره ، وهذه كانت العادة للقاء المنتصر . وعندما أخبر يفتاح ابنته بنذره قبلت نصيبها بخضوع ، وبعد شهرين صرفتهما في الجبل تبكي عذراويتها ، عادت إليه فوفى نذره فيها . وأصعدها محرقة للرب ] .
وهذا الفعل كان متعارفاً عند الحضارات القديمة والديانات الوثنية ، أما الشرائع السماوية ودين التوحيد وخاصةً الشرائع الثلاث ( الموسوية والمسيحية والإسلامية ) فقد منعت هذه الشعيرة وأعطت لها مفهوماً وبديلاً آخر ..
وقد يقول قائل ، يحدّثنا القرآن الكريم عن قصة ذبح ابراهيم لابنه اسماعيل [ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ ] الصافات ١٠٢ ، وكذا ما يرويه لنا التاريخ عن قصّة نذر عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه وآله في ذبح أحد أولاده إن بلغ عددهم عشرة أولاد مع ضميمة أن عبد المطلب بحسب عقيدتنا كان من الموحدين وكان على دين الحنيفية بل هو من أوصياء الأنبياء ..! فكيف تنسجم هذه الأحداث بقولكم أن القربان البشري عبارة عن طقوس وثنية لم تقرّها الأديان السماوية ..!!
والجواب :
١. بالنسبة لقصة ذبح ابراهيم لابنه اسماعيل عليهما السلام كانت تكليفاً خاصّاً من الله تعالى وامتحاناً لهما عليهما السلام ، وبهذا تخرج القصة تخصصاً عن موضوع وفكرة القربان ، أو تخصيصاً لحكم حرمة القربان البشري ..
وأما بالنسبة لنذر عبد المطلب ، فلدينا رواية عن الإمام الرضا عليه السلام نفهم منها أنها تكليف خاص أيضاً له من الله تعالى ، فمما جاء فيها [ أَنَّ عبدَ الْمُطَّلِبِ كانَ حُجَّةً وأنَّ عزْمَهُ على ذبحِ ابْنِهِ عبد اللَّه شبِيهٌ بعزمِ إِبْرَاهِيمَ على ذبحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ لَمَا افْتَخَرَ النَّبِيُّ ص بِالانتساب إِليهما لأَجْلِ أَنَّهُمَا الذَّبِيحان فِي قوله عليه السلام أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ ] الخصال للشيخ الصدوق ص٥٧ .
٢. بالتالي فإنهما لم يذبحا ولديهما وإنما حصل الفداء ، والفداء هو السنّة التي جرت وليس الذبح ، وكأن سبب الموضوع وفكرة الحادثتين هو لتأصيل وسنّ مبدأ الفداء بدماء الأنعام بدل دماء البشر المتّبعة عند بعض الأقوام ، وهي قريبة من فكرة انتقال ابراهيم عليه السلام من عبادة الشمس الى القمر الى النجم ثم الى الله تعالى .. فتأمّل .
بل هذا ما نصّ عليه الامام الرضا عليه السلام في تكملة الرواية السابقة حيث يقول : [ والعِلَّةُ الَّتِي منْ أَجلِهَا رفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ الذَّبْحَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ هيَ الْعِلَّةُ الَّتي مِنْ أَجْلِهَا رَفَعَ الذَّبْحَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَ هِيَ كَوْنُ النَّبِيِّ ص والْأَئِمَّةِ ع فِي صُلْبِهِمَا فَبِبَرَكَةِ النَّبِيِّ وَ الْأَئِمَّةِ ص رَفَعَ اللَّهُ الذَّبْحَ عَنْهُمَا فَلَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ فِي النَّاسِ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ كُلُّ أَضْحًى التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَ كُلُّ مَا يَتَقَرَّبُ النَّاسُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنْ أُضْحِيَّةٍ فَهُوَ فِدَاءُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ] نفس المصدر .
٣. قد استهجن القرآن الكريم هذا الفعل ، وليس على مستوى الشريعة الاسلامية بل أشار الى ما يُفهم منه رفض هذا الفعل من قبل الشرائع السابقة ، حيث نسب هذا الفعل الى المشركين ، قال تعالى [ وكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لكثِيرٖ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ قَتۡلَ أَوۡلَٰدِهِمۡ شُرَكَآؤُهُمۡ لِيُرۡدُوهُمۡ وَلِيَلۡبِسُواْ عَلَيۡهِمۡ دِينَهُمۡۖ وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ ] الانعام ١٣٧
يقول صاحب الميزان : أن الأصنام بما لها من الوقع في قلوب المشركين والحب الوهمي في نفوسهم زُينت لكثير من المشركين أن يقتلوا أولادهم ويجعلوهم قرابين يتقربون بذلك الى الالهة ..
اذن المشكلة ليست في أصل فكرة القربان ، وإنما في متعلّقها .. وتطرّقنا الى أن الشرائع السماوية قد رفضت فكرة القربان البشري ، وفي مقابل هذا الرفض أعطت البدائل المناسبة ، ويمكن إجمالها بأمرين وشرط :
● أمّا الشرط : فهو التقوى ، فهي شرط قبول كلّ عمل ، وهي العلّة وراء قبول قربان هابيل وعدم قبول قربان قابيل ، قال تعالى ( ۞ وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ ) المائدة ٢٧
وقال تعالى [ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ] الحج ٣٧ ، وعن النبي صلى الله عليه و آله : يقول الله سبحانه : " أنا خير شريك ، من أشرك معي شريكاً في عمله ، فهو لشريكي دوني ، فإني لا أقبل إلا ما خلص لي " .
● وأما الأمران فهما :
الأول : اتساع مفهوم القربان باتساع معناه اللغوي ، أي كل ما يجوز التقرب به الى الله تعالى من العبادات والأعمال الصالحة ، من فرائض ونوافل ، فلا توجد حقيقة شرعية - كما يقال في علم أصول الفقه - لمصطلح القربان ، فالصلاة قربان كل تقي كما قال أمير المؤمنين ، وذبح الأنعام قربةً الى الله تعالى هي من أوضح مصاديق القربان .. ، وفي الحديث القدسي [ ما يتقرب إلي عبد من عبادي بشئ أحب إلي مما افترضت عليه ، وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت إذا سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ] .
الثاني : الشهادة ، أي القتل في سبيل الله ، قال تعالى [ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والأنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ] التوبة ١١١
وورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حب الشهادة : [ والذي نفسي بيده لوددت أني اُقتل في سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم اُقتل ، ثم أحيا ، ثم اُقتل ] ميزان الحكمة : 2/1513
وفلسفة الشهادة والقتل في سبيل الله تختلف عن منطلقات القربان البشري ، فالجهاد هو حصن الأمة الحصين وفيه إعلاء كلمة الدين وعزّة المؤمنين والدفاع عن المستضعفين ونشر أحكام رب العالمين ، وبه يكون إحقاق الحق وإبطال الباطل ، قال تعالى [ وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلۡوِلۡدَٰنِ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ] النساء ٧٥
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله [ إذا تركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلّا ] .
والشهادة أفضل القربات الى الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : [ فوق كل برٍّ برٌّ حتّى يُقتلَ الرَّجل في سبيل الله ، فإذا قُتل في سبيل الله عزّ وجل فليس فوقه برّ ] . وورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله : [ صفة هذه الأمة في التوراة قربانهم دماؤهم ] ، أي الشهادة والقتل في سبيل الله .
ولقربان الشهادة درجات ، كان أبو عبدالله الحسين عليه السلام والذين استشهدوا معه في كربلاء في أعلاها درجة وأسماها مقاماً ومنزلة ، ومن هنا ينقل لنا التأريخ قول ودعاء السيّدة زينب العقيلة بنت أمير المؤمنين عليه السلام بأنّها بعد مقتل أخيها الإمام الحسين عليه السلام وضَعت يديها تحت الجثمان وقالت : [ اللهمّ تَقبّل مِنّا هذا القربان ] الكبريت الأحمر ج٣ ص١٣ ..
جَمعت تضحيةُ أبي عبدالله الحسين عليه السلام في كربلاء كلّ معاني وامتيازات وفلسفات وحِكَم القرابين المقدّسة ، فهي القربة المطلقة لله ، وهي التي عمّت خيراتها الأرض والسماء ، وبها ستتكلل بالنجاح كلُّ رسالات الأنبياء ..
ولا بد من ذكر أمر دقيق مفاده : أنّ كلّ مَن تفاعل مع كربلاء تفاعلاً يلتقي مع قداستها وأهدافها .. ستكون له كربلاء قرباناً الى الله تعالى ، فهي قربانُ كل المفجوعين بها ، وهي قربان كل السائرين على دربها ، فهي قربان زينب عليه السلام [ اللهم تقبّل منّا هذا القربان ] ، وهي قربان ابراهيم الخليل حينما فضّل مقام ودرجة حزن وجزع قربان كربلاء على حزن وفجيعة قربان ولده اسماعيل عليهم السلام جميعا ، وإليك خبر ذلك :
روى الصّدوق عن الفضل بن شاذان ، قال : سمعت الرّضا (ع) يقول : [ لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم (ع) أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الّذي أنزله عليه ، تمنّى إبراهيم (ع) أن يكون يذبح ابنه إسماعيل (ع) بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الّذي يذبح أعزّ ولده بيده ، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثّواب على المصائب ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا إبراهيم من أحبّ خلقي إليك ؟ فقال : يا ربّ ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليَّ من حبيبك محمّد (ص) ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا إبراهيم أفهو أحبّ إليك أو نفسك؟ قال : بل هو أحبّ إليَّ من نفسي ، قال : فولده أحبّ إليك أو ولدك ؟ قال : بل ولده ، قال : فذبح ولده ظلماً على أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي ؟ قال : يا ربّ بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي ، قال يا إبراهيم ، فإنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد .. ستقتل الحسين .. ابنه من بعده ظلماً وعدواناً ، كما يذبح الكبش فيستوجبون بذلك سخطي . فجزع إبراهيم (ع) لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين .. وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثّواب على المصائب ، فذلك قول الله عزّ وجلّ ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيم ) ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ] .
فاستبدال أحزاننا وفجائعنا بفجيعة الحسين عليه السلام هو الأولى والأحجى والأعظم درجة ، وبهذا يوصي الامام الرضا عليه السلام [ يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لشيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) ، فَإِنَّهُ ذُبحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ ، وقُتِلَ مَعَهُ منْ أَهلِ بيْتِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ شَبِيهُونَ، وَ لقَدْ بكَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ لِقَتْلِهِ ] .
وأجاد الشيخ الأعسم رحمه الله عندما قال :
أَنْـسَـتْ رزيـتُكُم رزايانا التي
سـلـفت وهوّنت الرزايا الآتيه
وفـجـائـعُ الأيـامِ تـبقى مدّةً
وتزولُ وهي إلى القيامةِ باقيه