بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين…
هل يمكن للإنسان أن يعيش حياتين؟
نعم… لكن ليس كما نتصوّر من خيال أو خرافة.
بل كما أرادها الله له:
حياة في الجسد، وحياة في الروح.
حياة في الأرض، وحياة في الأثر.
حياة تُرى، وحياة تُثمر.
🕊️ الحياة الأولى: حياة الجسد
الحياة التي نعدّها "الحقيقية"،
نأكل فيها، نلبس، نمرض، نفرح، نتعب، ننام، نحب…
لكن القرآن يوقظنا: "وَمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِب وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْاخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"
(العنكبوت: 64)
الدنيا ليست الحياة الحقيقية…
هي مجرد مرحلة… غرفة انتظار… محطة عبور.
الحياة الثانية: حياة الروح والأثر
الحياة التي تُكتب في السماء،
الحياة التي تبقى بعد أن نغيب،
حين تمشي أفعالنا على الأرض ونحن في القبر،
حين يبكي الناس علينا، لا لأننا متنا، بل لأننا كنا حياةً لهم.
"كُنْ عالِمًا، أوْ مُتعلِّمًا، أو مُحبًّا لهما، ولا تكُنِ الرّابعَ فَتَهلِك."
الحياة الثانية تبدأ حين نختار أن لا نكون من "الرابع".
حين لا نكون هامشًا في كتاب الزمن،
بل أثرًا… نورًا… فكرةً… صدقةً… دمعةً… دعاءً في ظهر الغيب.
✨ نماذج من أهل البيت عليهم السلام
الحسين عليه السلام، عاش ٥٧ سنة، لكن كل يوم في محرم يعاد اسمه في كل بيت،
ليس لأنه عاش عمرًا طويلًا… بل لأنه عاش حياتين:
الأولى في كربلاء،
والثانية في قلوب العاشقين.
السيدة الزهراء عليها السلام، عمرها قصير،
لكنها بقيت ميزان الحق والباطل في كل زمان،
هي الحياة التي لا تموت.
🎓 الإمام الصادق عليه السلام،
علّم آلاف التلاميذ، فصار كل من يطلب علماً اليوم، يعيش في ظلاله.
إذا كيف نعيش حياتين؟
1. بنية صافية لله
"ما كان لله ينمو"، كل عمل نُخلِص فيه، لا يموت.
2. أثر طيب – علم، كلمة، خلق، صدقة، تربية طفل، دعاء في الليل…
– قال رسول الله ﷺ وآله : "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له."
3. الوعي بالوقت – الحياة لا تُقاس بالسنوات، بل بالبركة فيها.
"نَفَسُ المَرْءِ خُطاه إلى أَجَلِه."
🌹 نموذج خالص: أم البنين عليها السلام
هل رأيتم من تعيش حياتها الأولى كأمٍّ لولد…
ثم تعيش حياتها الثانية كأمٍّ لأمّة؟
أم البنين عليها السلام،
امرأة لم تكن مجرد زوجة لأمير المؤمنين عليه السلام،
ولا أمًا فقط للعباس وأخوته الأربعة،
بل كانت مؤمنة من طراز نادر،
عاشت في الظل، لكنها أنارت قلوب الناس إلى اليوم.
عاشت حياتها الأولى في بيت علي…
تعرف مقام الزهراء، وتحفظ أبناءها وتربّيهم على الولاء والحب والإيثار.
لكن حياتها الثانية بدأت عندما سمعت نبأ كربلاء…
تخيّلوا:
أُمّ يُقتل أولادها الأربعة،
ثم تُسأل: من أعظم ما فقدتِ؟
فتجيب:"أخبروني عن الحسين أولًا…"
هذا جواب من لا ترى في حياتها قيمة إلا بمحور الإمامة والولاية،
من لا تعتبر فقد الأبناء هو الخسارة الكبرى، بل فقد الإمام!
إنها أمّ ولدت أبطالًا،
لكنها بقيت هي البطلة الصامتة،
بدمعتها، بصبرها، بدعائها، برثائها، بترسيخها لذكر الحسين في المدينة،
حتى قال الإمام زين العابدين عليه السلام: "كانت تخرج إلى البقيع وتبكي وتبكي حتى يبكي الناس لبكائها..."
لقد صارت أم البنين تعيش في قلوب الناس،
في المجالس، في مواكب العزاء،
صار اسمها حياة…
وذكراها بابًا للحوائج.
أليست هذه حياة ثانية؟
نعم…
من ضحّى لله، أحياه الله مرتين.
من أحبّ الحسين، لا يموت أبدًا.
وأم البنين… نموذج للأم التي سلّمت أبناءها لله،
فردّ الله عليها حياة خالدة، وذكراً لا يُنسى.
📖 آية تختم بها الطريقين
"مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ"
(النحل: 97)
الله وعد بالحياة الطيبة هنا،
ثم بالبعث الكريم هناك…
وعدنا أن نعيش حياتين، لكن بشرط:
أن نحيا بالإيمان والعمل الصالح.
لا تعش حياةً واحدة تضيع في الريح…
ازرع نيتك، واسقها بالإخلاص، واتركها لله.
سيجعلها شجرة تُظلّك في الدنيا…
وتُثمر لك في الآخرة.
عِش حياتين… فالمؤمن لا يموت، بل ينتقل.
تعليق