بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[1].
هنا ملائكة العذاب يتوفون الذين كفروا، وهناك ملائكة الرحمة يتوفون الذين آمنوا: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[2]. ثم وملائكة العذاب والرحمة يرأسهم كلهم ملك الموت ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾[3]، ومن فوقهم كلهم هو الله، ف ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾[4]، ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ* ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[5].
فهو حالة من حالات عقاب الكافرين بضرب الوجوه كاستقبال لهم بذوق من عذاب البرزخ، وضرب أدبارهم استدبار بآخر منه، فهم بين الدنيا والبرزخ يدفعون إلى الموت بضرب الأدبار، ويستقبلون فيه بضرب الوجوه، فإنهم أدبروا عن الحياة الأخرى واتجهوا فقط إلى الحياة الدنيا، فيقال لهم بعد الضربتين: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، مما يدل - كما في عشرات من الآيات - على الحياة البرزخية، إذ لا مجال إذا ل «ذوقوا» إلاّ إذا كان عذاب الحريق حاضرا، ففي الآية اللاحقة 51 يقول الباري عز وجل: ﴿ذَلِكَ﴾، الثالوث من عذاب الوجوه والأدبار وعذاب الحريق ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، من مستحق العذاب ﴿وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾.
وهنا «الذين كفروا» كمصداق حاضر، هم المشركون في بدر حيث ضربتهم الملائكة فتوفتهم، ويروى أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وآله: ((أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِنِّي حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَذَهَبْتُ لِأَضْرِبَهُ فَنَدَرَ رَأْسُهُ فَقَالَ: سَبَقَكَ إِلَيْهِ اَلْمَلاَئِكَةُ))[6].
ولماذا ﴿لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ﴾، وهو ليس ظالما أبدا؟ علّه لكي يستأصل خرافة الجبر، أو وزيادة العذاب على المستحق فإنه ظلاّمية في التعذيب، ولأنه ﴿بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، فليس بظالم كما ليس بظلام للعبيد. وترى ﴿لَوْ تَرَى﴾، تمنيا لرؤيته صلّى الله عليه وآله ذلك المرئي، أليس يجعل الله متمنيا والرسول غائبا عن ذلك المرئي؟ إن غياب الرسول عن ذلك المرئي كسائر الغيّب ليس عليه عيبا حيث الضابطة له ﴿ولا أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ﴾، اللهم إلا ما يظهره عليه ربه، ثم «لو ترى» من الله بيان لموقف التمني، أنه مكانه ومجاله أن يرى الرسول إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة دون واقعه من الله.
وهكذا يكون دور الذين كفروا في مصيرهم لمسيرهم بما قدمت أيديهم، فهم كما يصفهم: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[7]، دأبان اثنان: دأبهم أنفسهم في الكفر فإضافة إلى الفاعل، ودأب الله في جزاءهم الوفاق فإضافة إلى المفعول، الدأب هو العادة المتعود عليها والسنة السائرة، وهنا ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، دأب الذين كفروا ككل في أخذهم بذنوبهم، ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾، وهم فرعون وأتباعه ﴿وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من فراعنة التاريخ ونماردته ﴿كَفَرُوا بِآياتِ اَللّٰهِ﴾، آفاقية وأنفسية، تكوينية وتشريعية ﴿فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾، هنا وفي الأخرى.
﴿إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقابِ﴾، في موضع النكال والنقمة كما هو أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة. وعن إمام المتقين علي أمير المؤمنين (عليه السلام): ((سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَمَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَمَطْعَماً وَأَزْوَاجاً وَخَدَماً وَقُصُوراً وَأَنْهَاراً وَزُرُوعاً وَثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا وَلاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَلاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اِشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَاِصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَيَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَأَمَاتَتِ اَلدُّنْيَا قَلْبَهُ وَوَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ))[8].
[1] سورة الأنفال، الآية: 50.
[2] سورة النحل، الآية: 32.
[3] سورة السجدة، الآية: 11.
[4] سورة الزمر، الآية: 42.
[5] سورة محمد، الآيتان: 27-28.
[6] تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 162.
[7] سورة الأنفال، الآية: 52.
[8] نهج البلاغة، ص 158.