تويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا بنور القرآن، وكرّمنا بولاء محمدٍ وآله الطاهرين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
الإنسان إذا عاش بعينٍ غافلة يرى الدنيا وكأنها الغاية، فيغرق في تفاصيلها الصغيرة: مالٌ يجمعه، بيتٌ يشيّده، جاهٌ يسعى خلفه… ولكنه حين يتنوّر قلبه بنور الله ويفتح الله عينيه على الحقائق، يدرك أن هذه الدنيا ليست سوى جسر يعبره إلى دار أوسع، دار البقاء والقرب من الله جل وعلا.
🔹 يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).
أي أن ما بين يديك من رزق ونعمة ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة توصل إلى الآخرة، إلى دارٍ أعدها الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات.
🔹 ويقول عز وجل:
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (آل عمران: 185).
فمن انخدع بها خسر، ومن جعلها سلّمًا للآخرة ربح.
🌸 روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل." (نهج البلاغة، خطبة 42).
فالدنيا ليست إلا مزرعة. من زرع فيها خيرًا حصد نورًا وجوارًا عند الله، ومن ضيّعها عاد يوم القيامة فارغ اليدين.
🌿 الدنيا مزرعة الآخرة
شبّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا بالمزرعة حين قال:"الدنيا مزرعة الآخرة" (رواه الشيخ الصدوق في معاني الأخبار).
ما معنى هذا التشبيه؟
كما أن الفلاح إذا أراد حصادًا في موسمه، لا بد أن يحرث الأرض، يبذر البذور، يسقيها، ويصبر على التعب، ثم بعد أشهرٍ يحصد ثمار جهده…
كذلك الإنسان في هذه الحياة: كل عملٍ صالح يزرعه اليوم – من صلاة، صدقة، كلمة طيبة، صبرٍ على البلاء، إحسانٍ للناس – هو بذرة تُزرع في أرض الدنيا، وسنحصدها نورًا ورحمةً وجوارًا عند الله يوم القيامة.
🔹 الله تعالى يقول:
﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ (الأنعام: 160).
أي أن بذرة الخير الصغيرة تُعطي أضعافًا مضاعفة.
🌸 ثمار الزرع
من زرع الإيمان والتقوى، حصد القرب من الله.
من زرع الصبر على البلاء، حصد الراحة الأبدية.
من زرع الصدقة والإحسان، حصد ظلّ الله ورحمته يوم لا ظل إلا ظلّه.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "اغتنموا المهل، وخذوا من أهبة العمل، فإن الدنيا قد تنكرت، وآذنت بوداع." (نهج البلاغة).
أي أن موسم الزرع قصير جدًا، وهو عمر الإنسان، فإذا ضاع فلا رجعة.
⚖️ صورة مؤثرة: من عاد فارغ اليدين
تخيّلي فلاحًا أهمل أرضه، لم يزرع شيئًا، قضى أيامه في لهوٍ وغفلة، فلما جاء موسم الحصاد لم يجد إلا أرضًا جرداء.
هكذا حال من يضيع الدنيا باللهو والذنوب؛ يصل يوم القيامة صفر اليدين، وقد فات الأوان.
قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا﴾ (آل عمران: 30).
الدنيا إذن ليست دار قرار، بل أرض زراعة. نحن فيها عمّال، وأعمالنا هي البذور. والآخرة هي موسم الحصاد.
من زرع خيرًا وجد نورًا ورضوانًا وجوارًا لله ولأوليائه. ومن أهمل وضيّع، فلن يجد إلا الحسرة.
إذا حين يستشعر القلب نور الله يدرك أن المقصد الحقيقي هو القرب من الله، جوار الحق سبحانه، حيث الطمأنينة والرضوان.
قال تعالى:
﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ (التوبة: 72).
فالجنّة بما فيها من نعيم عظيم لا تساوي شيئًا أمام مقام القرب من الله، أن يكون الله راضيًا عن عبده.
القرب من الله هو النعيم الأعظم، هو المقصد الذي خُلقنا له.
أن العارفون بالله، الذين أنارت قلوبهم، يعلمون أن المال والجاه والصحة والولد ليست غاياتٍ بحد ذاتها، إنما هي زادٌ في الطريق، اختبارٌ، أمانةٌ مؤقتة. ولذلك كانوا يرون الدنيا صغيرة في عيونهم.
🔹 أهل البيت عليهم السلام لم يهملوا الدنيا ؛ بل جعلوها وسيلةً لطاعة الله، لإعمار الأرض بالعدل، ولإعداد الزاد للآخرة.
إذا فتح الله قلبك بنوره، سترى أن المقصد هو جوار الحق سبحانه وتعالى، وأن الدنيا ما هي إلا سفينة توصلك إلى ميناء الأبدية.
فاجعل من كل نعمة وسيلةً للشكر، ومن كل ابتلاءٍ طريقًا للصبر، ومن كل يومٍ خطوةً نحو الله. حينها تصبح الدنيا وسيلةً مباركة، وتصل إلى الغاية الكبرى: القرب من الله، حيث الطمأنينة والسلام الأبدي.
قال تعالى:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27–30).
تعليق