إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من 12 إلى 17 ربيع الأول (القيمة الإنسانية لإحياء المولد النبوي

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من 12 إلى 17 ربيع الأول (القيمة الإنسانية لإحياء المولد النبوي





    الاقتدار النبوي على تحويل حركة الواقع السلبي في زمانه إلى حركة وعي في ضمير الفرد والأمة لإبراز القابليات الإنسانية والدفع بها لبناء الحياة على ضوء النموذج الإسلامي الإلهي يعتبر الإنجاز الأعظم الكاشف عن الخبرة الرفيعة والراقية في إدارة شؤون المجتمع الناتج عن الفهم الواعي والدقيق لأوضاع الناس...
    جرت العادة أن يحيي المسلمون ذكرى ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأيام من 12 ربيع الأول إلى 17 ربيع الأول من كل عام، بحسب روايات الطائفتين المسلمتين، السنة والشيعة، وتحظى هذه المناسبة باهتمام رسمي وشعبي في العديد من الدول الإسلامية، وقد تستمر الاحتفالات والفعاليات الدينية والاجتماعية طوال شهر ربيع الأول تيمنا بهذا اليوم. وتتنوع هذه الفعاليات بين مؤتمرات وندوات وخطب، وزيارات لمراقد أهل البيت (ع) وتلبية حاجات الأيتام والشباب وذوي الحاجات الخاصة والمعاقين، مثل إطعام الطعام، وتهيئة الكسوة، وتزويج الشباب، وبناء البيوت واطئة الكلفة لمن لا سكن له، وتوزيع الحلوى وإنشاد الأناشيد المرحبة والمبتهلة بقدمه الشريف وغيرها.
    والسؤال هنا؛ ما هي أهمية استذكار المولد النبوي الشريف للمسلمين؟ وهل حث القرآن الكريم المسلمين على الأخذ من الرسول وجعله أسوة حسنة في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم؟ وماهي التأثيرات الإيجابية لهذه المناسبة على ماضي المسلمين وحاضرهم ومستقبلهم؟ وكيف يتسنى للمسلمين إحياء هذه المناسبة بما يعزز رابطة الوحدة فيما بينهم، وينمي مفهوم (إنما المؤمنون أخوة)؟
    في الواقع ارتبطت الولادة بالنبوة والرسالة ارتباطا عضويا، فلولا البعثة والنبوة والرسالة ما عرف المؤمنون والمسلمون والموحدون قدر ذلك الرجل العظيم في تاريخ البشرية ومستقبلها. فمن خلال البعثة والنبوة والرسالة استطاع المسلمون أن يرجعوا إلى بداية نشأة هذا النبي الكريم، وإلى نسبه، وإلى الظروف التي أحاطت به، وإلى المواقف التي سطرها قبل البعثة حتى عُرف بالصادق الأمين.
    وجاء القرآن الكريم، كتاب الله الذي (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ليؤكد على مجموعة من الحقائق المرتبطة بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله) والتي كلها تؤكد على وجوب الأخذ من الرسول (صلى الله عليه وآله) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواوَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (7) سورة الحشر. وأنه أسوة حسنة للناس (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (21) سورة الأحزاب. وأنه رسول بالحق، وهو بشير ونذير (إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْـَٔلُ عَنْ أَصْحَٰبِ الجحيم) (119) سورة البقرة. وهو رسول مكلف بتلاوة هذه الآيات لغرض التزكية والتعليم والحكمة (كما أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا۟ تَعْلَمُونَ) (151) (البقرة) وأن وجوده بين المؤمنين هو منة من الله وفضل عظيم (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُوا۟ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ) (164) سورة آل عمران. وأن إطاعة الرسول من إطاعة الله (مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (80) سورة النساء.
    كما أن الإيمان بهذا النبي ورسالته وكتابه من شأنه أن يُكفر ذنوب الناس (وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَءَامَنُوا۟ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـَٔاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (2) سورة محمد. وهو شهيد على أقوالنا وأفعالنا (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) (89) سورة النحل. وفي مقابل هذا العطاء العظيم من الله ورسوله فانه لا يريد من الناس شيئا إلا شيء واحد هو (ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (23) سورة الشورى.
    فحياة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مثالاً ونموذجاً واضحاً للحياة الإسلامية، فهو الإنسان الكامل المختار من قبل رب العباد لإيصال رسالته الخالدة والخاتمة إلى الناس أجمعين، وهو المرسل رحمة للعالمين قال الله عنه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، وهو الإنسان النموذجي والمربي المرشد لأتباعه وللإنسانية جمعاء وإرشاداته القيمة كانت تشمل جميع الناس في السلم والحرب فالرسول عليه أفضل الصلاة والسلام هو ذروة الإنسان الكامل وأحسن الناس خَلقاً وخُلقاً. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً) (الأحزاب/ 45-46)؛ فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان سراجاً منيراً... كان ينير الجوّ بأخلاقه، بمسلكه، بطريقة عمله، بتعامله، بعلمه، بحكمته.
    كان الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) أميناً، وصادقاً، وصبوراً، ومتواضعاً وشهماً ومدافعاً عن المظلومين في كافّة الحالات. كان سلوكه سليماً وكان تعامله مع الناس يقوم على أساس الصدق والصفاء والصحّة. كان حَسَنَ الكلام، كان طاهراً، معروفاً بالعفّة والحياء والطهارة وكان الجميع يقبلونه ولم يكن متلوّثاً بأيّ شيء. كان شجاعاً ولم تتمكّن أيّ جبهة من الأعداء مهما كانت عظيمة أن تفتّ من عضده أو تخيفه. كان صريحاً، يوضّح كلامه انطلاقاً من الصراحة والصدق. كان في حياته حكيماً وزاهداً كما كان رؤوفاً متسامحاً كريماً. وكان يعطي المال ولا ينتقم، كان سموحاً وعَفُوّاً.
    ويمكن التركيز على ثلاث مبادئ أساسية دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته ورسالته، وهي: التوحيد، ومكارم الأخلاق، وتنظيم حياة الإنسان.
    1. مبدأ التوحيد: التوحيد في مقابل الشرك، ومعناه أن الله عز وجل واحد، وليس متعددا، فهو ليس أثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، فقد قال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {الأنبياء:22}.) ويعد التوحيد حق من حقوق الله على عباده، فان أمنوا أنه أحد صمد فان الجنة جزائهم، وإن أصروا على الكفر به أو إشراكه مع آخرين بعناوين متعددة كانوا من أهل النار. والتوحيد هو أهم الأصول الاعتقادية في الإسلام، يؤكد على أن الله واحد، وليس له مثيل، ولا جزء له، ولا شريك له في خلق العالم. فأول ما هتف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) في بدء دعوته إلى الإسلام كانت كلمة التوحيد والشهادة على أحادية الله، ونفي الشرك. وللتوحيد مكانة خاصة في القرآن الكريم، وروايات أهل البيت (ع) فمضمون سورة الإخلاص أيضاً هو التوحيد.
    وقسم العلماء التوحيد إلى مراتب هي: التوحيد الذاتي، وهو الاعتقاد بوحدانية الله، ومن ثمّ التوحيد الصفاتي، وهو الذي يدل على أن صفات الله وذاته أمر واحد، ثم التوحيد الأفعالي الذي يقصد به الاعتقاد بأن موجودات العالم مخلوقة لله تعالى وتابعة له وغير مستقلة عنه في فعلها، والتوحيد العبادي، أي أن لا أحد سوى الله يستحق أن يُعبد. وفي هذه المراتب الأربعة يعتبر التوحيد الذاتي أولي المراتب، والتوحيد الأفعالي أعلى مراتب التوحيد.
    2. مبدأ مكارم الأخلاق: يقول المرجع السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) في وصف أخلاق النبي: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قمة في الأخلاق الطيبة، وقد اهتدى ببركة أخلاقه الكثير من المشركين والكافرين والمنافقين وغيرهم إلى الإسلام. حتى قال في حقه الباري عز وجل في سورة القلم: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتَوَكّلِينَ)، وقال ابن شهر آشوب في (المناقب): كان النبي (صلى الله عليه وآله) أحكم الناس وأحلمهم، وأشجعهم وأعدلهم، وأعطفهم وأسخاهم، لا يثبت عنده دينار ولا درهم، لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من يسير ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء. وكان (صلى الله عليه وآله) يجلس على الأرض وينام عليها ويخصف فالنعل ويرقع الثوب، ويفتح الباب، ويحلب الشاة، ويعقل البعير، ويطحن مع الخادم إذا أعيا، ويضع طهوره بالليل بيده، ولا يجلس متكئاً، ويخدم في مهنة أهله، ويقطع اللحم، ولم يتجشأ قط، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن ويأكلها، ولا يأكل الصدقة، ولا يثبت بصره في وجه أحد، يغضب لربه ولا يغضب لنفسه، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع، يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد.
    إنّ أهم عوامل انتشار الإسلام تكمن في حُسن أخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام)، قال الله عزّ وجلّ مبيناً سرّ انتشار الإسلام وكثرة أتباعه مخبراً رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) صاحب الأخلاق الكريمة (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران 159)، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يذم سوء الخلق فيقول (سوء الخلق شؤم وشراركم أسوؤكم خلقاً) وقال أيضاً (أكثر ما تلج به أُمتي الجنة تقوى الله وحسن الخلق) وقال أيضاً (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
    يقول ادوارد لين الإنكليزي في كتابه "أخلاق وعادات المصريين": إن محمداً كان يتصف بكثير من الخصال الحميدة، كاللطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى أن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، كيف لا، وقد احتمل محمد عداء أهله وعشيرته بصبر وجلد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نبله أنه لم يكن يسحب يده من يد من يصافحه حتى ولو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمر يوماً من الأيام بجماعة رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة، وقد كان محمد غيوراً ومتحمساً، وكان لا يتنكر للحق ويحارب الباطل، وكان رسولاً من السماء، وكان يريد أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، كما أنه لم ينس يوماً من الأيام الغرض الذي بعث لأجله، ودائماً كان يعمل له ويتحمل في سبيله جميع أنواع البلايا، حتى انتهى إلى إتمام ما يريد.
    3. مبدأ تنظيم حياة الناس: في إطار مبدئي التوحيد والأخلاق كان مبدأ الدعوة إلى تنظيم حياة الناس الشخصية والاجتماعية والسياسية والقانونية من أهم المبادئ التي أشتغل عليها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنها:
    أ. توحيد المسلمين وجمع شملهم في المدينة المنورة بعد الهجرة: فقرّب بذلك بين النفوس، خاصة وأن المهاجرين هم من الذين لا تربطهم بالأوس والخزرج من أهل المدينة أي رابطة من دم أو عشيرة أو ما شابه من الروابط المعروفة عندهم آنذاك، ليكون ذلك التوحيد إشعاراً بأن الإسلام هو الذي يجمع ويوحد ويؤالف، ولهذا نجد أن الله سبحانه قد امتدح نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على جمعه للمسلمين ونشر المحبة والتآخي بين كل أولئك الفرقاء المتنازعين كما قال سبحانه: (... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا... ).
    ب. تحصين مجتمع المدينة المنورة: لأن النواة الأولى للدولة الإسلامية التي تشكلت في المدينة كانت تحتاج إلى أجواء هادئة ولو لمرحلة معينة لتنظيم شؤون تلك الدولة، وهذا ما استدعى تحصين المدينة بطريقة تمنع الاختراقات أو تمنع استغلال بعض الناس من غير المسلمين كاليهود والذين كانوا يسكنون المدينة وأطرافها، فكانت المعاهدة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهؤلاء اليهود، وهدفت إلى إقرار مبدأ التعاون وحرية الاعتقاد والدفاع عن المدينة بوجه كل الطامعين وخاصة "قريش" وحلفائها الذين كانوا مازالوا في غيهم.
    ج. إدارة قضايا الحرب والسلم: من الطبيعي أن قريشاً لم تكن تشعر بالارتياح لتأسيس مجتمع إسلامي في المدينة باعتبار انه النقيض لها والبديل الذي يريد له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تؤمن به الناس، وكانوا يعلمون أن مركزهم الرئيسي وهو "مكة" هو هدف أساس لحركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا كانوا يضايقون المسلمين بعد الهجرة من خلال السرايا التي كانوا يرسلونها، من هنا نجد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد الاطمئنان إلى سلامة مجتمع المدينة ولو نسبياً وضمان عدم الاختراق من غير المسلمين، انصرف إلى الإعداد والتهيئة والتفرغ لقتال قريش من ضمن جدول الأولويات على مستوى الأهداف الرئيسية باعتبار أنها تمثل الرمز الأول الذي بسقوطه تتغير كثير من الظروف والأوضاع، وقد أذن الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتال، لأنه كان في موقع الدفاع وذلك بقوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... ﴾.
    د. التسامح واللين مع الأمة: وهذه الصفة التي كانت بارزة في شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبت دوراً مهماً في جذب الكثيرين إلى الإسلام أو تثبيت المؤمنين به، وقد امتدح الله هذا الخلق النبوي الكريم في العديد من الآيات كما في قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ... ﴾، وهذا التسامح كان نابعاً من الحكمة النبوية في استيعاب الأمور الصغيرة من سيئات الناس والقضايا التي يمكن التجاوز عنها لما فيه من مصلحة وتقوية للإسلام، حتى ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة)) ولعب هذا الأسلوب الحكيم من التسامح واللين دوراً أيضاً في تقوية الروابط بين المسلمين ورص صفوفهم أكثر.
    وقد تجلى هذا الأمر بعد فتح مكة حيث كان المشركون خائفين على أرواحهم بسبب ما اقترفوه من الجرائم ضد الإسلام والمسلمين من القتل والصد والتعذيب ونهب الأموال وسلب الممتلكات، وكان على رأس هؤلاء "أبو سفيان" الذي حارب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا هوادة، ومع هذا نجد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عند فتح مكة يقول: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن))، ثم قال كلمته المشهورة، لأهل مكة وهم الذين فعلوا به ما فعلوا (اذهبوا فأنتم الطلقاء).
    ه. وأمرهم شورى: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤكد على مبدأ الاستشارة في الأمور، وعدم الاستبداد في الرأي، كما نص على ذلك القرآن الكريم، حيث قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) وقال عزوجل: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) فإن الأمور تكون بالشورى إلاّ فيما ورد فيه النص عن الله عزوجل أو المعصوم، حيث لا يجوز الاجتهاد في قبال النص. وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يطبق الاستشارة بنفسه، كما استشار في قصة الخندق، وحرب أحد، وغزوة الخندق، وحتى في اللحظات الأخيرة من حياته عندما نزل عليه ملك الموت...
    ولهذا، فإن الاقتدار النبوي على تحويل حركة الواقع السلبي في زمانه إلى حركة وعي في ضمير الفرد والأمة لإبراز القابليات الإنسانية والدفع بها لبناء الحياة على ضوء النموذج الإسلامي الإلهي يعتبر الإنجاز الأعظم الكاشف عن الخبرة الرفيعة والراقية في إدارة شؤون المجتمع الناتج عن الفهم الواعي والدقيق لأوضاع الناس، ولقيادتهم ورعايتهم والسير بهم نحو كمالهم.
    ..........................................

    ** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2024

    هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

    ​شبكة النبا

  • #2
    رسول اللّه وقدرته الروحيّة






    - لقد كانت آثار الشجاعة، والقوّة باديةً في جبين عزيز قريش منذ طفولته وصباه، ففي الخامسة عشرة من عمره الشريف شارك في حرب هاجت بين قريش من جهة، وقبيلة هوازن من جهة أخرى، وتدعى «حرب الفجار»، وقد كان في هذه الحرب يناول أعمامه النَبل. فها هو «ابن هشام» ينقل عن النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم قال: «كُنْتُ أنبّلُ عَلى أعْمامِيْ» (2).

    إن مشاركته صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في العمليات الحربية في مثل هذه السن تكشف عن شجاعته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وقدرته الروحية الكبرى وتساعدنا على أن ندرك مغزى ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ‌السلام في حق النبيّ الكريم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: «كُنّا إذا أحمر الْبأَسُ اتّقيْنا برَسُول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنّا أقرَبَ إلى العَدوِّ مِنْهُ» (3).
    حُروبُ الفِجار:
    كانت العرب تقضي عامها كله بالقتال والإغارة، وقد تسبب هذا الوضع في اختلال حياتهم، واضطراب أمورهم، ولأجل هذا كانوا يحرّمون القتال ويتوقفون عنه في أربعة أشهر من كل عام (هي شهر رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم) ليتسنى لهم ـ في هذه المدة ـ أن يقيموا أسواقهم، ويستغلّوها بالكسب والتجارة والبيع والشراء (4).
    ولهذا كانت أسواق «عكاظ» و «مجنَّة» و «ذو المجاز» تشهد طوال هذه الأشهر الحرام اجتماعات كبرى وتجمعات حافلة وحاشدة، كان يلتقي فيها العدوّ والصديق جنباً إلى جنب، يتبايعون، ويتفاخرون.
    فقد كان شعراء العرب المشهورون يلقون قصائدهم في هذه الاجتماعات الكبرى، كما يلقي كبارُ خطباء العرب وفصحاؤهم خطباً قوية، وأحاديث في غاية الفصاحة والبلاغة، وكان اليهودُ والنصارى والوثنيون يعرضون معتقداتهم في هذه المناسبات من دون خوف أو وجل.
    ولكن هذه الحرمة قد هُتكت أربعَ مرات في تاريخ العرب، وتقاتلت القبائلُ العربية فيما بينها في هذه الأشهر الحرم، ولهذا سُمِّيت تلك الحروب بحروب «الفجار»، وفي ما يلي نشير إليها على نحو الإجمال:
    الفِجارُ الأوَّل:
    ووقعت الحربُ فيها بينَ قبيلتي «كنانة» و «هوازن» وجاء في سبب نشوب هذه الحرب أن رجلاً يدعى «بدر بن معشر» كان قد أعدَّ لنفسه مكاناً في سوق «عكاظ» يحضر فيه، ويذكر للناس مفاخره فوقف ذات مرة شاهراً سيفه يقول: أنا واللّه أعزُّ العرب فمن زعم أنه أعزّ منّي فليضربها بالسيف.
    فقام رجلٌ من قبيلة أخرى فضرب بالسيف ساقه فقطعها، فاختصم الناس وتنازعت القبيلتان، ولكنهما اصطلحتا من دون أن يُقتل أحدٌ (5).
    الفِجار الثّاني:
    وكان سببه أن فتية من قريش قعدوا إلى أمرأة من «بني عامر» وهي جميلة، عليها برقع، فقالوا لها: إسْفري لننظر إلى وجهِك، فلم تفعلْ، فقام غلامٌ منهم، فجمع ذيل ثوبها إلى ما فوقه بشوكة فلما قامت انكشف جسمُها، فضحكوا، فصاحت المرأة قومها، فأتاها الناسُ، واشتجروا حتّى كاد أن يكون قتالٌ، ثم اصطلحوا، وانفضُّوا بسلام.
    الفِجارُ الثالِث:
    وسببه أن رجلاً من «كنانة» كان عليه دَيْنٌ لرجل من «بني عامر»، وكان الكناني يماطل، فوقع شجارٌ بين الرجل، واستعدى كل واحد منهما قبيلته، فاجتمع الناسُ، وتحاوروا حتّى كاد يكونُ بينهم القتالُ، ثم اصطلحوا.
    الفِجارُ الرابع:
    وهي الحرب الّتي ـ قيل أنه ـ شارك فيها النبيّ الكريم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم.
    ولقد ادّعى البعض أنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم كان يومذاك في الخامسة عشرة، أو الرابعة عشرة من عمره.
    وقال بعضٌ: إنه كان في العشرين من عمره وحيث أن هذه الحرب قد استمرت أربع سنوات. لهذا يمكن أن تكون جميع هذه الأقوال صحيحة (6).
    وقيل في سببه: أن «النعمان بن المنذر» ملك الحيرة كان يبعث إلى سوق «عكاظ» في كل عام بضاعة في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يُجيرها له حتّى تباع هناك ويشتري بثمنها من أقمشة «الطائف» الجميلة المزركَشة ممّا يحتاج إليه، فأجارها «عروة الرجال الهَوازني» في تلك السنة، ولكن «البراض بن قيس الكناني» انزعج لمبادرة «عروة» إلى ذلك، فشكاه عند «النعمان بن المنذر» ولم يجد اعتراضه وشكواه، فحسد على «عروة» حسداً شديداً، فتَربَّص به حتّى غدر به في أثناء الطريق، وبذلك لطّخ يده بدم هوازني.
    وكانت قريش يومذاك حليف كنانه، وقد اتفق وقوعُ هذا الأمر يوم كانت العرب مشغولة بالكسب والتجارة في سوق عكاظ، فأخبر رجل قريشاً بمقتل الهوازنيّ على يد الكنانيّ، ولهذا عرفت قريش وحليفتها بنو كنانة بالأمر قبل هوازن، وأسرعوا في الخروج من «عكاظ» وتوجهوا نحو الحرم (والحرم هو أربعة فراسخ من كل جانب من مكة، وكانت العرب تحرّم القتال في هذه المنطقة) ولكن هوازن علمت بذلك فلاحقت قريشاً وحليفتها فوراً، وأدركتهم قبل الدخول في الحرم فوقع بينهم قتال، ولما جنّ الليل كفّوا عن الحرب فاغتنمت «قريش» وحليفتُها فرصة الليل، وواصلت حركتها باتجاه الحرم المكي وبذلك نجت من خطر العدو.
    ومنذ ذلك اليوم كانت تخرج قريش وحليفتها من الحرم بين الفينة والأخرى وتقاتل هوازن، وقد شارك النبي صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في بعض تلك الأيام مع أعمامه على النحو الّذي مرّ بيانه.
    وقد استمر الأمر على هذه الحال مدة أربع سنوات، حتّى أن وُضعَت نهاية لهذه الحرب الطويلة بدفع قريش لهوازن دية القتلى الذين كانوا يزيدون على قتلى قريش على يد هوازن (7).
    وإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كانت له جذورٌ دينية، وحيث أن حرب «الفجار» استمرت أربع سنوات فيمكن أن يكون لمشاركة النبي صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم فيها وجهاً وجيهاً وهو الدفاع، خاصة أنه لما سئل صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم عن مشهده يومئذ فقال: «ما سَرّني أنّي أَشْهدهُ، إنَّهُمْ تَعَدَّوْا عَلى قَومي عرضوا (أي قريش) عَلَيْهم (أي على هوازن) أنْ يَدْفعُوا إلَيْهِم البرّاض صاحِبَهُمْ (أي الّذي قتل عروة) فأَبُوا» (8).
    ويحتمل أن تكون مشاركته صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في غير الأشهر الحرم بناء على استمرار هذه الحروب مدة أربعة أعوام، وإنما سميت مع ذلك بالفجار لأن بدايتها وافقت الأشهر الحرم لا أنّها وقعت بتمامها في الأشهر الحُرم.
    وبذلك لا يبقى مجال لأن تُسْتَبْعَد مشاركة النبيّ صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم في بعض أيام تلك الحرب.
    حِلْفُ الْفُصُول:
    لقد كان في ما مضى ميثاقٌ وحلفٌ بين الجرهميين يدعى بحلف «الفُضُول»، وكان هذا الحِلفْ يهدف إلى الدفاع عن حقوق المظلومين، وكان المؤسسون لهذا الحلف هم جماعة كانت أسماؤهم برمتها مشتقة من لفظة الفضل، وأسماؤهم ـ كما نقلها المؤرخ المعروف «عماد الدين ابن كثير» ـ هي عبارة عن: «فضل بن فضالة»، و «فضل بن الحارث»، و «فضل بن وداعة» (9)، وحيث أن الحلف الّذي عقدته جماعة من قريش فيما بينها كان متحداً في الهدف (وهو الدفاع عن حقوق المظلومين) مع حلف «الفضول» لذلك سمّي هذا الاتفاق وهذا الحلف بحلف «الفُضول» أيضاً.
    فقبل البعثة النبوية الشريفة بعشرين عاماً دخل رجلٌ من «زبيد في مكة في شهر ذي القعدة، وعرض بضاعة له للبيع فاشتراها منه «العاص بن وائل»، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيديّ قريشاً، وطلب منهم أن ينصروه على العاص، وقريش آنذاك في انديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:
    يا آل فِهر لمظلوم بضاعتُه
    بِبطن مكة نائي الدار والنَفَر
    ومُحرمٌ أشعثُ لم يَقض عُمْرتَه
    يا للرِّجال وبَيْن الحجر والحَجَر
    إن الحرامَ لِمَن تمَّت كرامتُه
    ولا حَرام لِثوب الفاجر القذر
    فأثارت هذه الأبيات العاطفية مشاعر رجال من قريش، وهيّجت غيرتهم، فقام «الزُبير بن عبد المطّلب» وعزم على نصرته، وأيّده في ذلك آخرون، فاجتمعوا في دار «عبد اللّه بن جَدْعان» وتحالفوا وتعاهدوا باللّه ليكونَنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتّى يؤدّى إليه حقه ما أمكنهم ذلك ثم مَشوا إلى «العاص بن وائل» فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
    وقد أنشدَ الزبير بن عبد المطلب في ذلك شعراً فقال:
    إنَ الفُضُولَ تَعاقَدُوا وتَحالَفوا
    ألاّ يقيمَ بِبطن مَكَّة ظالمُ
    أمرٌ عَليْهِ تَعاقَدُوا وتواثقُوا
    فالجارُ والمُعترُّ فيهم سالمُ
    وقال أيضاً:
    حَلفْت لَنعْقَدن حلفاً عليهمْ
    وإن كُنّا جميعاً أهلَ دار
    نسمّيه «الفُضُولَ» إذا عَقَدْنا
    يَعُزُّبه الغَريبُ لِذي الجوار
    ويعْلَمُ منْ حَوالي البيتِ أنّا
    اُباة الضَيْم نَمنَعُ كُلَّ عار (10)
    وقد شارك رسول اللّه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم، في هذا الحلف الّذي ضمن حقوق المظلومين وحياتهم، وقد نُقِلت عنه صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم عبارات كثيرة يشيد فيها بذلك الحلف ويعتزُّ فيها بمشاركته فيه وها نحن ننقل حديثين منها في هذا المقام. قال صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم: «لقد شَهدْتُ في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً لو دُعيتُ به في الإسلام لأجبتُ».
    كما أن ابن هشام نقل في سيرته أن النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم كان يقول في ما بعد عن هذا الحلف: «ما أحبُّ أنَّ لي به حُمُرَ النِعَم».
    ولقد بقي هذا الحلف يحظى بمكانة واحترام قويّين في المجتمع العربي والإسلامي حتّى أن الأجيال القادمة كانت ترى من واجبها الحفاظ عليه والعمل بموجبه، ويدل على هذا قضيةٌ وقعت في عهد إمارة «الوليد بن عتبة» الأموي (11) على المدينة.
    فقد وقعت بين الإمام الحسين بن علي عليه ‌السلام وبين أمير المدينة هذا منازعة في مال متعلّق بالحسين عليه ‌السلام، ويبدو أنَ «الوليد» تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الإمامُ السبط الّذي لم يرضخ لحيف قط، ولم يسكت على ظلم أبداً:
    «أَحلِفُ باللّه لتَنْصِفَنّي مِنْ حَقّي، أوْ لآخُذَنَّ سَيْفيْ ثمَّ لأَقُومَنَّ في مَسجد رَسُول اللّه صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم ثمَّ لأَدْعُونَّ بِحلفِ الفُضُول» (12).
    فاستجاب للحسين فريقٌ من الناس منهم «عبد اللّه بن الزبير»، وكرّر هذه العبارة وأضاف قائلاً: وأنا أحْلِفُ باللّه لئن دعا به لآخُذَنَّ سَيْفي ثُمّ لأَقُومَنَّ مَعه حتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أوْ نَمُوتَ جَميعْاً.
    وبلغت كلمة الحسين السبط عليه ‌السلام هذه إلى رجال آخرين ك‍ «المسورة بن مخرمة بن نوفل الزُهري» و «عبد الرحمان بن عثمان فقالا مثل ما قال «ابن الزبير»، فلما بلغ ذلك «الوليد بن عتبة» أنصف الحسين عليه‌ السلام من حقه حتّى رضي (13).
    الشيخ جعفر السبحاني
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
    1 ـ نهج البلاغة : قسم الرسائل ، الرقم 38.
    2 ـ السيرة النبوية : ج 1 ، ص 186 ، وقد قال ابن الأثير في النهاية بعد نقل هذا الحديث وضبط الكلمة « انبل » مشدّدة « اُنبِّل » : « إذا ناولته النبل يرمي » راجع مادّة نبل.
    3 ـ نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه الرقم 9.
    4 ـ يُستفاد من قوله تعالى في الآية 36 من سورة التوبة : « إنَّ عِدَّة الشّهور عِندَ اللّه اثنا عَشَر شَهْراً في كِتابِ اللّه يَوْم خلَقَ السَّماواتِ والأَرْض مِنْها أربعةٌ حُرُم » أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة كان ذا جذور دينية ، وكانت العرب الجاهلية تحترم هذه الأشهر اتباعاً لسُنّة « إبراهيم الخليل » عليه‌ السلام.
    5 ـ ولقد كان ممّا أزاله الإسلام ومحاه هذا التفاخر الجاهلي المقيت.
    6 ـ التاريخ الكامل : ج 1 ، ص 358 و 359 ، السيرة النبوية : ج 1 ، ص 184 الهامش ، تاريخ الخميس : ج 1 ، ص 259.
    7 ـ سيرة ابن هشام : ج 1 ، ص 184 ـ 187 ، الأغاني : ج 22 ، ص 56 ـ 75.
    8 ـ الأغاني : ج 22 ، ص 73.
    9 ـ البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290.
    10 ـ البداية والنهاية : ج 1 ، ص 290
    11 ـ من قبل عمّه معاوية.
    12 ـ السيرة الحلبية : ج 1 ، ص 132.
    13 ـ البداية والنهاية : ج 2 ، ص 293.




    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X