اللهم صل على محمد وآل محمد
في مطلع سورة البقرة قال تعالى : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} .
عندما يبدأ الله كلامه بلفظ {ذَلِكَ}، فهو يختار اسم الإشارة للبعيد، رغم أن القرآن بين أيدينا وقريب منا، وهذا الاختيار يرمز إلى سموّ القرآن وعلوّ شأنه ومقامه الإلهي، فهو بعيد عن كل البشر في مكانته وعظمته، رغم قربه الزمني والمكاني.
ثم يعلن سبحانه: {الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}، ليؤكد أن القرآن هو حقيقة قائمة بذاتها، يحمل علامات الصدق من كل جهة:
فصاحته وبلاغته التي تحدت العرب وفصحاء اللغات، وإعجازه التشريعي والأخلاقي الذي لم يستطع البشر تقليده، وكل ذلك يجعل من هذا الكتاب ضوءًا لا يشوبه الشك أو التردد.
وعندما يقول الله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}، فهو يخص الفئة التي تتوفر فيها القابلية لاستقبال الهداية الكاملة. فالقرآن، رغم أنه هداية للناس جميعًا، إلا أن أثره الكامل يظهر لأولئك الذين امتازت نفوسهم بالتقوى، فتقبلوا ما فيه من هداية وارتقوا بها نحو الكمال.
صفات المتقين تتجلّى في هذه الآية المباركة:
1. الإيمان بالغيب:
فهم يؤمنون بما لا تراه العيون، ويصدقون بالحقائق الخارجة عن الحسّ، كالآخرة والملائكة وما أخبر به النبي (صلّى الله عليه وآله ) من أحداث مستقبلية. هذا الإيمان ليس جهلًا، بل يقود الإنسان إلى أفق أوسع ووعي أعمق بالحياة وما وراءها.
2. إقامة الصلاة:
وهي ليست مجرد أداء حركات شكلية، بل إقامة بمعناها الكامل، تشمل المحافظة على أوقاتها وشروطها وسننها، وتجعل المؤمن بين يدي الله في حالة من التقديس والخشوع والتواصل الروحي المباشر.
3. الإنفاق من رزق الله:
أي إخراج جزء من المال أو العلم أو المنصب أو التأثير الاجتماعي لمساعدة الآخرين، مما يعكس روح الكرم والتعاون والرحمة، ويحول حياة المجتمع إلى فضاء من التكافل والوئام.
إن هذه الآية تضع نموذج الإنسان التقي الكامل، الذي يبدأ بالإيمان الغيبي، يتدرج إلى العبادة العملية، ثم يصل إلى البُعد الاجتماعي والأخلاقي، فتكون الهداية شاملة للنفس، وللعلاقة مع الله، وللعلاقة مع البشر.
في النهاية، هذه الآية تذكرنا بأن القرآن ضوء لكل قلب مستعد، ومرشد لكل روح تسعى للحق، وهدية لمن يفتح قلبه لله ويتبع هدايته بإخلاص وتطبيق عملي. ومن فهمه واتبع هديه، كان له نصيب من السعادة الروحية والفلاح الدنيوي والأجر الأبدي.
---
منقول