لقد تطور الفقه الإسلامي من زمن ظهوره في المدينة المنورة تطورات مختلفة وشهد أدوارا عديدة (۱) يمكن ان نذكرها في ضمن الأبواب الاتية :
الدور الأول : دور التشريع والبيان :
وقد بدأ هذا الدور من يوم بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة المكرمة حينما كان عمره أربعين سنة الى يوم وفاته في المدينة المنورة في عام ۲۳ بعد البعثة ، وكانت مدة هذا الدور ثلاثا وعشرين سنة وانتهى في العام العاشر من الهجرة ، حيث انه اقام في مكة المكرمة بعد ان بعثه الله تعالى الى عباده ما يقارب ثلاث عشرة سنة ثم هاجر منها الى المدينة المنورة ودخل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيها يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول بعد ان اختفى في الغار ثلاثة أيام وكانت هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مبدأ التاريخ الإسلامي الهجري القمري ، وبقي النبي في المدينة نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر المظفر عام احد عشر من الهجرة ، فكان مجموع هذا الدور هو ما اشرنا اليه .
ويعنينا من هذا ان نشير الى ان الفقه الإسلامي قد نشأ في هذا الدور تدريجا لا دفعة ، حيث ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يبلغ الفقه والأحكام الإلهية الى المسلمين دفعة واحدة بل كان بالتدريج ، لانه كان يواجه أتباعه بين فترة واخرى بالفقه الإسلامي والأحكام الإلهية التي أمره الله تعالى بابلاغها اليهم وكان أتباعه ايضا يراجعونه عند الحاجة لأخذ الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها بدون توسط أي إنسان وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجيبهم أما من الكتاب ويشير اليه قوله تعالى : ( وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ) (۲) أو يجيبهم بالسنة من قوله أو فعله أو تقريره ( فان هذه تسمى في اصطلاح الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم بالسنة نقلا من معناها اللغوي الذي كان بمعنى الطريقة ) فالمسلمون كانوا في هذا الدور من ادوار الفقه الإسلامي في سعة من حيث تلقي الفقه لتلقيهم الفقه من الرسول الأعظم بخطاب شفهي مباشر .
نعم في هذا الدور كان يحيلهم احيانا الى علي ( عليه السلام ) وهم يراجعونه ويأخذون الجواب عنه .
وفي بعض الاحيان كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرسل اصحابه الى بعض المناطق الإسلامية لبيان المسائل الفقهية والأحكام الدينية كإرسال معاذ الى اليمن ولم يتجاوز الامر في الدور المشار اليه هذا الحد .
وهنا ينبغي التنبيه على أمور : الأول ـ في هذا الدور كان النبي يأمر كتابه أن يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي :
وامتثلوا أمره فكتبوا جميع ما أوحي اليه . الثاني ـ مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور :
المعروف ان مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور هو الوحي المنزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا غيره ومع ذلك فقد وقع الخلاف بين فقهاء المسلمين في اجتهاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مقام بيان الأحكام وعدمه .
ذهبت الامامية الى عدم كون أحكامه عن اجتهاد ووافقهم على هذه النظرية أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ، وذهب كثير من فقهاء السنة الى جواز الاجتهاد في مقام بيان الأحكام ، ولكن وقع الخلاف بينهم في وقوعه وعدم وقوعه منه .
ذهب جماعة منهم الى وقوعه منه وهم الأكثر منهم العلامة سيف الدين الحنفي (م۶۳۱) والامدي صاحب الأحكام في اصول الأحكام وابن الحاجب جمال الدين عثمان المالكي (م۶۴۶) صاحب كتاب منتهى السؤال والامل وابن تيمية الحراني الحنبلي (م۷۲۷) وقال صاحب فيض الباري (۳) : ( ان النبي كان يجتهد عند الحاجة ) ، وذهب آخرون منهم الى التوقف عن القول بوقوع الاجتهاد منه ، منهم العلامة ابو حامد محمد الغزالي (م۵۰۵) وفخر الرازي ، وخص بعض اهل السنة محل البحث بما يتعلق بامر الحروب ونحوها لا الأحكام الشرعية لعدم جواز الاجتهاد للنبي فيها ، ولكن قال ابن همام : ( ان الرسول مأمور بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والامور الدنيوية من دون تقييد بشي منها ) ولكن الحق انه لم يصدر من النبي حكم من الأحكام الشرعية باجتهاده لان مصدر الفقه والتشريع هو الله لا غيره .
أما أولا : فلوجود الآيات المتنوعة في القرآن الكريم على خلافه .
منها : ( وما ينطق عن الهوى ، ان هو الا وحي يوحى ) (۴) .
ومنها : ( ان اتبع الا ما يوحى الي ) (۵) .
ومنها: ( ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لاخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ) (۶) .
ومنها : آية المجادلة الواردة في قضية الظهار الذي لم ينزل حكمه الى اربعين يوما وهي : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير ) (۷) .
ومنها : ( قل لا أجد فيما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم ) (۸) .
وأما ثانيا : فلعدم الاحتياج اليه لا في مكة المكرمة ولا في المدينة المنورة ، اما في مكة المكرمة فلان الايات نزلت فيها وتقرب من ثلثي القرآن وسميت مكية وهي في مجموعها لا تكاد تتعرض لشئ من الأحكام بل تقتصر على الأصول الاعتيادية كالإيمان بالله ورسوله والمعاد ومحاربة الشرك والإلحاد والأمر بالمعروف والاتصاف بالصفات الخلقية ، والنهي عن الأعمال السيئة والتطفيف في الكيل والميزان ونظائر ذلك .
وأما في المدينة المنورة فلان الايات التي نزلت فيها وتقرب من ثلث القرآن وسميت مدنية وان كانت تتعرض للاحكام ، الا انها كانت تنزل تدريجا ، وكان الرسول ايضا يتحدث بها وبما تنطوي عليه من الأحكام المتعلقة بالحوادث والوقائع والمعالجة لما يحصل من مشاكل في ابعاد الحياة تدريجا حتى كمل التشريع .
ومهما يكن من امر فلا شارع سوى الله ولا حكم الا ما حكم الله به فأساس التشريع هو الله ( ان الحكم الا للّه ) (۹) واذا اطلق في بعض عبارات الفقهاء على النبي الكريم اسم الشارع فما كان ذلك الا تجوزا بلحاظ انه المبلغ عنه واذا كان ابو اسحاق ابراهيم الشاطبي الغرناطي (م ۷۹۰) صاحب كتاب الموافقات قد سمى عمل المجتهد في بعض المواضيع تشريعا فما كان ذلك منه الا تساهلا فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كاشف للتشريع ومظهر له لا انه مشرع فسلطنة التشريع له ولم يفوضه الى احد من عباده ، لا الى رسوله ولا الى الإسلامي ولا الى مجتهد ، فلا يجوز لهم ان يشرعوا للعباد من الأحكام ما يريدون وان يحكموا بينهم بما يرون من عند انفسهم ، والنبي الكريم نزل عليه الوحي في الامور كلها حتى بالنسبة الى ارش الخدش ولم يكن محتاجا في بيان احكام المسائل الى الاجتهاد .
وكيف كان فنحن فصلنا الكلام عن عدم اجتهاد النبي في مقام بيان الأحكام ومن احب الاطلاع عليه فليراجع كتابنا ( ادوار الاجتهاد على ضوء المذاهب الإسلامية ) .
ومن المناسب هنا ذكر ما دل من الاحايث على تطهير التشريع من طرف الله في زمان النبي يقول رسول الله في ضمن حديث لسعد بن عبادة : ( ان الله عز وجل قد جعل لكل شي حدا وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا ) (۱۰) .
ونحوه في موثق سماعة عن الصادق ( عليه السلام ) : ( ان لكل شي حدا ومن تعدى ذلك الحد كان له حد (۱۱) وفي الاية : ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) (۱۲) .
وفي رواية موثقة أخرى : ( كل شي في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه قال بل كل شي في كتاب الله وسنة نبيه ) (۱۳) . الثالث ـ زمان الوحي ومكانه :
كان زمان الوحي في ۲۷ رجب المرجب عند الخاصة وفي ۱۷ من شهر رمضان عند العامة ، ونزل الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الموضع الذي كان محل عبادته بضواحي مكة المكرمة في غار حراء ، فقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ) (۱۴) ، فارتعدت فرائصه ورجفت جوانبه وعاد الى اهله قائلا : زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الفزع والروع .
الرابع ـ كيفية دعوة النبي :
كانت دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سرا بعد بعثته الى مدة ثلاث سنوات وبعدها جهر بها لامره تعالى به بقوله : ( فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين ، انا كفيناك المستهزئين ) (۱۵) واستمرت دعوته نحو ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة كما اشرنا اليه وقد نزل عليه من القرآن فيها ما يقارب ثلثيه ، ثم ذهب الى الطائف بعد بعثته بعشر سنين ، وفي سنة ۱۱ من بعثته وقع الاسراء والمعراج وفي سنة ۱۳ هاجر من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وبقي فيها نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة في ۲۸ من شهر صفر المظفر كما اشرنا اليه في صدر المبحث .
الخامس ـ تدوين الفقه والشريعة :
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر كتابه ان يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي وامتثلوا أمره وكان القرآن الكريم ينزل عليه من عند الله شيئا فشيئا في ظروف مناسبة حتى اكتمل خلال ثلاث وعشرين سنة ثم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد نصب وصيه بأمر من الله تعالى بالاية المباركة : ( يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين ) (۱۶) .
فكمل الدين وانقطع الوحي بالاية الشريفة : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (۱۷) وكان نزول هذه الاية في حجة الوداع قبل وفاة الرسول بثلاثة أشهر ولم تنزل بعدها آية من آيات الأحكام .
السادس ـ إطلاق كلمة الفقه في هذا الدور والمرحلة :
كانت كلمة ( الفقه ) في هذا الدور تطلق على فهم الأحكام الشرعية جميعها ، أي فهم كل ما شرعه الله لعباده من الأحكام سواء كانت متعلقة بأصول العقائد أو بالفروع أو بالأخلاق أو بالقوانين وغيرها فكان اسم الفقه في ذلك العهد متناولا لجميع هذه المسائل على السواء ولم يكن مختصا بواحدة منها وكان مرادفا في هذه المرحلة لكلمات : شريعة ، شرعة ، شرع ، دين ، التي كان يفهم من كل منها أصول العقائد والفروع العملية وما يرتبط بهما ثم تغير هذا الاستعمال وانشاء اصطلاح للفقهاء والاصوليين باختصاصه بالفروع الشرعية والأحكام الدينية .
السابع ـ كلمة الفقيه في هذا الدور :
لم تكن كلمة ( الفقيه ) تطلق في هذا الدور على من عرف الأحكام الشرعية وانما كانت تطلق كلمة ( القارئ ) على من حفظ آيات من القرآن الكريم أو عرف معانيها وناسخها ومنسوخها ومتشابهها ومحكمها خاصها وعامها ومقيدها ومطلقها ففي هذا الدور كانوا يسمون الفقهاء بالقراء أي الذين يقرؤون الكتاب باعتبار ان هذا امر يميزهم عن عامة الناس لانتشار الأمية فيما بينهم ، ولما كمل علم الفقه بابعاده المختلفة في المدينة المنورة أبدلت اسماؤهم بالفقهاء .
الثامن ـ إطلاق كلمة الفقه على نفس الأحكام :
اسم الفقه كما كان يطلق على فهم الأحكام الشرعية كان يطلق على الأحكام نفسها ، ومن ذلك قوله : ( رب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه ) ، ويرشدنا الى هذا المعنى ما افاده بعض من ان الفقه هو : معرفة النفس ما لها وما عليها ، وما هذه المعرفة الا معرفة احكام الله بنوعيها ، ثم تقيد هذا الاستعمال ودخل التخصيص على اسم الفقه ونشاء اصطلاح جديد له عند الاصوليين والفقهاء .
ولفظ الفقه من المصادر التي تؤدي معناها ، وكثيرا ما يرادفها متعلق معناها كالعلم بمعنى المعلوم والعدل بمعنى العادل .
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أول شرح نهج البلاغة : ( ان واضع تمام العلوم الإسلامية هو علي ( عليه السلام ) ، وهو أول من دون الحديث وكتب جميع الحقائق التي جرت على لسان النبي ) .
التاسع ـ مدة نشر الفقه في هذا الدور :
كانت مدة نشر الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها في هذا الدور في المدينة المنورة كما أشير اليه ، عشر سنوات ونزل فيها من القرآن ما يقارب ثلثيه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذه المدة يبين لهم الحلال والحرام ويرشدهم الى المعارف الالهية والأحكام الدينية والآداب الإسلامية ، ويشرح لهم ما تحتاج اليه الامة ، ولم يترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الدور في المدينة المنورة صغيرة أو كبيرة الا وبين حكمها حتى ارش الخدش وكان الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) يكتب جميع ما يصدر عن الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) سواء ما يتعلق بتفسير القرآن أو ما يتعلق بالسنة أو غيرهما بل ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أملى عليه جميع الشرائع والأحكام ، وأمر بكتابته وحفظه وتسليمه الى الائمة من ولده ، فكتبه ( عليه السلام ) بخطه وأودعه عند أهله والأخبار بذلك كثيرة ، ولا باس بذكر بعضها من باب التيمن والتبرك ، منها :
۱ـ ما اخرجه الحموي بسنده عن الإمام الباقر( عليه السلام ) عن ابيه عن جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله : يا علي اكتب ما أملي عليك ، قلت : يا رسول الله أتخاف علي النسيان ؟ قال : لا وقد دعوت الله عز وجل ان يجعلك حافظا ، ولكن اكتب لشركائك الائمة من ولدك بهم تسقى أمتي الغيث وبهم يستجاب دعاؤهم وبهم يصرف الله عن الناس البلاء وبهم تنزل الرحمة من السماء وهذا أولهم وأشار الى الحسن ( عليه السلام ) ثم قال : وهذا ثانيهم وأشار الى الحسين ( عليه السلام ) ، قال : والائمة من ولده (۱۸) .
۲ـ ما رواه قيس الهلالي وفيه قول علي ( عليه السلام ) : ( وإذا أتاني ( رسول الله ) للخلوة معي في منزلي ، لم تقم عني فاطمة ولا احد من بني ، وكنت اذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله آية من القرآن الا أقرانيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها ) (۱۹) .
۳ـ ما رواه علي بن خنيس عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ان الكتب كانت عند علي فلما سار الى العراق استودع الكتب أم سلمة فلما مضى ( عليه السلام ) كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند ابي ) (۲۰) .
۴ـ ما رواه عبد الملك قال : ( دعا ابو جعفر بكتاب علي ( عليه السلام ) فجاء به جعفر ( عليه السلام ) مثل فخذ الرجل مطويا فاذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل اذا هو توفي عنها شئ ، فقال ابو جعفر : هذا والله املاء رسول الله وخطه علي بيده ) (۲۱) .
۵ـ ما رواه عذافر الصيرفي قال : ( كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر( عليه السلام ) فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرما فاختلفا في شي فقال أبو جعفر : يا بني قم فاخرج كتاب علي فاخرج كتابا مدروجا عظيما ففتحه وجعل ينظر حتى اخرج المسالة فقال ابو جعفر : هذا خط علي ( عليه السلام ) وأملاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقبل على الحكم وقال : يا ابا محمد اذهب انت وسلمة وابو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل ) (۲۲) .
۶ـ ما رواه محمد بن مسلم قال سالته عن ميراث العلم ما بلغ اجوامع هو من العلم أم يفسر كل شي من هذه الامور التي يتكلم فيها الناس من الطلاق والفرائض فقال ( عليه السلام ) : ( ان عليا ( عليه السلام ) كتب العلم كله والفرائض فلو ظهر امرنا لم يكن من شي الا وفيه سنة يمضيها ) (۲۳) .
ومن هذه الاحاديث يستفاد ان ما عند الامام علي ( عليه السلام ) من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل ، واخذه من رسول الله ، ولذا امر النبي الكريم امته التمسك بهم والاخذ من علومهم والاقتداء بسيرتهم والاخذ من احاديثهم ، لان ما عندهم أوثق مما عند غيرهم فعلى جميع المسلمين ان ينقطعوا اليه في اخذ الفقه والأحكام الدينية والمعارف الإسلامية لا الى غيره ومن المؤسف انهم لم ينقطعوا جميعا اليه بل انقطعت طائفة خاصة خلفا عن سلف في ذلك اليه ، لذلك فهم من بين المسلمين يدينون لله ويتقربون اليه بمذهب اهل البيت لا غيرهم وقد اخذ الفروع والاصول عن كل واحد منهم جم من ثقات هذه الطائفة ، ورووا ذلك لمن بعدهم على سبيل التواتر القطعي ومن بعدهم رواه لمن بعده على هذا السبيل وهكذا كان الامر في كل جيل من الاجيال المتأخرة فالطائفة الامامية في الفروع والاصول على ما كان عليه الائمة ( عليه السلام ) من آل الرسول ، وقد اقتبسوها من نور ائمة الهدى من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) واغترفوها من بحورهم ، سمعوها من افواههم ، واخذوها من شفاههم ومن المؤسف انه ظهر في الأونة الاخيرة من يبادر الى تضعيف احاديث هذه الطائفة بحجة ان ما يرويه الامامية يرجع الى الضعفاء من الرواة مع ان كثيرا من اصحاب الحديث في هذه الطائفة من الموثقين المعتمد عليهم عند كثير من ابناء السنة كابان بن تغلب وغيره الى نحو مائة نفر وهنا تنبغي الاشارة الى امور :
الأول : ان الكتاب الذي الفه الامام علي ( عليه السلام ) باملاء رسول الله كان يسمى بالجامعة ويبلغ ستين ذراعا لما رواه ابو عبيدة (۲۴) قال : سال ابا عبد الله بعض اصحابنا عن الجفر ؟ فقال هو جلد ثور مملوء علما ، قال له فالجامعة ؟ قال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الاديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية الا وهي فيها حتى ارش الخدش (۲۵) .
الثاني : ان النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) أملى هذا العلم على علي بن ابي طالب فقط ولم يطلع في عصره غيره احد ، وأوصى اليه ان يكون هذا الكتاب بعده عند الائمة الاحد عشر ، وعمل الامام علي ( عليه السلام ) بما أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ايداعه بعده عند عترته وهم الائمة ( عليه السلام ) من بعده وكان كل واحد من الائمة ( عليه السلام ) يستحفظه السلف للخلف فيستودعه من انتهى اليه الامر .
الثالث : ان هذا الكتاب كان موجودا عند الائمة ( عليه السلام ) واراه الامامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) جماعة من اصحابهما الامامية وغيرهم من الجمهور ، لحصول الاطمئنان أو الاحتجاج على ما كانا يتفردان به من الفتاوى والاراء والنظريات عن سائر العلماء والفقهاء ، ويقسمان بالله انه املاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي بن ابي طالب .
الرابع : ان هذا الكتاب اشتهر في ذلك الوقت بكتاب علي ، وقد روى عنه البخاري في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب ( اثم من تبرأ من مواليه ) .
الخامس : ان هذا الكتاب لم يكن معروفا عند الخاصة فقط بل كان معروفا عند العامة في عهد الصادقين ( عليه السلام ) ، لانهما كثيرا ما يقولان في جواب استفتاأت الجمهور : ان في كتاب علي كذا ، كما جاء كذلك في جواب استفتاء غياث بن ابراهيم وطلحة بن زيد والسكوني وسفيان بن عيينة والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وغيرهم وكذا في جواب مسائل اصحابنا الامامية كزرارة ومحمد بن مسلم وعبد الله بن سنان وابن بكير وابي حمزة ونظائرهم (۲۶) .
الدور الثاني ـ دور البيان والتدوين :
بدأ هذا الدور على رأي الامامية من زمان التشريع الى زمان علي بن الحسين بن بابويه والد الصدوق (م۳۲۸) وشيخ الامامية الكليني (م۳۲۸) وابن قولويه (م۳۶۸) في ايام غيبته الصغرى الى أوائل الغيبة الكبرى في عام (۳۲۸) لصاحب الامر والزمان الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ولكن على راي العامة لم يدون الفقه والحديث الى أواسط هذا الدور وهو منتصف القرن الثاني ، ويظهر ذلك عند نقل كلماتهم في ذيل هذا الدور وقد كان بيان الفقه والحديث وتدوينه في هذا الدور من مهمة الصحابة والتابعين لحاجة المسلمين فيه الى من يجمع متفرقات الفقه والأحكام الدينية من مصدريهما الكتاب والسنة للرجوع اليها عند مشاكلهم الدينية والعلمية والاجتماعية والفردية وغيرها لانتها الدور الأول ، وهو دور التشريع بوفاة الرسول الاعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد كان المسلمون بعد وفاة الرسول الكريم يعملون بالكتاب والسنة النبوية من القول والفعل والتقرير ، وعند ابتلائهم بالمشاكل العملية والاجتماعية أو الفردية والمسائل الدينية والوقائع المستحدثة كانوا يرجعون في حلها الى الامام علي ( عليه السلام ) ، حيث كان باب علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا يرجعون الى سائر الصحابة الذين صحبوا النبي واخذوا عنه وفي هذا الدور كان الحديث وسنة النبي الكريم من اهم اسس التشريع بعد كتاب الله الذي جاء فيه : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (۲۷) وكيف كان فقد قام علي ( عليه السلام ) وتابعوه بهذا الدور خير قيام على حسب ما تقتضيه المصلحة ، وكان جمع من اتباعه قد حفظ السنة ونقلها الى الاجيال بعدهم بامانة وصدق ،حتى جا في ميزان الاعتدال (۲۸) : ( فهذا ، أي التشيع : كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الاثار النبوية ) .
ما يمتاز به فقه الخاصة :
ظهر مما تقدم ان الفقه الامامي يمتاز عن غيره بما ياتي :
۱ـ اشتماله على السعة والتكامل في فروعه ، والشمول والتحقيق والعمق في الاستدلال والدقة فيها حيث لم ير مثلها في فقه الاخرين وهذا بفضل ما تمتع به من الاجتهاد بمعناه الصحيح وهو استنباط الحكم من منابعه ومصادره الشرعية التي منها الكتاب والسنة ، ورد الفروع الجديدة الى الاصول ، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق الموجب للتوسع في دائرة التشريع من ناحية المصاديق لا من ناحية اصله ، لا بمعناه الباطل وهو استنباط الحكم من الراي والتفكر الشخصي الموجب للتوسع في دائرة اصل التشريع .
۲ـ سعة منابعه بفضل معطيات الامام وولده واتباعه الصادقين ذلك العطاء الذي استمر (۲۵۰) سنة بعد وفاة النبي الكريم .
۳ـ استناده بعد الكتاب الكريم الى السنة الماثورة من زمان حياة الرسول الاعظم وتشريع الفقه والأحكام الدينية بواسطة اهل بيت الوحي : الامام علي ( عليه السلام ) وأولاده واتباعه الصادقين وليس لغيره هذه الميزة في مدى اكثر من قرن ، ولذلك اضطر غير الامامية في استخراج الأحكام الدينية والفروع الفقهية الى التمسك بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا الى غير ذلك من الاسباب المخترعة غير المقبولة عند الشرع ، وذلك لقلة اخبارهم .
۴ـ نقاء مصدره الذي اخذ منه الفقه والحديث الذي كان يشكل الركيزة الاساس بعد كتاب الله تعالى لما تمتع به الامام علي وولده الصادقون الناقلون للسنة ووالمبينون للاحكام الدينية من العصمة عن الخطا والنسيان والغفلة والاثم ، ولم يكن هذا ثابتا لفقه الاخرين .
الخلاف في تدوين الفقه والحديث في هذا الدور :
قد وقع الخلاف في هذا الدور بين الصحابة والتابعين بعد وفاة النبي الاكرم في اباحة كتابة الحديث وعدمها على قولين :
الأول : الاباحة ، وهو الذي اختاره الامام علي وخلفه الامام الحسن السبط ( عليه السلام ) وجماعة من الصحابة كانس وعبد الله بن عمر .
الثاني : الكراهة ، واختاره عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة كعبد الله بن مسعود وابي سعيد الخدري .
وكان الامر على هذا المنوال عند اهل السنة الى أواسط القرن الثاني من الهجرة في آخر عصر التابعين وعند ذلك اجمع علماؤهم على لزوم جمعه لحفظ الحديث من الضياع والتلف ويظهر لك ذلك عند نقل كلمات المحدثين منهم كما يظهر الامر الذي صار سببا لتأخير كتابة الحديث عندهم اما الامام علي ( عليه السلام ) وتابعوه فقد تصدى لتدوين الفقه والحديث في هذا الدور ، كما تصدى لذلك في الدور الأول وما الفه الامامية في هذا الدور من الفقه والحديث عبارة عما ياتي :
۱ـ جمع القرآن :
أول شي دونه الامام علي ( عليه السلام ) كتاب الله الذي هو المصدر الأول للفقه ، فانه بعد فراغه من تجهيز النبي ( صلى الله عليه وآله ) آلى على نفسه ان لا يرتدي الا للصلاة أو يجمع القرآن حيث قال : لما قبض رسول الله اقسمت وحلفت ان لا اضع ردائي على ظهري حتى اجمع ما بين اللوحين فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن فجمعه مرتبا على حسب النزول واشار الى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، ونبه على اسباب نزول آياته البينات ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات وكان ابن سيرين يقول ـ على ما نقله عنه عن ابن حجر في صواعقه ـ : ( لو اصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم ) وقد عني غير واحد من قرا الصحابة بجمع القرآن ، غير انه لم يتسن لهم ان يجمعوه على تنزيله ، ولم يودعوه شيئا من الرموز التي سمعتها فاذن كان جمعه ( عليه السلام ) للتفسير اجمع وهو أول من جمع القرآن وفسره عن ابن عباس قال : ضمن الله لمحمد ان يجمع القرآن بعده علي بن ابي طالب فجمع القرآن في قلب علي بعد موت محمد رسول الله قال السيوطي في الاتقان : واما علي فروي عنه التفسير الكثير وقد روى معمر عن وهب بن عبد الله عن ابي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : سلوني فوالله لا تسالوني عن شي الا اخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية الا وانا اعلم ابليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل .
واخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال : ان القرآن انزل على سبعة احرف مامنها حرف الا وله ظهر وبطن ، وان علي بن ابي طالب عنده من الظاهر والباطن واخرج ايضا من طريق ابي بكر بن عباس عن نصير بن سليمان الاحمس عن ابنه عن علي قال : والله ما نزلت آية الا وقد علمت فيما نزلت واين نزلت ، ان ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا .
۲ـ مصحف فاطمة :
ان الامام علي ( عليه السلام ) بعد فراغه من كتاب الله الف لسيدة نساء العالمين كتابا كان يعرف عند ابنائها بمصحف فاطمة يتضمن امثالا وحكما ومواعظ وعبرا واخبار أو نوادر توجب لها العزاء عن ابيها قال العلامة الطهراني (۲۹) : مصحف فاطمة من ودائع الامامية عند مولانا وامامنا صاحب الزمان كما روي في عدة احاديث عن الائمة منها ما في بصائر الدرجات ، وقد حكى ذلك العلا مة المجلسي في أول البحار .
۳ـ كتاب الصحيفة :
ان الامام الف ايضا كتاب الديات وسماه بالصحيفة ، وقد ذكرها البخاري ومسلم ، ورويا عنها في عدة مواضع من صحيحهما ، كما روى عنها احمد بن حنبل في مسنده اقتداء ثلة من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) له في التاليف .
لقد اقتدى بالامام علي ( عليه السلام ) في هذا الدور ـ كما مر ـ ثلة من اتباعه فالفوا على عهده كتبا ولا باس بان نذكر بعضا منها :
۱ـ سلمان الفارسي : حيث انه الف على ما ذكره الشيخ في الفهرست كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى الخليفة لاخذ الجواب عن اسئلته التي وجهها اليه فيه ، وهو لم يقدر على الجواب وذهب سلمان الى الامام علي وقال له : يا علي ادرك امة محمد فذهب الى المسجد واجاب عنها .
۲ـ ابو ذر الغفاري : حيث انه الف كتابا يشتمل على الخطبة التي يشرح فيها الامور الواقعة بعد النبي الكريم ، وقد ذكره الشيخ في الفهرست وله ايضا كتاب وصايا النبي الذي شرحه العلامة المجلسي وسماه عين الحياة .
۳ـ ابو رافع مولى رسول الله وصاحب امير المؤمنين : حيث انه الف كتابا في السنن والأحكام والقضاء وجمعه من حديث علي خاصة .
۴ـ علي بن ابي رافع : له كتاب في الوضوء والصلاة وفنون الفقه على مذهب اهل البيت ، وهذا الكتاب كان من الكتب المهمة عند الائمة ( عليه السلام ) ، وكانوا يرجعون الشيعة اليه .
۵ـ ربيعة بن سميع : له كتاب في زكاة النعم من حديث علي عن رسول الله ، ذكره النجاشي في كتابه .
۶ـ عبد الله بن الحر الفارسي : له لمعة في الحديث جمعها عن علي عن رسول الله وغيرهم من المؤلفين وقد تصدى اصحابنا لذكر جميع من الف من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) ومن اراد الوقوف على ذلك بالتفصيل فليراجع فهارسهم ، كفهرست النجاشي ، ومنتهى المقال في احوال الرجال للشيخ ابي علي ، وتراجم رجالهم كمنهج المقال في تحقيق احوال الرجال وغيره .
واما عمر وتابعوه من الصحابة وغيرهم فلم يتصدوا لتدوين الفقه والحديث لا في الدور الأول من ادوار الفقه ولا في أوائل الدور الثاني من ادواره بل دونوه في أواسط الدور الثاني وهو منتصف القرن الثاني نعم أول من اراد من فقها السنة ان يكتب السنن ويدونها بعد وفاة الرسول هو عمر بن الخطاب ولكنه بعد ما استشار فيه الصحابة واشاروا اليه بفعله تردد واستخار الله شهرا فعزم الله له بتركه فتركه أو نهى عنه ، ولذلك لم يقدم احد من تابعيه والخلفاء من بعده على تدوينه وكتابته ، فبقيت السنة النبوية في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتى زمان خلافة عمر بن عبد العزيز ، فانه لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم وضياع الحديث وتلفه ، امر بتدوين الفقه والحديث وجمعه حيث كتب من الشام الى ابي بكر بن حزم وهو من كبار المحدثين بالمدينة :
( انظر من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاكتبه فانني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) (۳۰) ولكنه مات قبل حصول ذلك في راس المائة الثانية ولذلك لم يكن عند أخواننا السنة مجموعة في السنن والفقه والحديث الى منتصف القرن الثاني ولا بأس هنا ببيان كلمات المحدثين منهم حتى يظهر سبب تاخير كتابة الحديث عندهم ، واليك نص عباراتهم :
قال السيوطي : في تنوير الحوالك في شرح موطا مالك ( اخبرني عروة بن الزبير ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه اراد ان يكتب السنن واستشار فيها اصحاب رسول الله فاشار اليه عامتهم بذلك فلبث عمر بن الخطاب شهرا يستخير الله تعالى في ذلك شاكا فيه ثم اصبح يوما وقد عزم الله تعالى له فقال : اني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ماقد علمتم ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله واني والله لا البس كتاب الله شيئا فترك كتابة السنن ) .
قال ابن سعد في الطبقات : عن الزهري قال : ( اراد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ان يكتب السنن فاستخار الله شهرا ثم اصبح وقد عزم له فقال ذكرت قوما كتبوا كتابا فاقبلوا عليه وتركوا كتاب الله ) .
واخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعد عن عبد الله بن دينار قال : ( لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الحديث انما كانوا يؤدونه لفظا وياخذونه حفظا الا كتاب الصدقات والشي اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس واسرع في العلماء الموت فامر امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابا بكر الحضرمي فيما كتب اليه ان انظر ما كان من سنته أو حديث عمر فاكتبه ) وقال مالك في الموطا رواية محمد بن الحسن : ( حدثنا يحيى بن سعيد ان عمر بن عبد العزيز كتب الى ابي بكر محمد بن عمرو بن حزم : ان انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته أو حديث عمر أو نحو هذا فاكتبه لي فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) .
قال ابن حجر في المقدمة : ( اعلم ان آثار النبي لم تكن في عصر اصحابه وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لامرين احدهما : انهم كانوا في ابتداء الحال نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم خشية ان يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم وثانيهما : سعة حفظهم وسيلان اذهانهم ولان اكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الاثار وتدوين الاخبار لما انتشر العلماء في الامصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الاقدار .
ولا يخفى انه كما ترى يستظهر من كلام عمر بن الخطاب الذي تقدم ذكره في كلام السيوطي خصوصا من قوله : ( ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله عدم تجويزه كتابة السنن مطلقا لا في زمانه ولا فيما بعده للمحذور المذكور مع انه من الواضحات ان عدم الاهتمام بجمع السنن وكتابتها يوجب دروس الأحكام الدينية والعلم الذي هو الغاية والغرض من بعثة نبينا الكريم ، فهل كان بقاء السنن والفقه والحديث عند المسلمين بعد مضي قرون أو قرن ممكنا بدون الكتابة ام لا ؟ والجواب : لا ، مع العلم بان حفظ السنن وابقائها في الاسلام من اهم الواجبات عقلا وشرعا فان ما في الكتاب اي كتاب الله من شرائع الاسلام لم تذكر فيه الأحكام الدينية والمسائل الشرعية والمعارف الالهية الا على سبيل الجملة ، ومعرفتها على وجه التفصيل لا يمكن الا بالرجوع الى السنة النبوية ، فكان حفظها من اهم الواجبات ومن الواضح ان مع عدم كتابة السنن تقع معرضا للضياع والزوال والتلف ، ولذلك امر عمر بن عبد العزيز في أول القرن الثاني ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بكتابتها لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم .
ومن العجيب ان عمر بن الخطاب نسب ترك كتابة السنن والفقه والحديث الى عزم الله له مع ان حسنها غير خفي على احد بل كونها من اعظم الواجبات عقلا وشرعا ، فلعل الوجه في ذلك كان امرا آخر لم ير مصلحة في اظهاره ، واما المحذور الذي جافي كلام ابن حجر من كتابة السنن وهو خشية (اختلاط) الحديث بالقرآن ففيه ما لا يخفى .
ثم انهم ذكروا لعدم كتابة الحديث وجها آخر وهو ما نسبوه الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من قوله : لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (۳۱) .
وفي هذا الوجه ما لا يخفى من المناقشة والاشكال ، لان ما نسبوه الى رسول الله مما لا يقبله الجاهل فضلا عن العالم والباحث خصوصا بعد ثبوت امره الامام علي ( عليه السلام ) بكتابة جميع ما يصدر منه ( صلى الله عليه وآله ) فعلى ذلك لا يبقى مجال لتوجيه وتسويغ قول عمر بن الخطاب بان : ( من كتب حديثا فليحرقه ) بما نسبوه الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتحصل ان الاحاديث لم تكن عند اخواننا السنة الى منتصف القرن الثاني من الهجرة وعند ذلك اتفق علماؤهم على لزوم جمعها وتدوينها ، ولكن عند الامامية كانت مدونة باملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي ( عليه السلام ) وفيه جميع سنن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
الدور الأول : دور التشريع والبيان :
وقد بدأ هذا الدور من يوم بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مكة المكرمة حينما كان عمره أربعين سنة الى يوم وفاته في المدينة المنورة في عام ۲۳ بعد البعثة ، وكانت مدة هذا الدور ثلاثا وعشرين سنة وانتهى في العام العاشر من الهجرة ، حيث انه اقام في مكة المكرمة بعد ان بعثه الله تعالى الى عباده ما يقارب ثلاث عشرة سنة ثم هاجر منها الى المدينة المنورة ودخل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) فيها يوم الاثنين الحادي عشر من ربيع الأول بعد ان اختفى في الغار ثلاثة أيام وكانت هجرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مبدأ التاريخ الإسلامي الهجري القمري ، وبقي النبي في المدينة نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر المظفر عام احد عشر من الهجرة ، فكان مجموع هذا الدور هو ما اشرنا اليه .
ويعنينا من هذا ان نشير الى ان الفقه الإسلامي قد نشأ في هذا الدور تدريجا لا دفعة ، حيث ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يبلغ الفقه والأحكام الإلهية الى المسلمين دفعة واحدة بل كان بالتدريج ، لانه كان يواجه أتباعه بين فترة واخرى بالفقه الإسلامي والأحكام الإلهية التي أمره الله تعالى بابلاغها اليهم وكان أتباعه ايضا يراجعونه عند الحاجة لأخذ الأحكام الدينية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها بدون توسط أي إنسان وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يجيبهم أما من الكتاب ويشير اليه قوله تعالى : ( وهو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ) (۲) أو يجيبهم بالسنة من قوله أو فعله أو تقريره ( فان هذه تسمى في اصطلاح الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم بالسنة نقلا من معناها اللغوي الذي كان بمعنى الطريقة ) فالمسلمون كانوا في هذا الدور من ادوار الفقه الإسلامي في سعة من حيث تلقي الفقه لتلقيهم الفقه من الرسول الأعظم بخطاب شفهي مباشر .
نعم في هذا الدور كان يحيلهم احيانا الى علي ( عليه السلام ) وهم يراجعونه ويأخذون الجواب عنه .
وفي بعض الاحيان كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرسل اصحابه الى بعض المناطق الإسلامية لبيان المسائل الفقهية والأحكام الدينية كإرسال معاذ الى اليمن ولم يتجاوز الامر في الدور المشار اليه هذا الحد .
وهنا ينبغي التنبيه على أمور : الأول ـ في هذا الدور كان النبي يأمر كتابه أن يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي :
وامتثلوا أمره فكتبوا جميع ما أوحي اليه . الثاني ـ مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور :
المعروف ان مصدر الفقه والتشريع في هذا الدور هو الوحي المنزل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) لا غيره ومع ذلك فقد وقع الخلاف بين فقهاء المسلمين في اجتهاد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في مقام بيان الأحكام وعدمه .
ذهبت الامامية الى عدم كون أحكامه عن اجتهاد ووافقهم على هذه النظرية أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم ، وذهب كثير من فقهاء السنة الى جواز الاجتهاد في مقام بيان الأحكام ، ولكن وقع الخلاف بينهم في وقوعه وعدم وقوعه منه .
ذهب جماعة منهم الى وقوعه منه وهم الأكثر منهم العلامة سيف الدين الحنفي (م۶۳۱) والامدي صاحب الأحكام في اصول الأحكام وابن الحاجب جمال الدين عثمان المالكي (م۶۴۶) صاحب كتاب منتهى السؤال والامل وابن تيمية الحراني الحنبلي (م۷۲۷) وقال صاحب فيض الباري (۳) : ( ان النبي كان يجتهد عند الحاجة ) ، وذهب آخرون منهم الى التوقف عن القول بوقوع الاجتهاد منه ، منهم العلامة ابو حامد محمد الغزالي (م۵۰۵) وفخر الرازي ، وخص بعض اهل السنة محل البحث بما يتعلق بامر الحروب ونحوها لا الأحكام الشرعية لعدم جواز الاجتهاد للنبي فيها ، ولكن قال ابن همام : ( ان الرسول مأمور بالاجتهاد مطلقا في الأحكام الشرعية والحروب والامور الدنيوية من دون تقييد بشي منها ) ولكن الحق انه لم يصدر من النبي حكم من الأحكام الشرعية باجتهاده لان مصدر الفقه والتشريع هو الله لا غيره .
أما أولا : فلوجود الآيات المتنوعة في القرآن الكريم على خلافه .
منها : ( وما ينطق عن الهوى ، ان هو الا وحي يوحى ) (۴) .
ومنها : ( ان اتبع الا ما يوحى الي ) (۵) .
ومنها: ( ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لاخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ) (۶) .
ومنها : آية المجادلة الواردة في قضية الظهار الذي لم ينزل حكمه الى اربعين يوما وهي : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير ) (۷) .
ومنها : ( قل لا أجد فيما أوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم ) (۸) .
وأما ثانيا : فلعدم الاحتياج اليه لا في مكة المكرمة ولا في المدينة المنورة ، اما في مكة المكرمة فلان الايات نزلت فيها وتقرب من ثلثي القرآن وسميت مكية وهي في مجموعها لا تكاد تتعرض لشئ من الأحكام بل تقتصر على الأصول الاعتيادية كالإيمان بالله ورسوله والمعاد ومحاربة الشرك والإلحاد والأمر بالمعروف والاتصاف بالصفات الخلقية ، والنهي عن الأعمال السيئة والتطفيف في الكيل والميزان ونظائر ذلك .
وأما في المدينة المنورة فلان الايات التي نزلت فيها وتقرب من ثلث القرآن وسميت مدنية وان كانت تتعرض للاحكام ، الا انها كانت تنزل تدريجا ، وكان الرسول ايضا يتحدث بها وبما تنطوي عليه من الأحكام المتعلقة بالحوادث والوقائع والمعالجة لما يحصل من مشاكل في ابعاد الحياة تدريجا حتى كمل التشريع .
ومهما يكن من امر فلا شارع سوى الله ولا حكم الا ما حكم الله به فأساس التشريع هو الله ( ان الحكم الا للّه ) (۹) واذا اطلق في بعض عبارات الفقهاء على النبي الكريم اسم الشارع فما كان ذلك الا تجوزا بلحاظ انه المبلغ عنه واذا كان ابو اسحاق ابراهيم الشاطبي الغرناطي (م ۷۹۰) صاحب كتاب الموافقات قد سمى عمل المجتهد في بعض المواضيع تشريعا فما كان ذلك منه الا تساهلا فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) كاشف للتشريع ومظهر له لا انه مشرع فسلطنة التشريع له ولم يفوضه الى احد من عباده ، لا الى رسوله ولا الى الإسلامي ولا الى مجتهد ، فلا يجوز لهم ان يشرعوا للعباد من الأحكام ما يريدون وان يحكموا بينهم بما يرون من عند انفسهم ، والنبي الكريم نزل عليه الوحي في الامور كلها حتى بالنسبة الى ارش الخدش ولم يكن محتاجا في بيان احكام المسائل الى الاجتهاد .
وكيف كان فنحن فصلنا الكلام عن عدم اجتهاد النبي في مقام بيان الأحكام ومن احب الاطلاع عليه فليراجع كتابنا ( ادوار الاجتهاد على ضوء المذاهب الإسلامية ) .
ومن المناسب هنا ذكر ما دل من الاحايث على تطهير التشريع من طرف الله في زمان النبي يقول رسول الله في ضمن حديث لسعد بن عبادة : ( ان الله عز وجل قد جعل لكل شي حدا وجعل لمن تعدى ذلك الحد حدا ) (۱۰) .
ونحوه في موثق سماعة عن الصادق ( عليه السلام ) : ( ان لكل شي حدا ومن تعدى ذلك الحد كان له حد (۱۱) وفي الاية : ( ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) (۱۲) .
وفي رواية موثقة أخرى : ( كل شي في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه قال بل كل شي في كتاب الله وسنة نبيه ) (۱۳) . الثالث ـ زمان الوحي ومكانه :
كان زمان الوحي في ۲۷ رجب المرجب عند الخاصة وفي ۱۷ من شهر رمضان عند العامة ، ونزل الوحي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في الموضع الذي كان محل عبادته بضواحي مكة المكرمة في غار حراء ، فقال له : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الاكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ) (۱۴) ، فارتعدت فرائصه ورجفت جوانبه وعاد الى اهله قائلا : زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الفزع والروع .
الرابع ـ كيفية دعوة النبي :
كانت دعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) سرا بعد بعثته الى مدة ثلاث سنوات وبعدها جهر بها لامره تعالى به بقوله : ( فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين ، انا كفيناك المستهزئين ) (۱۵) واستمرت دعوته نحو ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة كما اشرنا اليه وقد نزل عليه من القرآن فيها ما يقارب ثلثيه ، ثم ذهب الى الطائف بعد بعثته بعشر سنين ، وفي سنة ۱۱ من بعثته وقع الاسراء والمعراج وفي سنة ۱۳ هاجر من مكة المكرمة الى المدينة المنورة وبقي فيها نحو عشر سنين ، ثم دعي فلبى الدعوة في ۲۸ من شهر صفر المظفر كما اشرنا اليه في صدر المبحث .
الخامس ـ تدوين الفقه والشريعة :
كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يأمر كتابه ان يدونوا بين يديه ما يتلقاه من الوحي الإلهي وامتثلوا أمره وكان القرآن الكريم ينزل عليه من عند الله شيئا فشيئا في ظروف مناسبة حتى اكتمل خلال ثلاث وعشرين سنة ثم ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد نصب وصيه بأمر من الله تعالى بالاية المباركة : ( يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدي القوم الكافرين ) (۱۶) .
فكمل الدين وانقطع الوحي بالاية الشريفة : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (۱۷) وكان نزول هذه الاية في حجة الوداع قبل وفاة الرسول بثلاثة أشهر ولم تنزل بعدها آية من آيات الأحكام .
السادس ـ إطلاق كلمة الفقه في هذا الدور والمرحلة :
كانت كلمة ( الفقه ) في هذا الدور تطلق على فهم الأحكام الشرعية جميعها ، أي فهم كل ما شرعه الله لعباده من الأحكام سواء كانت متعلقة بأصول العقائد أو بالفروع أو بالأخلاق أو بالقوانين وغيرها فكان اسم الفقه في ذلك العهد متناولا لجميع هذه المسائل على السواء ولم يكن مختصا بواحدة منها وكان مرادفا في هذه المرحلة لكلمات : شريعة ، شرعة ، شرع ، دين ، التي كان يفهم من كل منها أصول العقائد والفروع العملية وما يرتبط بهما ثم تغير هذا الاستعمال وانشاء اصطلاح للفقهاء والاصوليين باختصاصه بالفروع الشرعية والأحكام الدينية .
السابع ـ كلمة الفقيه في هذا الدور :
لم تكن كلمة ( الفقيه ) تطلق في هذا الدور على من عرف الأحكام الشرعية وانما كانت تطلق كلمة ( القارئ ) على من حفظ آيات من القرآن الكريم أو عرف معانيها وناسخها ومنسوخها ومتشابهها ومحكمها خاصها وعامها ومقيدها ومطلقها ففي هذا الدور كانوا يسمون الفقهاء بالقراء أي الذين يقرؤون الكتاب باعتبار ان هذا امر يميزهم عن عامة الناس لانتشار الأمية فيما بينهم ، ولما كمل علم الفقه بابعاده المختلفة في المدينة المنورة أبدلت اسماؤهم بالفقهاء .
الثامن ـ إطلاق كلمة الفقه على نفس الأحكام :
اسم الفقه كما كان يطلق على فهم الأحكام الشرعية كان يطلق على الأحكام نفسها ، ومن ذلك قوله : ( رب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه ) ، ويرشدنا الى هذا المعنى ما افاده بعض من ان الفقه هو : معرفة النفس ما لها وما عليها ، وما هذه المعرفة الا معرفة احكام الله بنوعيها ، ثم تقيد هذا الاستعمال ودخل التخصيص على اسم الفقه ونشاء اصطلاح جديد له عند الاصوليين والفقهاء .
ولفظ الفقه من المصادر التي تؤدي معناها ، وكثيرا ما يرادفها متعلق معناها كالعلم بمعنى المعلوم والعدل بمعنى العادل .
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في أول شرح نهج البلاغة : ( ان واضع تمام العلوم الإسلامية هو علي ( عليه السلام ) ، وهو أول من دون الحديث وكتب جميع الحقائق التي جرت على لسان النبي ) .
التاسع ـ مدة نشر الفقه في هذا الدور :
كانت مدة نشر الفقه والأحكام الدينية والأخلاقية وغيرها في هذا الدور في المدينة المنورة كما أشير اليه ، عشر سنوات ونزل فيها من القرآن ما يقارب ثلثيه ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذه المدة يبين لهم الحلال والحرام ويرشدهم الى المعارف الالهية والأحكام الدينية والآداب الإسلامية ، ويشرح لهم ما تحتاج اليه الامة ، ولم يترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) في هذا الدور في المدينة المنورة صغيرة أو كبيرة الا وبين حكمها حتى ارش الخدش وكان الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) يكتب جميع ما يصدر عن الرسول الأعظم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله ) سواء ما يتعلق بتفسير القرآن أو ما يتعلق بالسنة أو غيرهما بل ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أملى عليه جميع الشرائع والأحكام ، وأمر بكتابته وحفظه وتسليمه الى الائمة من ولده ، فكتبه ( عليه السلام ) بخطه وأودعه عند أهله والأخبار بذلك كثيرة ، ولا باس بذكر بعضها من باب التيمن والتبرك ، منها :
۱ـ ما اخرجه الحموي بسنده عن الإمام الباقر( عليه السلام ) عن ابيه عن جده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول الله : يا علي اكتب ما أملي عليك ، قلت : يا رسول الله أتخاف علي النسيان ؟ قال : لا وقد دعوت الله عز وجل ان يجعلك حافظا ، ولكن اكتب لشركائك الائمة من ولدك بهم تسقى أمتي الغيث وبهم يستجاب دعاؤهم وبهم يصرف الله عن الناس البلاء وبهم تنزل الرحمة من السماء وهذا أولهم وأشار الى الحسن ( عليه السلام ) ثم قال : وهذا ثانيهم وأشار الى الحسين ( عليه السلام ) ، قال : والائمة من ولده (۱۸) .
۲ـ ما رواه قيس الهلالي وفيه قول علي ( عليه السلام ) : ( وإذا أتاني ( رسول الله ) للخلوة معي في منزلي ، لم تقم عني فاطمة ولا احد من بني ، وكنت اذا سألته أجابني وإذا سكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله آية من القرآن الا أقرانيها وأملاها علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها ) (۱۹) .
۳ـ ما رواه علي بن خنيس عن ابي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ( ان الكتب كانت عند علي فلما سار الى العراق استودع الكتب أم سلمة فلما مضى ( عليه السلام ) كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند ابي ) (۲۰) .
۴ـ ما رواه عبد الملك قال : ( دعا ابو جعفر بكتاب علي ( عليه السلام ) فجاء به جعفر ( عليه السلام ) مثل فخذ الرجل مطويا فاذا فيه ان النساء ليس لهن من عقار الرجل اذا هو توفي عنها شئ ، فقال ابو جعفر : هذا والله املاء رسول الله وخطه علي بيده ) (۲۱) .
۵ـ ما رواه عذافر الصيرفي قال : ( كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر( عليه السلام ) فجعل يسأله وكان أبو جعفر له مكرما فاختلفا في شي فقال أبو جعفر : يا بني قم فاخرج كتاب علي فاخرج كتابا مدروجا عظيما ففتحه وجعل ينظر حتى اخرج المسالة فقال ابو جعفر : هذا خط علي ( عليه السلام ) وأملاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) واقبل على الحكم وقال : يا ابا محمد اذهب انت وسلمة وابو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا فوالله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل ) (۲۲) .
۶ـ ما رواه محمد بن مسلم قال سالته عن ميراث العلم ما بلغ اجوامع هو من العلم أم يفسر كل شي من هذه الامور التي يتكلم فيها الناس من الطلاق والفرائض فقال ( عليه السلام ) : ( ان عليا ( عليه السلام ) كتب العلم كله والفرائض فلو ظهر امرنا لم يكن من شي الا وفيه سنة يمضيها ) (۲۳) .
ومن هذه الاحاديث يستفاد ان ما عند الامام علي ( عليه السلام ) من علم الحلال والحرام والشرائع والأحكام نزل به جبرئيل ، واخذه من رسول الله ، ولذا امر النبي الكريم امته التمسك بهم والاخذ من علومهم والاقتداء بسيرتهم والاخذ من احاديثهم ، لان ما عندهم أوثق مما عند غيرهم فعلى جميع المسلمين ان ينقطعوا اليه في اخذ الفقه والأحكام الدينية والمعارف الإسلامية لا الى غيره ومن المؤسف انهم لم ينقطعوا جميعا اليه بل انقطعت طائفة خاصة خلفا عن سلف في ذلك اليه ، لذلك فهم من بين المسلمين يدينون لله ويتقربون اليه بمذهب اهل البيت لا غيرهم وقد اخذ الفروع والاصول عن كل واحد منهم جم من ثقات هذه الطائفة ، ورووا ذلك لمن بعدهم على سبيل التواتر القطعي ومن بعدهم رواه لمن بعده على هذا السبيل وهكذا كان الامر في كل جيل من الاجيال المتأخرة فالطائفة الامامية في الفروع والاصول على ما كان عليه الائمة ( عليه السلام ) من آل الرسول ، وقد اقتبسوها من نور ائمة الهدى من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) واغترفوها من بحورهم ، سمعوها من افواههم ، واخذوها من شفاههم ومن المؤسف انه ظهر في الأونة الاخيرة من يبادر الى تضعيف احاديث هذه الطائفة بحجة ان ما يرويه الامامية يرجع الى الضعفاء من الرواة مع ان كثيرا من اصحاب الحديث في هذه الطائفة من الموثقين المعتمد عليهم عند كثير من ابناء السنة كابان بن تغلب وغيره الى نحو مائة نفر وهنا تنبغي الاشارة الى امور :
الأول : ان الكتاب الذي الفه الامام علي ( عليه السلام ) باملاء رسول الله كان يسمى بالجامعة ويبلغ ستين ذراعا لما رواه ابو عبيدة (۲۴) قال : سال ابا عبد الله بعض اصحابنا عن الجفر ؟ فقال هو جلد ثور مملوء علما ، قال له فالجامعة ؟ قال تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الاديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية الا وهي فيها حتى ارش الخدش (۲۵) .
الثاني : ان النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله ) أملى هذا العلم على علي بن ابي طالب فقط ولم يطلع في عصره غيره احد ، وأوصى اليه ان يكون هذا الكتاب بعده عند الائمة الاحد عشر ، وعمل الامام علي ( عليه السلام ) بما أوصى به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ايداعه بعده عند عترته وهم الائمة ( عليه السلام ) من بعده وكان كل واحد من الائمة ( عليه السلام ) يستحفظه السلف للخلف فيستودعه من انتهى اليه الامر .
الثالث : ان هذا الكتاب كان موجودا عند الائمة ( عليه السلام ) واراه الامامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) جماعة من اصحابهما الامامية وغيرهم من الجمهور ، لحصول الاطمئنان أو الاحتجاج على ما كانا يتفردان به من الفتاوى والاراء والنظريات عن سائر العلماء والفقهاء ، ويقسمان بالله انه املاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي بن ابي طالب .
الرابع : ان هذا الكتاب اشتهر في ذلك الوقت بكتاب علي ، وقد روى عنه البخاري في صحيحه في باب كتابة الحديث وباب ( اثم من تبرأ من مواليه ) .
الخامس : ان هذا الكتاب لم يكن معروفا عند الخاصة فقط بل كان معروفا عند العامة في عهد الصادقين ( عليه السلام ) ، لانهما كثيرا ما يقولان في جواب استفتاأت الجمهور : ان في كتاب علي كذا ، كما جاء كذلك في جواب استفتاء غياث بن ابراهيم وطلحة بن زيد والسكوني وسفيان بن عيينة والحكم بن عتيبة ويحيى بن سعيد وغيرهم وكذا في جواب مسائل اصحابنا الامامية كزرارة ومحمد بن مسلم وعبد الله بن سنان وابن بكير وابي حمزة ونظائرهم (۲۶) .
الدور الثاني ـ دور البيان والتدوين :
بدأ هذا الدور على رأي الامامية من زمان التشريع الى زمان علي بن الحسين بن بابويه والد الصدوق (م۳۲۸) وشيخ الامامية الكليني (م۳۲۸) وابن قولويه (م۳۶۸) في ايام غيبته الصغرى الى أوائل الغيبة الكبرى في عام (۳۲۸) لصاحب الامر والزمان الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، ولكن على راي العامة لم يدون الفقه والحديث الى أواسط هذا الدور وهو منتصف القرن الثاني ، ويظهر ذلك عند نقل كلماتهم في ذيل هذا الدور وقد كان بيان الفقه والحديث وتدوينه في هذا الدور من مهمة الصحابة والتابعين لحاجة المسلمين فيه الى من يجمع متفرقات الفقه والأحكام الدينية من مصدريهما الكتاب والسنة للرجوع اليها عند مشاكلهم الدينية والعلمية والاجتماعية والفردية وغيرها لانتها الدور الأول ، وهو دور التشريع بوفاة الرسول الاعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وقد كان المسلمون بعد وفاة الرسول الكريم يعملون بالكتاب والسنة النبوية من القول والفعل والتقرير ، وعند ابتلائهم بالمشاكل العملية والاجتماعية أو الفردية والمسائل الدينية والوقائع المستحدثة كانوا يرجعون في حلها الى الامام علي ( عليه السلام ) ، حيث كان باب علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا يرجعون الى سائر الصحابة الذين صحبوا النبي واخذوا عنه وفي هذا الدور كان الحديث وسنة النبي الكريم من اهم اسس التشريع بعد كتاب الله الذي جاء فيه : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (۲۷) وكيف كان فقد قام علي ( عليه السلام ) وتابعوه بهذا الدور خير قيام على حسب ما تقتضيه المصلحة ، وكان جمع من اتباعه قد حفظ السنة ونقلها الى الاجيال بعدهم بامانة وصدق ،حتى جا في ميزان الاعتدال (۲۸) : ( فهذا ، أي التشيع : كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو رد حديث هؤلاء لذهبت جملة الاثار النبوية ) .
ما يمتاز به فقه الخاصة :
ظهر مما تقدم ان الفقه الامامي يمتاز عن غيره بما ياتي :
۱ـ اشتماله على السعة والتكامل في فروعه ، والشمول والتحقيق والعمق في الاستدلال والدقة فيها حيث لم ير مثلها في فقه الاخرين وهذا بفضل ما تمتع به من الاجتهاد بمعناه الصحيح وهو استنباط الحكم من منابعه ومصادره الشرعية التي منها الكتاب والسنة ، ورد الفروع الجديدة الى الاصول ، وتطبيق القواعد الكلية على المصاديق الموجب للتوسع في دائرة التشريع من ناحية المصاديق لا من ناحية اصله ، لا بمعناه الباطل وهو استنباط الحكم من الراي والتفكر الشخصي الموجب للتوسع في دائرة اصل التشريع .
۲ـ سعة منابعه بفضل معطيات الامام وولده واتباعه الصادقين ذلك العطاء الذي استمر (۲۵۰) سنة بعد وفاة النبي الكريم .
۳ـ استناده بعد الكتاب الكريم الى السنة الماثورة من زمان حياة الرسول الاعظم وتشريع الفقه والأحكام الدينية بواسطة اهل بيت الوحي : الامام علي ( عليه السلام ) وأولاده واتباعه الصادقين وليس لغيره هذه الميزة في مدى اكثر من قرن ، ولذلك اضطر غير الامامية في استخراج الأحكام الدينية والفروع الفقهية الى التمسك بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وشرع من قبلنا الى غير ذلك من الاسباب المخترعة غير المقبولة عند الشرع ، وذلك لقلة اخبارهم .
۴ـ نقاء مصدره الذي اخذ منه الفقه والحديث الذي كان يشكل الركيزة الاساس بعد كتاب الله تعالى لما تمتع به الامام علي وولده الصادقون الناقلون للسنة ووالمبينون للاحكام الدينية من العصمة عن الخطا والنسيان والغفلة والاثم ، ولم يكن هذا ثابتا لفقه الاخرين .
الخلاف في تدوين الفقه والحديث في هذا الدور :
قد وقع الخلاف في هذا الدور بين الصحابة والتابعين بعد وفاة النبي الاكرم في اباحة كتابة الحديث وعدمها على قولين :
الأول : الاباحة ، وهو الذي اختاره الامام علي وخلفه الامام الحسن السبط ( عليه السلام ) وجماعة من الصحابة كانس وعبد الله بن عمر .
الثاني : الكراهة ، واختاره عمر بن الخطاب وجماعة من الصحابة كعبد الله بن مسعود وابي سعيد الخدري .
وكان الامر على هذا المنوال عند اهل السنة الى أواسط القرن الثاني من الهجرة في آخر عصر التابعين وعند ذلك اجمع علماؤهم على لزوم جمعه لحفظ الحديث من الضياع والتلف ويظهر لك ذلك عند نقل كلمات المحدثين منهم كما يظهر الامر الذي صار سببا لتأخير كتابة الحديث عندهم اما الامام علي ( عليه السلام ) وتابعوه فقد تصدى لتدوين الفقه والحديث في هذا الدور ، كما تصدى لذلك في الدور الأول وما الفه الامامية في هذا الدور من الفقه والحديث عبارة عما ياتي :
۱ـ جمع القرآن :
أول شي دونه الامام علي ( عليه السلام ) كتاب الله الذي هو المصدر الأول للفقه ، فانه بعد فراغه من تجهيز النبي ( صلى الله عليه وآله ) آلى على نفسه ان لا يرتدي الا للصلاة أو يجمع القرآن حيث قال : لما قبض رسول الله اقسمت وحلفت ان لا اضع ردائي على ظهري حتى اجمع ما بين اللوحين فما وضعت ردائي حتى جمعت القرآن فجمعه مرتبا على حسب النزول واشار الى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، ونبه على اسباب نزول آياته البينات ، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات وكان ابن سيرين يقول ـ على ما نقله عنه عن ابن حجر في صواعقه ـ : ( لو اصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم ) وقد عني غير واحد من قرا الصحابة بجمع القرآن ، غير انه لم يتسن لهم ان يجمعوه على تنزيله ، ولم يودعوه شيئا من الرموز التي سمعتها فاذن كان جمعه ( عليه السلام ) للتفسير اجمع وهو أول من جمع القرآن وفسره عن ابن عباس قال : ضمن الله لمحمد ان يجمع القرآن بعده علي بن ابي طالب فجمع القرآن في قلب علي بعد موت محمد رسول الله قال السيوطي في الاتقان : واما علي فروي عنه التفسير الكثير وقد روى معمر عن وهب بن عبد الله عن ابي الطفيل قال : شهدت عليا يخطب وهو يقول : سلوني فوالله لا تسالوني عن شي الا اخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية الا وانا اعلم ابليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل .
واخرج ابو نعيم في الحلية عن ابن مسعود قال : ان القرآن انزل على سبعة احرف مامنها حرف الا وله ظهر وبطن ، وان علي بن ابي طالب عنده من الظاهر والباطن واخرج ايضا من طريق ابي بكر بن عباس عن نصير بن سليمان الاحمس عن ابنه عن علي قال : والله ما نزلت آية الا وقد علمت فيما نزلت واين نزلت ، ان ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا .
۲ـ مصحف فاطمة :
ان الامام علي ( عليه السلام ) بعد فراغه من كتاب الله الف لسيدة نساء العالمين كتابا كان يعرف عند ابنائها بمصحف فاطمة يتضمن امثالا وحكما ومواعظ وعبرا واخبار أو نوادر توجب لها العزاء عن ابيها قال العلامة الطهراني (۲۹) : مصحف فاطمة من ودائع الامامية عند مولانا وامامنا صاحب الزمان كما روي في عدة احاديث عن الائمة منها ما في بصائر الدرجات ، وقد حكى ذلك العلا مة المجلسي في أول البحار .
۳ـ كتاب الصحيفة :
ان الامام الف ايضا كتاب الديات وسماه بالصحيفة ، وقد ذكرها البخاري ومسلم ، ورويا عنها في عدة مواضع من صحيحهما ، كما روى عنها احمد بن حنبل في مسنده اقتداء ثلة من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) له في التاليف .
لقد اقتدى بالامام علي ( عليه السلام ) في هذا الدور ـ كما مر ـ ثلة من اتباعه فالفوا على عهده كتبا ولا باس بان نذكر بعضا منها :
۱ـ سلمان الفارسي : حيث انه الف على ما ذكره الشيخ في الفهرست كتاب حديث الجاثليق الرومي الذي بعثه ملك الروم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الى الخليفة لاخذ الجواب عن اسئلته التي وجهها اليه فيه ، وهو لم يقدر على الجواب وذهب سلمان الى الامام علي وقال له : يا علي ادرك امة محمد فذهب الى المسجد واجاب عنها .
۲ـ ابو ذر الغفاري : حيث انه الف كتابا يشتمل على الخطبة التي يشرح فيها الامور الواقعة بعد النبي الكريم ، وقد ذكره الشيخ في الفهرست وله ايضا كتاب وصايا النبي الذي شرحه العلامة المجلسي وسماه عين الحياة .
۳ـ ابو رافع مولى رسول الله وصاحب امير المؤمنين : حيث انه الف كتابا في السنن والأحكام والقضاء وجمعه من حديث علي خاصة .
۴ـ علي بن ابي رافع : له كتاب في الوضوء والصلاة وفنون الفقه على مذهب اهل البيت ، وهذا الكتاب كان من الكتب المهمة عند الائمة ( عليه السلام ) ، وكانوا يرجعون الشيعة اليه .
۵ـ ربيعة بن سميع : له كتاب في زكاة النعم من حديث علي عن رسول الله ، ذكره النجاشي في كتابه .
۶ـ عبد الله بن الحر الفارسي : له لمعة في الحديث جمعها عن علي عن رسول الله وغيرهم من المؤلفين وقد تصدى اصحابنا لذكر جميع من الف من تابعي الامام علي ( عليه السلام ) ومن اراد الوقوف على ذلك بالتفصيل فليراجع فهارسهم ، كفهرست النجاشي ، ومنتهى المقال في احوال الرجال للشيخ ابي علي ، وتراجم رجالهم كمنهج المقال في تحقيق احوال الرجال وغيره .
واما عمر وتابعوه من الصحابة وغيرهم فلم يتصدوا لتدوين الفقه والحديث لا في الدور الأول من ادوار الفقه ولا في أوائل الدور الثاني من ادواره بل دونوه في أواسط الدور الثاني وهو منتصف القرن الثاني نعم أول من اراد من فقها السنة ان يكتب السنن ويدونها بعد وفاة الرسول هو عمر بن الخطاب ولكنه بعد ما استشار فيه الصحابة واشاروا اليه بفعله تردد واستخار الله شهرا فعزم الله له بتركه فتركه أو نهى عنه ، ولذلك لم يقدم احد من تابعيه والخلفاء من بعده على تدوينه وكتابته ، فبقيت السنة النبوية في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتى زمان خلافة عمر بن عبد العزيز ، فانه لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم وضياع الحديث وتلفه ، امر بتدوين الفقه والحديث وجمعه حيث كتب من الشام الى ابي بكر بن حزم وهو من كبار المحدثين بالمدينة :
( انظر من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاكتبه فانني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) (۳۰) ولكنه مات قبل حصول ذلك في راس المائة الثانية ولذلك لم يكن عند أخواننا السنة مجموعة في السنن والفقه والحديث الى منتصف القرن الثاني ولا بأس هنا ببيان كلمات المحدثين منهم حتى يظهر سبب تاخير كتابة الحديث عندهم ، واليك نص عباراتهم :
قال السيوطي : في تنوير الحوالك في شرح موطا مالك ( اخبرني عروة بن الزبير ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه اراد ان يكتب السنن واستشار فيها اصحاب رسول الله فاشار اليه عامتهم بذلك فلبث عمر بن الخطاب شهرا يستخير الله تعالى في ذلك شاكا فيه ثم اصبح يوما وقد عزم الله تعالى له فقال : اني كنت ذكرت لكم من كتابة السنن ماقد علمتم ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله واني والله لا البس كتاب الله شيئا فترك كتابة السنن ) .
قال ابن سعد في الطبقات : عن الزهري قال : ( اراد عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه ان يكتب السنن فاستخار الله شهرا ثم اصبح وقد عزم له فقال ذكرت قوما كتبوا كتابا فاقبلوا عليه وتركوا كتاب الله ) .
واخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعد عن عبد الله بن دينار قال : ( لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الحديث انما كانوا يؤدونه لفظا وياخذونه حفظا الا كتاب الصدقات والشي اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس واسرع في العلماء الموت فامر امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابا بكر الحضرمي فيما كتب اليه ان انظر ما كان من سنته أو حديث عمر فاكتبه ) وقال مالك في الموطا رواية محمد بن الحسن : ( حدثنا يحيى بن سعيد ان عمر بن عبد العزيز كتب الى ابي بكر محمد بن عمرو بن حزم : ان انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنته أو حديث عمر أو نحو هذا فاكتبه لي فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ) .
قال ابن حجر في المقدمة : ( اعلم ان آثار النبي لم تكن في عصر اصحابه وكبار تابعيهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لامرين احدهما : انهم كانوا في ابتداء الحال نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم خشية ان يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم وثانيهما : سعة حفظهم وسيلان اذهانهم ولان اكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الاثار وتدوين الاخبار لما انتشر العلماء في الامصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الاقدار .
ولا يخفى انه كما ترى يستظهر من كلام عمر بن الخطاب الذي تقدم ذكره في كلام السيوطي خصوصا من قوله : ( ثم تذكرت فاذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتبا فاكبوا عليها وتركوا كتاب الله عدم تجويزه كتابة السنن مطلقا لا في زمانه ولا فيما بعده للمحذور المذكور مع انه من الواضحات ان عدم الاهتمام بجمع السنن وكتابتها يوجب دروس الأحكام الدينية والعلم الذي هو الغاية والغرض من بعثة نبينا الكريم ، فهل كان بقاء السنن والفقه والحديث عند المسلمين بعد مضي قرون أو قرن ممكنا بدون الكتابة ام لا ؟ والجواب : لا ، مع العلم بان حفظ السنن وابقائها في الاسلام من اهم الواجبات عقلا وشرعا فان ما في الكتاب اي كتاب الله من شرائع الاسلام لم تذكر فيه الأحكام الدينية والمسائل الشرعية والمعارف الالهية الا على سبيل الجملة ، ومعرفتها على وجه التفصيل لا يمكن الا بالرجوع الى السنة النبوية ، فكان حفظها من اهم الواجبات ومن الواضح ان مع عدم كتابة السنن تقع معرضا للضياع والزوال والتلف ، ولذلك امر عمر بن عبد العزيز في أول القرن الثاني ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بكتابتها لما راى موت العلماء وخاف دروس العلم .
ومن العجيب ان عمر بن الخطاب نسب ترك كتابة السنن والفقه والحديث الى عزم الله له مع ان حسنها غير خفي على احد بل كونها من اعظم الواجبات عقلا وشرعا ، فلعل الوجه في ذلك كان امرا آخر لم ير مصلحة في اظهاره ، واما المحذور الذي جافي كلام ابن حجر من كتابة السنن وهو خشية (اختلاط) الحديث بالقرآن ففيه ما لا يخفى .
ثم انهم ذكروا لعدم كتابة الحديث وجها آخر وهو ما نسبوه الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : من قوله : لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (۳۱) .
وفي هذا الوجه ما لا يخفى من المناقشة والاشكال ، لان ما نسبوه الى رسول الله مما لا يقبله الجاهل فضلا عن العالم والباحث خصوصا بعد ثبوت امره الامام علي ( عليه السلام ) بكتابة جميع ما يصدر منه ( صلى الله عليه وآله ) فعلى ذلك لا يبقى مجال لتوجيه وتسويغ قول عمر بن الخطاب بان : ( من كتب حديثا فليحرقه ) بما نسبوه الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فتحصل ان الاحاديث لم تكن عند اخواننا السنة الى منتصف القرن الثاني من الهجرة وعند ذلك اتفق علماؤهم على لزوم جمعها وتدوينها ، ولكن عند الامامية كانت مدونة باملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخط علي ( عليه السلام ) وفيه جميع سنن النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
تعليق