بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾[1].
هذه الآية والآيتان من بعدها امتداد لآيات سابقة تتحدّث عن التعامل الاقتصادي المتصل بسلوك المنافقين.
أما المقطع الذي نتحدث عنه الان فيتناول جانب العطاء، أي أن هناك توازنا فنيّا في رسم الجانب الاقتصادي من سلوك المنافقين متمثلا في نمط سلوكهم من حيث إنفاق المال في سبيل الله مقابل أخذ المال بعنوان العطاء.
وفي الحالين رسمت الآية القرآنية الكريمة سلوك المنافقين، القائم على الالتواء في التعامل الاقتصادي.
فقد لاحظناهم من حيث الانفاق قد رسمهم النص مكرهين عليه، ونلاحظهم الآن من حيث العطاء يطعنون ويعيبون على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فإذا أعطوا رضوا وإذا لم يعطوا غضبوا.
والحق أن ظاهرة الرضا والغضب تبعا للإعطاء وعدمه، تظلّ سلوكا يطبع غالبية البشر، وقد ورد عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ غَالِبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللهِ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ: ((يَا إِسْحَاقُ كَمْ تَرَى أَهْلَ هَذِهِ اَلْآيَةِ: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾، قَالَ ثُمَّ قَالَ: هُمْ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثَيِ اَلنَّاسِ))[2].
بيد أن المنافقين يظلون في مقدمة من يطبعه مثل هذا السلوك ما دام طابع النفعية هو السمة المميّزة لهم كما هو واضح.
فالمهم أن نلاحظ الان: البعد الفنيّ أو لنقل: عمارة النص من حيث صلة هذا الجانب بما يلحقه من أفكار مطروحة في هذا المقطع. لقد عقب النص القرآني الكريم على سلوك المنافقين المذكور بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ﴾[3]، الخ كما عقّب بعد ذلك، راسما الموارد التي ينبغي أن تتّجه الصدقات إليه وهي موارد الزكاة المعروفة: للفقراء، المساكين، أبناء السبيل الخ. معنى هذا أن النّص اتجه إلى طرح أفكار تخصّ الإسلاميين وليس المنافقين.
وبكلمة جديدة: بعدما انتهى النصّ القرآني الكريم من حديثه عن السلوك الاقتصادي للمنافقين (وهو حديث يخص فئة من الناس): اتّجه من الجزء أو الخاصّ إلى الكلّ أو العامّ، وهذا (كما نعرف جميعا) سمة النصوص الفنية التي تصل بين العام والخاص، حيث يتم الانتقال من الخاصّ إلى العام وفق أسلوب فنيّ يستهدف توصيل الأفكار العامة من خلال سرده لنماذج خاصّة من السلوك.
فالمنافقون تاريخيا لا يحيون بأعيانهم في جميع العصور، إلاّ أنّ نماذج سلوكهم تظلّ متكررة دون أدنى شك، وهو ما يسوّغ (من الناحية الفنية) رسمهم بالنحو الذي لاحظناه في المقاطع القرآنية السابقة، لكن ما يسوّغ (من الزاوية الفنية أيضا) تجاوزهم زمنيا والانتقال منهم إلى رسم الأفكار الإسلامية العامة التي لا تخص زمانا ومكانا معيّنين هو طابع النصوص الفنية.
لقد رسم القرآن الكريم طابعا عاما لمبادئ الإسلام من حيث التعامل مع الصدقة أو الزكاة، فأوضح أولا الجانب الأخلاقي لهذه الظاهرة، ثم أوضح الموارد التي ينبغي أن تتّجه الصدقة أو الزكاة إليها.
فمن حيث البعد الأخلاقي أوضح القرآن الكريم بأنّ (المنافقين) لو كانوا قد ﴿رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ..﴾ لكان خيرا لهم.
لكن بما أنّه من المستبعد أن يصدر هؤلاء المنافقون عن أمثلة هذا السلوك الخيّر، حينئذ ندرك على الفور بأن الخطاب موجّه إلى الإسلاميين بطريقة فنية، لذلك طرح عليهم هذا المبدأ الأخلاقي وهو الرضا بما قسم لهم من العطاء، أو حتى في حالة المنع ينبغي أن يوكلوا ذلك إلى الله وأن تظل أفئدتهم وألسنتهم تردّد ﴿حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ﴾ِ.
وأمّا الجانب الآخر من الأفكار المتّصلة بالصدقة أو الزكاة فهو تحديد مواردها التي ذكرها النصّ مفصّلا حيث لحظنا أن النّص القرآني الكريم، قدّم حكما إسلاميا عامّا لموارد ذلك، وهو كونه نقلة فنية في الحديث من الخاصّ إلى الحديث عن العامّ الذي تعنى به جميع العصور بالنسبة إلى الظاهرة الاقتصادية المذكورة.
[1] سورة التوبة، الآية: 58.
[2] الكافي، ج 2، ص 412.
[3] سورة التوبة، الآية: 59.