بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقدمة
يمثّل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الحلقة الحادية عشرة من سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وهو آخر إمام عاش بين الناس بصورة ظاهرة قبل غيبة ابنه الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف). وقد عاصر الإمام العسكري فترة من أشد الفترات قسوة واضطهادًا، حيث فرضت الدولة العباسية عليه رقابة صارمة، وأقامت حوله حواجز أمنية مشددة خشية أن يولد الإمام المنتظر الذي بشّرت به النصوص الإسلامية.
إنّ التمهيد لمرحلة الغيبة لم يكن حدثًا عفويًا أو طارئًا، بل كان مشروعًا إلهيًا متكاملاً أدار دفته الإمام العسكري (عليه السلام) بحكمة وبُعد نظر. وفي هذا البحث سنتناول أبرز معالم هذا الدور من خلال محاور متكاملة.
المحور الأول: التمهيد العقدي لفكرة الغيبة
كان من أهم ما قام به الإمام العسكري (عليه السلام) هو إعداد الأمة الإسلامية لتقبّل فكرة غياب الإمام عن الأنظار. فقد أكّد في رواياته ورسائله أنّ الأرض لا تخلو من حجة لله، وأنّ الإمام المهدي سيكون موجودًا ولو غاب عن العيون.
لقد كان المجتمع الشيعي قد اعتاد على وجود إمام حاضر يمكن الرجوع إليه مباشرة، لذلك فإن الانتقال إلى مرحلة الغيبة كان أمرًا صعبًا من الناحية النفسية والعقدية. ومن هنا ركّز الإمام العسكري على تعميق الاعتقاد بأنّ لله في كل عصر إمامًا، حتى لو لم يكن ظاهرًا، وأنّ الغيبة جزء من الامتحان الإلهي للمؤمنين. هذه التهيئة الفكرية ساعدت الشيعة لاحقًا على الثبات وعدم الارتباك بعد غياب الإمام المهدي (عج).
المحور الثاني: التعريف الشخصي بالإمام المهدي (عج)
على الرغم من الرقابة العباسية الشديدة، كان الإمام العسكري (عليه السلام) يعرّف بعض أصحابه الموثوقين بولده الإمام المهدي. فقد وردت روايات عن أحمد بن إسحاق القمي، ومحمد بن عثمان العمري وغيرهما، أنّ الإمام العسكري أراهم ابنه وأكّد أنّه الإمام من بعده.
هذه الخطوة كانت غاية في الأهمية، لأنّها حافظت على خط الإمامة من الانقطاع، وأوجدت شهودًا عدولًا يؤكدون ولادة الإمام المهدي (عج) ووجوده الواقعي، في مواجهة محاولات العباسيين إنكار ذلك.
وبهذا ضمن الإمام العسكري استمرار السلسلة الإمامية، ومنع أي فراغ عقائدي يمكن أن تستغله السلطة أو الفرق المنحرفة.
المحور الثالث: تأسيس شبكة الوكلاء
عمل الإمام العسكري (عليه السلام) على توسيع شبكة "الوكلاء" الذين كانوا يتولّون مهام الاتصال بين الإمام وشيعته في مختلف الأقاليم. وكان من أبرز هؤلاء عثمان بن سعيد العمري، الذي أصبح لاحقًا أول سفراء الإمام المهدي في الغيبة الصغرى.
هذه الشبكة لم تكن مجرد وسيلة عملية للتواصل، بل كانت تمهيدًا تنظيميًا لمرحلة الغيبة، حيث اعتاد الشيعة أن يتلقوا التوجيهات عبر وكلاء ونواب بدلًا من الاتصال المباشر بالإمام. وهكذا أسّس الإمام العسكري (عليه السلام) البنية التحتية لنظام النيابة الذي استمر خلال الغيبة الصغرى.
المحور الرابع: ترسيخ مبدأ الكتمان والعمل السري
لقد علّم الإمام العسكري (عليه السلام) أتباعه ضرورة الالتزام بالكتمان والحذر في مواجهة السلطة العباسية. فالمرحلة كانت تقتضي السرية التامة لحماية الإمام المهدي (عج) من أعين السلطة.
هذا التدريب العملي على العمل في أجواء من الكتمان جعل الشيعة أكثر قدرة على التكيف مع ظروف الغيبة، وأكسبهم مهارة التعامل مع التوجيهات غير المباشرة. ومن هنا يمكن القول إنّ الإمام العسكري لم يهيئ شيعته فكريًا فحسب، بل درّبهم عمليًا على أسلوب الحياة الدينية في عصر الغيبة.
المحور الخامس: حماية الإمام المهدي (عج) من السلطة العباسية
كانت الأخبار المتواترة عن خروج المهدي الموعود قد وصلت إلى العباسيين، لذلك كانوا يخشون ولادته من بيت الإمام العسكري (ع). ولهذا شدّدوا الرقابة على بيته ومنعوا كثيرًا من الاتصالات به.
لكن الإمام العسكري تعامل مع هذا الواقع بحكمة بالغة؛ فقد أخفى ولادة الإمام المهدي (عج) عن عامة الناس، ولم يُظهره إلا للخواص من أصحابه الموثوقين. هذه السرية كانت الضمانة لبقاء الإمام المهدي سالمًا من ملاحقة السلطة، ليتهيأ لاحقًا لدوره الإصلاحي الكبير.
ومن هنا نفهم أنّ أحد أعظم إنجازات الإمام العسكري كان الحفاظ على حياة الإمام المهدي وسط ظرف سياسي بالغ التعقيد.
المحور السادس: التمهيد الروحي والفكري للأمة
إلى جانب الجانب التنظيمي والسياسي، اهتم الإمام العسكري بتربية الأمة تربية إيمانية عميقة، حتى تكون مؤهلة لمرحلة الانتظار. فقد بثّ فيهم روح الصبر والثبات، وربطهم بالله تعالى وبقيم الرسالة.
كما كتب رسائل عديدة إلى شيعته في العراق وإيران (كأهل قم والبصرة)، رسّخ فيها عقيدة الانتظار، وبيّن لهم أنّ الغيبة امتحان يتطلب يقظة روحية وتمسكًا بخط الإمامة.
هذه التربية الروحية جعلت من المجتمع الشيعي مجتمعًا صلبًا، قادرًا على الصمود أمام محاولات الانحراف أو التشتت بعد غيبة الإمام.
الخاتمة
إنّ دور الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في التمهيد للقضية المهدوية كان دورًا مفصليًا في التاريخ الإسلامي. فقد جمع بين الحماية العملية لشخص الإمام المهدي (عج)، والإعداد الفكري والعقدي للأمة لقبول الغيبة، والتأسيس التنظيمي لشبكة الوكلاء، والتربية الروحية التي جعلت الانتظار موقفًا إيمانيًا واعيًا.
وبهذا يمكن القول إنّ الإمام العسكري (عليه السلام) مثّل الجسر الذي عبرت عليه الأمة من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى مرحلة الغيبة، دون أن تفقد هويتها أو تنقطع عن إمامها. ومن هنا نفهم عظمة دوره (عليه السلام) في حفظ المشروع الإلهي من الضياع.
المصادر
1 الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة.
2 الشيخ المفيد، الإرشاد.
3 الشيخ الطوسي، الغيبة.
4 المسعودي، إثبات الوصية.
5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51.
6 السيد محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي.
7 جعفر مرتضى العاملي، الحياة السياسية للإمام الحسن العسكري.
8 عبد الله فياض، تاريخ الإمامية وأسلافهم.
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المقدمة
يمثّل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) الحلقة الحادية عشرة من سلسلة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وهو آخر إمام عاش بين الناس بصورة ظاهرة قبل غيبة ابنه الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف). وقد عاصر الإمام العسكري فترة من أشد الفترات قسوة واضطهادًا، حيث فرضت الدولة العباسية عليه رقابة صارمة، وأقامت حوله حواجز أمنية مشددة خشية أن يولد الإمام المنتظر الذي بشّرت به النصوص الإسلامية.
إنّ التمهيد لمرحلة الغيبة لم يكن حدثًا عفويًا أو طارئًا، بل كان مشروعًا إلهيًا متكاملاً أدار دفته الإمام العسكري (عليه السلام) بحكمة وبُعد نظر. وفي هذا البحث سنتناول أبرز معالم هذا الدور من خلال محاور متكاملة.
المحور الأول: التمهيد العقدي لفكرة الغيبة
كان من أهم ما قام به الإمام العسكري (عليه السلام) هو إعداد الأمة الإسلامية لتقبّل فكرة غياب الإمام عن الأنظار. فقد أكّد في رواياته ورسائله أنّ الأرض لا تخلو من حجة لله، وأنّ الإمام المهدي سيكون موجودًا ولو غاب عن العيون.
لقد كان المجتمع الشيعي قد اعتاد على وجود إمام حاضر يمكن الرجوع إليه مباشرة، لذلك فإن الانتقال إلى مرحلة الغيبة كان أمرًا صعبًا من الناحية النفسية والعقدية. ومن هنا ركّز الإمام العسكري على تعميق الاعتقاد بأنّ لله في كل عصر إمامًا، حتى لو لم يكن ظاهرًا، وأنّ الغيبة جزء من الامتحان الإلهي للمؤمنين. هذه التهيئة الفكرية ساعدت الشيعة لاحقًا على الثبات وعدم الارتباك بعد غياب الإمام المهدي (عج).
المحور الثاني: التعريف الشخصي بالإمام المهدي (عج)
على الرغم من الرقابة العباسية الشديدة، كان الإمام العسكري (عليه السلام) يعرّف بعض أصحابه الموثوقين بولده الإمام المهدي. فقد وردت روايات عن أحمد بن إسحاق القمي، ومحمد بن عثمان العمري وغيرهما، أنّ الإمام العسكري أراهم ابنه وأكّد أنّه الإمام من بعده.
هذه الخطوة كانت غاية في الأهمية، لأنّها حافظت على خط الإمامة من الانقطاع، وأوجدت شهودًا عدولًا يؤكدون ولادة الإمام المهدي (عج) ووجوده الواقعي، في مواجهة محاولات العباسيين إنكار ذلك.
وبهذا ضمن الإمام العسكري استمرار السلسلة الإمامية، ومنع أي فراغ عقائدي يمكن أن تستغله السلطة أو الفرق المنحرفة.
المحور الثالث: تأسيس شبكة الوكلاء
عمل الإمام العسكري (عليه السلام) على توسيع شبكة "الوكلاء" الذين كانوا يتولّون مهام الاتصال بين الإمام وشيعته في مختلف الأقاليم. وكان من أبرز هؤلاء عثمان بن سعيد العمري، الذي أصبح لاحقًا أول سفراء الإمام المهدي في الغيبة الصغرى.
هذه الشبكة لم تكن مجرد وسيلة عملية للتواصل، بل كانت تمهيدًا تنظيميًا لمرحلة الغيبة، حيث اعتاد الشيعة أن يتلقوا التوجيهات عبر وكلاء ونواب بدلًا من الاتصال المباشر بالإمام. وهكذا أسّس الإمام العسكري (عليه السلام) البنية التحتية لنظام النيابة الذي استمر خلال الغيبة الصغرى.
المحور الرابع: ترسيخ مبدأ الكتمان والعمل السري
لقد علّم الإمام العسكري (عليه السلام) أتباعه ضرورة الالتزام بالكتمان والحذر في مواجهة السلطة العباسية. فالمرحلة كانت تقتضي السرية التامة لحماية الإمام المهدي (عج) من أعين السلطة.
هذا التدريب العملي على العمل في أجواء من الكتمان جعل الشيعة أكثر قدرة على التكيف مع ظروف الغيبة، وأكسبهم مهارة التعامل مع التوجيهات غير المباشرة. ومن هنا يمكن القول إنّ الإمام العسكري لم يهيئ شيعته فكريًا فحسب، بل درّبهم عمليًا على أسلوب الحياة الدينية في عصر الغيبة.
المحور الخامس: حماية الإمام المهدي (عج) من السلطة العباسية
كانت الأخبار المتواترة عن خروج المهدي الموعود قد وصلت إلى العباسيين، لذلك كانوا يخشون ولادته من بيت الإمام العسكري (ع). ولهذا شدّدوا الرقابة على بيته ومنعوا كثيرًا من الاتصالات به.
لكن الإمام العسكري تعامل مع هذا الواقع بحكمة بالغة؛ فقد أخفى ولادة الإمام المهدي (عج) عن عامة الناس، ولم يُظهره إلا للخواص من أصحابه الموثوقين. هذه السرية كانت الضمانة لبقاء الإمام المهدي سالمًا من ملاحقة السلطة، ليتهيأ لاحقًا لدوره الإصلاحي الكبير.
ومن هنا نفهم أنّ أحد أعظم إنجازات الإمام العسكري كان الحفاظ على حياة الإمام المهدي وسط ظرف سياسي بالغ التعقيد.
المحور السادس: التمهيد الروحي والفكري للأمة
إلى جانب الجانب التنظيمي والسياسي، اهتم الإمام العسكري بتربية الأمة تربية إيمانية عميقة، حتى تكون مؤهلة لمرحلة الانتظار. فقد بثّ فيهم روح الصبر والثبات، وربطهم بالله تعالى وبقيم الرسالة.
كما كتب رسائل عديدة إلى شيعته في العراق وإيران (كأهل قم والبصرة)، رسّخ فيها عقيدة الانتظار، وبيّن لهم أنّ الغيبة امتحان يتطلب يقظة روحية وتمسكًا بخط الإمامة.
هذه التربية الروحية جعلت من المجتمع الشيعي مجتمعًا صلبًا، قادرًا على الصمود أمام محاولات الانحراف أو التشتت بعد غيبة الإمام.
الخاتمة
إنّ دور الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في التمهيد للقضية المهدوية كان دورًا مفصليًا في التاريخ الإسلامي. فقد جمع بين الحماية العملية لشخص الإمام المهدي (عج)، والإعداد الفكري والعقدي للأمة لقبول الغيبة، والتأسيس التنظيمي لشبكة الوكلاء، والتربية الروحية التي جعلت الانتظار موقفًا إيمانيًا واعيًا.
وبهذا يمكن القول إنّ الإمام العسكري (عليه السلام) مثّل الجسر الذي عبرت عليه الأمة من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى مرحلة الغيبة، دون أن تفقد هويتها أو تنقطع عن إمامها. ومن هنا نفهم عظمة دوره (عليه السلام) في حفظ المشروع الإلهي من الضياع.
المصادر
1 الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة.
2 الشيخ المفيد، الإرشاد.
3 الشيخ الطوسي، الغيبة.
4 المسعودي، إثبات الوصية.
5 العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51.
6 السيد محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي.
7 جعفر مرتضى العاملي، الحياة السياسية للإمام الحسن العسكري.
8 عبد الله فياض، تاريخ الإمامية وأسلافهم.
تعليق