اللهم صل على محمد وآل محمد
عندما نتأمل فواتح السور القرآنية، نرى الحروف المقطعة تتناثر بين صفحات الكتاب الكريم: ألم، الر، طس، حم، كهيعص… حروف مألوفة للعرب، لكنها في القرآن تحمل سرًّا لا يُدرك إلا بعين الروح والوعي.
لقد تعددت الأقوال حول هذه الحروف، فعدّ المفسرون ما يقرب من عشرين رأيًا، من بينها:
منها : أنها من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله.
منها : أنها أسماء للسور أو لمجموع القرآن.
منها : أنها أسماء لله تعالى، ففي “ألم” معنى: أنا الله العالم، وفي “ألمر”: أنا الله أعلم وأرى.
منها : أنها مفتاح لمعرفة اسم الله الأعظم عند حسن ترتيبها، كأحرف ألر، وحم، ن لتكون: الرحمن.
منها : أنها شريفة ومرموقة لكونها من مباني الكتب المنزل وأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وقد أقسم الله بها في القرآن.
منها : أنها إشارات إلى آلائه سبحانه ومدة أقوامه وبقاء أمته.
منها : أنها تسكت الكفار، وتربك أذهانهم عندما حاولوا محاربة الإسلام أو التشكيك بالقرآن، كما ورد في قوله تعالى: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ”
وهكذا، نجد أن كل حرف، رغم بساطته، يحمل أبعادًا إعجازية ومعنوية، ويقود المتأمل إلى الدهشة أمام قدرة الخالق وعظمة البيان الإلهي.
الحروف بين الواقع والتفسير العددي :
في العصر الحديث، ظهرت بعض النظريات التي ربطت الحروف المقطعة بالرقم 19، واعتبرتها أساسًا لإعجاز عددي. لكن الباحثين أكّدوا عدم صحة هذه الحسابات، فالتكرارات المزعومة للأحرف والكلمات لم تكن دقيقة، مما يُظهر أن القرآن ليس مجرد أرقام أو حروف، بل كتاب هداية وبيان.
موقف العلامة الطباطبائي :
أوضح العلامة الطباطبائي أن الحروف المقطعة ليست متشابهات لغوية قابلة للتأويل المحدود، بل هي رمز بين الله ورسوله، يلمّح إلى معاني السور وما تحمله من آيات، ويصعب إدراكها بالعقل العادي.
الحروف في التاريخ والسياق القرآني :
لم يُسأل الصحابة أو المشركون عن معاني هذه الحروف، رغم موقعهم من التساؤل والتحدي، بل ربما فهموا منها معنى قريبًا كافياً للإجابة على تساؤلاتهم، أو خضعوا لمعجزة القرآن بإيمان وتسليم.
وردت الحروف في 29 سورة، منها 26 مكية و3 مدنية، وهنالك ارتباط بين الحروف والآيات التالية التي تتحدث عن الكتاب، القرآن، القلم، والتنزيل، مثل:
قوله تعالى : “المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ…”
وقوله تعالى : “الر كِتابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور…”
وقوله تعالى : “حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ … لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”
وهذا يوضح أن الحروف ليست لغزًا أو أحجية، بل تمهيد للحديث عن القرآن وعظمته وبيانه الواضح.
الحروف وسر التحدي والإعجاز :
كما جاء في رواية عن الإمام العسكري (عليه السلام) مضمونها ما يلي : كذبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: سحر مبين. فقال الله تعالى: “الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ”
تلك الحروف، المألوفة للناس، تشكل جزءًا من إعجاز القرآن الذي لم يستطع الإنس والجن مجاراته، ولا حتى التحدي به ولو اجتمعوا جميعًا.
الخلاصة
١- الحروف المقطعة رمز دقيق وإشارات معنوية بين الله ورسوله، وتدعو المتأمل للتمعن في القرآن وفهم معانيه العميقة.
٢- ورودها في السور المكية والمدنية يدل على تحدي المشركين وأعداء الإسلام، وسكوتهم عنها دليل على فهم جزئي أو التسليم.
٣- الآيات التي تتبع الحروف المقطعة تؤكد أن القرآن كتاب هداية وبصيرة واضحة، موجه لكل من يقبل الحق، وفاتحة لكل أفق للتدبر والتأمل الروحي.
---------
منقول