بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصّة الطوفان في التوراة
جاءت قصّة الطوفان في سفر التكوين 1 بصورة تفصيليّة تشبه أن تكون أساطيرية ، و فيها ما ترفضه العقول و تأباه واقعية الحياة ، فضلاً عن منافاتها لأصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود .
جاء فيه : أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض ، فغضب الله عليهم و أنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم ، فلم يعبهوا بذلك و ظلّوا يعبثون و يعثون في البلاد .
و لمّا بلغ نوح من العمر ستمائة سنة أمرة الله بصنع الفلك ( في 300 ذراع طولاً و50 ذراع عرضاً و 30ذراعاً في الارتفاع ) .
فجاء الطوفان ، و جعلت ينابيع الأرض تتفجّر و السماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً و الماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها حتّى بلغ قمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض و ارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً ، و بذلك هلك الحرث و النسل و مات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ و البهائم و الدبّابات و الزحّافات و حتّى الطير في السماء . و دام الطوفان على وجه الماء حتّى أخذ الماء ينحطّ و يغور فاستقرّت سفينته على جبل « آرارات » بأرمينية . فنزلوا من السفينة و عاش نوح بعد ذلك ثلاثمائة و خمسين عاماً ، فكان كلّ أيّام نوح تسعمائة و خمسين سنة . على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28 .
و كان الذي حمله نوح معه في السفينة ـ غير أهله و ذويه ـ أزواجاً ( ذكراً و اُنثى ) من كلّ أنواع الحيوانات لئلاّ ينقرض نسلها و تبيد من الوجود . « من جميع البهائم و الطيور ذكراً و اُنثى ، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض » . 2
و هذا يعني : أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق « فمات كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور و البهائم و الوحوش و كلّ الزحّافات التى كانت تزحف على الأرض و جميع الناس ، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات » . 3
و ذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها و طغى على أعالي الجبال الشامخة في كل أكناف الأرض « و تعاظمت المياه كثيراً جداً على الارض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال » . 4
حادث الطوفان في القرآن
و حاشا القرآن أن يساير التوراة ( المتداولة ) في سرد أقاصيص أسطورية واهية ، و إنّما هي الواقعيّة ينتقيها و ينبذ الأوهام الخرافية و التي أحدقت بها على أثر طول العهد .
و إليك الحادث على ما جاء في سورة هود :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 5 6
مواضع عِبر أغفلتها التوراة
جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخية القديمة مشوّهةً في خِضمًّ من خرافات بائدة و من غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها ، بل و أغفلتها في الأكثر . أمّا القرآن فبما أنّه كتاب هداية و عِبر نراهُ يقتطف من أحداث التاريخ عبرها و يجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها ، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شعفٍ و هناء .
و قد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح و ابنه اللذين شملهما العذاب بسوء اختيارهما . إنّها عِبرةٌ كبرى ، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية و الصلاح ، و ينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة و الفساد ، و في النهاية الدمار و الهلاك !!
ذكر السيّد ابن طاووس : أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة و أخرى غبيّة ، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة ، و هلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين . 7
قال الله تعالى عنها و عن زوج لوط : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ 8 .
و كانت خيانتهما هي المسايرة مع الكافرين و نبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب .
و ابن نوح يقول عنه تعالى : أنّه ليس من أهله . لا يصل للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم ( أهل نوح ) لأنّه عملٌ غير صالح ، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة ، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح و أهله .
و هذا أيضاً من أعظم العِبر ، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قمم الهداية و التوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً ؟!
أمّا و كيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا و هو يعلم ما به من غواية الضلال ؟ فهذا يعود إلى حنان الأبوّة و رحمة العطوفة التي كان يحملها نوح ( عليه السَّلام ) لاسيّما مع ما وعدهُ اللهُ بنجاة ّأهله ، فلعلّه شملته العناية الربّانية و أصبح من المرحومين . و من ثَمَّ جاءته الإجابة باليأس و أنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له و كان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين .
هل عمّ الطوفانُ وَجْهَ الارْض ؟
صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه لأرض و أهلك الحرث و النسل و حتّى الطير في السماء .
و ليس في القرآن دلالة و لا إشارة إلى ذلك ، بل على العكس أدلّ ، و أنّ الطوفان إنّما عَمَّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها .
جاء في سورة الأعراف : ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ 9 الى قوله : ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ﴾ 10 .
فالذين كان يُخافُ عليهم عذابَ يومٍ عظيم ممّن كذّبوهُ و كانوا قوماً عمين ، كانوا هم المغرقين .
و لا دلالة فيها على غَرَق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مبعثرين عاشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح ولم يكن مرسلاً إليهم .
هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات و الدبّابات المنتشرة في وجه الأرض ، و كذا الطير في الهواء . ممّا لا شأن لها و رسالات الأنبياء و لا وجه لأن يعمّها العذاب و هو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان .
الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ ! و لا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته : غمر الماء وجه الأرض كلها و ارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات و علاهنّ بخمس عشرة ذراعاً ( سبعة أمتار ) ! نقض فرضية الشمول ؟
يقول «وُلتر» ـ الكاتب الناقد الفرنسي ( 1694 – 1778م ) بصدد تسخيف أسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة ـ : كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أن تضطمّ اثنا عشر بحراً ، كلٌّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط ، بعضها فوق بعض ، ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع و عشرين ضعفاً ، و هكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال !
و يزيد ـ مستخفّاً عقيلة مسطّر هذه الأساطير و ناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء ( وحاشاه ) ـ : يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز ، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون !! .
و يقول آخر : أنّ المحاسبات العلمية الدقيقة تعطينا : أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً و هطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأن تغمر و تعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات ، فكيف بجبال شامخات ؟!
يقول الدكتور «شفا» : لو كانتِ السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً ـ كما هو نصّ التوراة ـ لما كاد أن يغمر هَضبة ما بين النهرين ـ على صغرها ـ فكيف بغمر وجه الأرض و أن يعلو قمم الجبال ؟! و جبل « آرارات » يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره ، فكيف بسائر الجبال الشامخة ؟! 11
الطوفان ظاهرة طبيعية حيث أرادها الله
نعم ، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعية و على ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه .
كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة ، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة و سيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب و الوديان و المناطق المنخفضة من سطح الأرض . و كان طوفان نوح إحدى تلكمُ الظواهر الكونية حدثت بإذن الله ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ 12 . فانحدرت سيول هائجة عبى سفوح الجبال و تفجر ينابيع الأرض المشبعة بالأمطار ، و هكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح و سد عليهم طرق النجاة . و حتى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لو لا أن جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مهوى الهلاك ، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه ، و حال بينهما الموج فكان من المغرقين .
و في تواريخ الاُمم ما يسجّل حدث طوفانا هائلة جرفت بقسط من الحياة ، و لعلّه لتراكم الفساد و الشرّ في تلكمُ البقاع . فمن قدماء الفرس : أنّ طوفاناً هائلاً عمّ أرض العراق إلى حدود كردستان . و هكذا روي عن قدماء اليونان . و الهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة . و يروى تعدّد الطوفان عن اليابان و الصين و البرازيل و المكسيك و غيرهم . و يروى عن الكلدانيين ـ و هم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم ـ : أنّ المياه طغت على البلاد و جرفت بالحرث و النسل . فقد نقل عنهم « برهوشع » و « يوسيفوس » : أنّ « زيزستروس » رأى في الحلم بعد موت أبيه « أوتيرت » أنّ المياه ستطغى و تغرق الناس كلّهم ( ممّن كان يعيش هناك طبعاً ) . فأمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو و ذووه ، ففعل . و قد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد و أكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان و الاستئصال .
و قد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر « آشوربانيبال » من نحو ( 660 ) سنة قبل ميلاد المسيح و أنّها منقولة من كتابةٍ قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك . و من ثَمَّ فهي أقدم من كتابة سفر التكوين ( يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل ) .
و يروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده « أفلاطون » و هو : أنّ كهنة مصر قالوا للحكيم اليوناني « سولون » أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً فهلك الناس ( ممّن عمروا البلاد في المنطقة ) و انمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار و المعارف . و أورد « مانيتيون » خبر طوفان حدث بعد « هرمس » الأوّل الذي كان بعد « ميناس » الأوّل . و هو أقدم من تاريخ التوراة أيضاً . 13
و هكذا جاء خبر الطوفان في « اُوستا » كتاب المجوس . 14
و جاء في كتاب « تاريخ الأدب الهندي » الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنية الهندية ، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي ( مخطوط ) ص 42 و 43 ، في الباب الخامس ، و عنوانه « برهمانا و أوبانبشاء » :
و ممّا يلف النظر في « ساتا بانا برهمانا » قصّة الطوفان ، التي بيّنت في ضمن الضحايا . و القصّة و إن اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن و التوراة ، و إن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهندية مع السامية . توجب الاهتمام . .
ففي هذه القصّة البرهمانية يقوم « مانو » بدور نبيّ الله نوح ( عليه السَّلام ) في القرآن و في التوراة . و « مانو » اسمٌ نالَ التقديس و الاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيين ، فهو : ابن الله ، و مصدر جميع الناس و جدّهم الاُسطوري .
و خلاصة القصّة : أنّه بينما كان « مانو » يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة ، و ممّا اندهش به « مانو » أنّ السمكة كلّمته و طلبت إنقاذها من الهلاك ، و وعدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطرٍ عظيم . و الخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات . و على ذلك حفظ « مانو » السمكة في « المرتبان » . فلمّا كبرت السمكة أخبرت مانو عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ، ثم أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة ، و يدخل فيها عند طغيان الماء ، قائلةً : أنا أنقذك من الطوفان . فمانو صنع السفينة ، و السمكة كبرت أكثر من سعة « المرتبان » ، لذلك ألقاها « مانو » في البحر . ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة . و حين دخل « مانو » السفينة ، عامت السمكة إليه ، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة ، فجرّتها إلى الجبال الشمالية . و هنا ربط « مانو » السفينة بشجرة . و عندما تراجع الماء و خفّ ، بقي «مانو» بوحدته . 15
فذلكة الكلام : إنّ فيما أنبأت به الاُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة داهمت الحياة البشرية الأولى و كان فيها الهلاك و الدمار و منها حادث الطوفان في كرّات و مرّات لَيُشْرفْ بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً و لو يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول ، شأن سائر القصص البائدة حيكت حولها مخاريف ، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس . و لا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أن يهاجم حياة الإنسان و يواجهه بالنكبات في الأيام الأولى بكثرة ، و لا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ و آخر .
و ربما كان من أعظمها و أشملها طوفان نوح ، عمّ المنطقة و دمّر وأباد . هذا شيءٌ لا مساغ لإنكاره ، بعد كونه طبيعيّاً و أخبر به الصادق الأمين .
أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة و نقلتها التوراة على علاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه و نبذه كما نبذه القرآن و استخلص الحادث صافياً جليّاً . الأمر الذي اختصّ به القرآن و كان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين . ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ 16 .
أي لا تعلمها بهذا الخُلوص و الجلاء . أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوامٌ جاهلون بحقيقة الأمر .
لا شاهد على شمول الطوفان
لاشكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مجالاً لاحتمال شمول الطوفان ، و لا سيّما بذلك الارتفاع الهائل ! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً .
بقي ظاهر النصّ ( التعابير الواردة في القرآن الكريم ) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك ، فضلاً عن قرائن اُخرى :
قال الشيخ محمّد عبده : و أمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان و أهل النظر في طبقات الأرض ، و موضوع خلاف بين مؤرّخي الاُمم . أمّا أهل الكتاب و علماء الأمّة الإسلامية فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض . و وافقهم على ذلك كثير من أهل النظر . و احتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف و الأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال ، لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات ، و لن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض . 17
و قال السيّد الطباطبائي : الحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم ـ ظهوراً لا ينكر ـ أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض ، و أنّ من كان عليها من البشر اٌغرقوا جميعاً . . .
و من شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى ـ حكايةً عن نوح ـ ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ 18 ، و قوله : ﴿ ... لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ 19 ، و قوله : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 .
قال : و من الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأن يحمل من كلًّ زوجين اثنين . 21 و من الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة ( أرض العراق كما هو معروف ) لم تكن حاجة إلى ذلك . 22 نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك .
آثار جيلولوجية ؟
لكن وجود الفسايل و بقايا متحجّرة لحيوانات مائية و هكذا آثار الردم المشاهد في أعالي بعض الجبال لا يصلح شاهداً لصعود الماء إليها إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار و وجوده هذه البقايا صعودُ الماء أيّاماً معدودة و لفترة قصيرة ، بل و من المحتمل القريب أنها من بقايا رسوبية كانت يوماً مّا تحت البحر و على ضفافه ، غير أنّ التغيّرات الجيولوجية و التمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل و غيرها هي التي أوجبت تغّيراً في وجه الأرض ، فمنها ما ارتفع بعد ما كان مغموراً ، أو انغمر بعد ما كان علياً ، و هكذا تعرجّات حدثت على الأرض و لا سيّما في الفترات الأولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض .
قال الشيخ محمّد عبده : إنّ وجود الأصداف و الحيوانات البحرية المتحجّرة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال و غيرها من اليابسة في الماء . فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها . 17
﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ 18
أخذوا من هذه الآية دليلاً على الطوفان و شموله لوجه الأرض كلّها .
قال الشيخ محمّد عبده : ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها ، فإنّ المعروف في أخبارهم أن تذكر الأرض و يراد بها أرضهم و وطنهم ، كقوله تعلى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى و هارون : ﴿ ... وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ... ﴾ 23 يعنى أرض مصر ، و قوله : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ... ﴾ 24 فالمراد بها مكّة ، و قوله : ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ 25 و المراد ديار فلسطين ، و الشواهد على ذلك كثيرة .
قال : و ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن و التقاليد الموروثة عن أهل الكتاب ، على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه ـ« و هو في أوّليات حياة البشر » ـ و إنهّم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيته . و هذا يقضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها و جبالها ، لا في الأرض كلّها . إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين و بوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين و طبقات الأرض ( الجيولوجية ) يقولون : إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثمّ صارت كرة مائية ، ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج . 26
و بذلك ظهر عدم دلالة الآية ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض ، بعد فرض محدودية نطاق النسل البشري آنذاك ( في عهدٍ بعيد جدّاً ) و عدم الانتشار في أقطار الأرض . و لا نتسلّم بما حدّدته التوراة من التاريخ القريب و لا مستند لها .
﴿ ... لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ 19
شاهدٌ آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان .
قال تعالى : ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ 27 .
في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان :
1 ـ التعبير بالموج الهائل كالجبال ، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خضمّ الماء المتراكم .
2 ـ محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، و لكن نوحاً أنذره أن لا عاصم اليوم . و معنى ذلك أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً و لا يذر موضعاً يأوي إليه . و هكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين .
لكن لاشكّ أنّ هضبة كبيرة واسعة الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب و فاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول و يصول في ساحتها و ربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار . و في مثل هذا الخضمّ من الماء الهائم و الذي في عرضة الطوفان و هبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية و عاتية تلوي على كل شيء . لا بد أن ابن نوح كان واقفا على مرتفع من الارض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء ، و حينما كلّمه أبوه ـ و هو راكبٌ في السفينة ـ لم يعبه بنصح أبيه ، و أنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال . لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغرق ، و بالفعل نزلت به النازلة و حال بينه و بين أبيه الموج فكان من الهالكين .
و ليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض .
و هكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان ( هضبة ما بين النهرين ) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً ، ممّا لا يمكن غشيانه قلل جبال رفيعة كقلّة آرارات من سلسلة جبال جودي . 28
﴿ ... قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29
شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عموم الطوفان :
قال العلاّمة الطباطبائي : هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع . قال : و لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض و ناحيةٍ من نواحيها ـ كالعراق على ماقيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين . 30
و هذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان لعلّة لاستبقاء نسلها لئلاّ تنقرض . قال صاحب المنار : و التقدير ـ على قراءة حفص [ بتنوينِ كلًّ ] ـ : احمل فيها من كلُّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً و إنثى ، لأجل أن تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل و يبقى نوعُها على الأرض . 31
و عامّة المفسّرين على ذلك ، و لعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة و توارد الإسرائيليات بهذا المعنى . جاء في سفر التكوين : و من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً و اُنثى ، لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض . 32 و هكذا ورد في الإسرائيليات . 33
و لكن ما قدر السفينة حتّى يحمل فيها مثل هذا بعدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهلية والوحشية و الحشار و الطيور لئلاّ ينقرض نسل الأحياء . بل و في هذه الروايات : حمل الأزواج من أنواع النبات و الشجر و الأعشاب ، و هو من الغرابة بمكان !!
و بحقًّ قال سيّد قطب : و مرّة اُخرى تنفرّق الأقوالُ حول ﴿ ... مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29 . و تشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليات قويّة .
و تعقّبه بقوله : أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا و يشتطّ حول النصّ ﴿ ... احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29 ممّا يملك نّوح أن يُمسك و أن يستصحب من الأحياء ، و ما وراء ذلك خبط عشواء . 34
و هذا هو الرأي الصحيحُ ، فقد رخّص الله لنوح أن يحمل معه ما يملكه من الحيوانات الأهلية بقدر ما يحتاج إليه من زادٍ و راحلة ، و لا يثقل حمله حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأولى . و أمّا سائر الأحياء الأهلية و الوحش فتتشرّد لوجهها و لا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث ، كما هو مألوف . هذا ما يدّل عليه نصّ القرآن لا أكثر .
و الزوجان ـ في الأية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل ، أي من كلّ جنسٍ عدداً يفي لتأمين الحاجة بها .
و هذا نظير قوله تعالى : ﴿ ... وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 35 ( في الارض ) أي من كلّ نوعٍ في أشكالٍ و ألوانٍ متقاربةٍ و متنوّعة ، كالتفّاحة في أشكالها و ألوانها ، و هكذا الليمون و الرّمان و سائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة . كما قال تعالى : ﴿ ... وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ... ﴾ 36 أي متشاكلاً و غير متشاكل .
و جاء في وصف فواكه الجنّة : ﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴾ 37 أي صنفان متشاكلان . و المراد المتعدّد في أشكالٍ و أصناف ، كما قال : ﴿ ... وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ... ﴾ 38 أي متشاكلاً .
و من الواضح أنّ الثمرة ـ و هي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر و لا انثى و لا تزاوج لقاح ، و انما ذاك في بذور الازهار لا في الفواكه و الثمار .
على أنها لغة دارجة : أن يراد بالمثنى الشياع في الجنس لا الاثنان عددا . قال ابو علي : الزوجان في قوله : من كل زوجين يراد بهما الشياع و ليس يراد بهما عدد الاثنين ، كما قال الشاعر :
فاعمد لما يعلو فمالك بالذي *** لا تستطيع من الاُمور يدان
يريد : الأيدي و القوى الكثيرة حتّى يستطيع من الاُمور .
قال : و يبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق :
و كلّ رفيقي كلّ رحل و إن هما *** تعاطى القنا قوماً هما أخَوان 39
إذ رفيقان اثنان يكونان رفيقي كلّ رحل ، و إنما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين .
و أمّا وصف الزوجين بالاثنين فلإرادة التأكيد و التشديد في المتبوع ، كما قال تعالى : ﴿ ... لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 40 خطاباً مع المشركين ، نهى عن اتخاذ الآلهة ، و مع ذلك جاء تأكيده بالاثنين ، زيادةً في المبالغة . 41 و من ثمّ عقّبه بقوله : ﴿ ... إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ 40 .
و إنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه ، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر ، و المعنى : النهي عن التعدّد في الآلهة و إن كان في صياغة المثنّى 42 و قد بحثنا عن إرادة الشياع من المثنّى بتفصيل فليرجع إليه . 43 فيما توهّم من المخالفة مع العلم .
﴿ ... وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ... ﴾ 44
يقال : إنّه تعريب « جورداي » اليونانية ، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شمالي العراق فإلى تركيا و بلاد أرمينية ذات قمّة رفيعة ( 5175 مترا ) عرفت بـ « آراراط » . شاع عند الأرامنة ـ القاطنين في المنطقة ـ أنّها مرسى سفينة نوح ، و أخذ عنهم العرب من غير تحقيق .
و يرجع هذا الشياع إلي عهدٍ متأخّر ( منذ القرن العاشر بعد الميلاد ) حيث ترجمت عبارة التوراة : ( رست السفينة على جبل الأكراد ) بجبل آراراط .
ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مرسى متعيّناً للسفينة ، حتى شوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة ، و جعلت الأوهام تحيك حولها أساطير .
جاء في دائرة المعارف الإسلامية : و المحقّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن و غيرهم من الكُتّاب أنّ جبل « آراراط » لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان . فالرواية الأرمنية القديمة لا تعرف ـ على التحقيق ـ شيئاً على جبل استقرّت عليه فلك نوح . فلمّا أن جاء ذكر جبلٍ في المؤلّفات الأرمنية المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المقدّس ، المتزايد في هذه المؤلّفات. و الكتاب المقدّس هو الذي يقول إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط . و أعلى هذه الجبال و أشهرها جبل « ماسك » ( ماسيس ) و من ثمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل .
أمّا المرحلة الثانية من نموّ هذه الرواية الأرمنية فتُرَدُّ إلي الأوربييّن الّذين أطلقوا اسم آراراط ( بالأرمنية : إيراراط ) و هو اسم ناحية على جبل ماسك ، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسفر التكوين . 45
و إنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ « ماسك » هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة ، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنية في القرنين الحادي عشر و الثاني عشر . و تذهب التفاسير الدينية السابقة على هذا في الزمن ، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل « الجوديّ » أو جبال « جورديين » ( بالسريانية : قردو . و بالأرمنية : كُردُخ ) ـ كما تقول المصادر النصرانية ـ هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح .
و المحقّق أنّ هذا التحديد للمكان الذى استقرّت عليه السفينة ـ و هو التحديد الذي ذكر حتّى في الترغوم ( الترجمة الكلدانية للعهد القديم ) ـ يسند إلي الرواية البابلية . و قد نشأ من الاسم البابلي « برسوس » .
زد على ذلك أنّ جبل « نصر » الذي ذكر في قصّة الطوفان في الكتابات المسمارية يصحّ أيضاً أن يحدّد مكانه في جبال « جورديين » بالمدلول الواسع لهذا الاسم . و قد أخذ النصارى بالرواية البابلية اليهودية القديمة ، و عرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلي إقليم « بهستان » ( بلاد أرمينية ) . و أطلق العرب اسم الجودي ـ الوارد في القرآن ـ في غير تثبّتٍ على جبل « قردو » المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن .
و ما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلي يومنا هذا حافلة ـ كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط ـ بالأساطير و الذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان و حياة نوح بعد إذ غادر السفينة . 46
***
و هكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي ( ت626 ) متأثّراً بتلكمُ الأساطير المسطّرة ، يقول : الجوديّ جبل مُطلٌّ على جزيرة « ابن عمر » في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل . عليه استوت سفينة نوح ( عليه السَّلام ) .
ثم يذكر نصّ التوراة ـ مستشهداً به ـ : « . . . و استقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا و يوم كذا . . . و يقول : هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً » . 47
ما ندري ماذا كان الأصل حتى ترجمه إلى ذلك . و لعلّه لُقن بذلك ـ و هو روميّ الأصل ـ من بعض الأرامنة المسيحيين . و هكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب !
هذا ، و من ورائهم زرافات من المفسّرين سواء في الغابر و الحاضر ـ مع الأسف ـ من غير تريّث و لا تحقيق ، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير ، أشهرها و أشنعها تفسيرهم ذاالقرنين بالإسكندر الكبير !
و من مضاعفات هذا الزعم ـ كما نبّه عليه المحقق الشعراني ـ 48 القول بعموم الطوفان المستحيل . 49 إذ لازمه أن يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات ، حيث رست السفينة ـ بعد ما أخذت المياه في النضوب ـ على قمّة جبل ترتفع خمس كيلومترات !
و ممّا يجدر التنبّه له : أنّ القوم حسبوا من كلمة « الجودي » ـ باعتبارها اسم جبل ـ أنّها أعجمية معرّبة ، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو « جورداين » أو « جورداي » أو « قوردو » أو غيرها ؟
لكن لا مبرّر لهذا الحسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص و لها سابق التعبير في جاهلية العرب . قال أميّة بن أبي الصلت :
سبحانه ثمّ سبحاناً يعود له *** و قبله سبّح الجودي و الجمد
الجودي ـ من الجود ـ : الربوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها و ابلٌ آتت أكلها ضعفين . و الجمُد : الحزنة من الأرض تجمد بنباتها و تبخل سواء أصابها وابل أو طلّ .
قال أبومسلم الإصبهاني : الجودي اسم لكلّ جبلٍ و أرض صلبة . 50 في مقابلة الرخوة أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات و حل ، و كانت ذات بركة عليه حينما نزل بها .
﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 . فأوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ وجود .
و أين هذا من حسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السهلة بخمس كيلومترات ؟!
و هل كان نزوله حينذاك بسلام ٍ و بركاتٍ أم بشقاء و عَناء ؟!
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29
هذه العبارة ﴿ ... وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29 إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعني : و ثار غضب الربّ ، كما يقال : فار فائره إذا اشتدّ غضبه . و بنو فلان تفور علينا قدرهم أي يشتدّ غضبهم علينا .
قال الشاعر :
تفور علينا قِدرُهم فَنديمها *** و نفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا 52
و هكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم و ثارت نائرتهم . فمعنى ﴿ ... وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29 : حمى غضب الربّ و إمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مفجر الماء .
غير أنّ التنّور ـ في أصله ـ اسم لما يخُبز فيه ، و الكلمة فارسيّة و استعملتها العرب بلا تحوير .
قال ابن دريد : التنّور فارسيٌ معرّب . لا تعرف العرب له اسماً غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل لأنهم خوطبوا بما يعرفون .
و قال ابن قتيبة : روى عن ابن عبّاس أنّه قال : التنّور بكلّ لسان ، عربيّ و عجمي . 53
و استعير لمفجر الماء . و التنانير : ينابيع الماء ، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار .
قال الفيروزآبادي : التنّور : كلّ مفجر ماء ، و محفل ماء الوادي أي مجتمعه . و تنانير الوادي محافله ( مواضع تجتمع فيها المياه ) و هي الوهاد و المستنقعات في البراري .
و معنى الآية على ذلك : و فارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها و ثارت .
و هكذا جاء التعبير في سورة القمر ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ 54 .
﴿ ... فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ... ﴾ 55
و هل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل ؟ الأمر الذي لم يكد يكون معروفاً و حتّى في القرون الماضية ، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام و أعمارهم لم تختلف عن أعمارنا و قد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر ، فكيف يكون ذلك ؟
يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أن يعمّر آدم و مَن قرب منه أعماراً طويلة ، لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يحمل هموماً و لم تعتوره الأمراض المختلفة و لم تنهك قوّته الأطعمةُ التـي لا يقدر على هضمها ، فكان من المعقول أن يعيش طويلاً . و أمّا نحن و أمثالنا ممّن كانوا قبل أربعين قرناً فقد جئنا بعد أن أنهكت النوع الإنساني الأمراضُ و طحنته الأدواء . فالواحد منّا عصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه و أمّهاته ، فلم تعد قوانا تتحمّل العمر الطويل .
و عند العلماء بالطبّ و الأحوال الأجتماعية أن الإنسان قواه محدودة و الحياة العريضة تستنفدها بسرعة بخلاف الحياة الضيّقة ، فإنّها تكون طويلة لقلّة ما يستنفد من قوي الأجسام بتلك الحياة . فنحن الآن لا نعيش عيشة البساطة التي كان يعيشها آدم و من قرب منه ، بل نتفنّن في أنواع الطعام و لذائذ المعيشة بما ينهك قوانا ، فلا غرابة أن تكون أعمارنا قصيرة ، و قد اجتمعت عليها الأمراض المتوارثة و التبسيط فـي العيش . و يقول بعض الأطبّاء الألمان : إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً . 56
و هكذا ذكر الشيخ محمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار فـي عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف و المعيشة على بساطتها الأولى غير معقّدة الجوانب و لا كانت مزدحم الأمراض و الأدواء و الشدائد و الآلام حيث كانت طبيعة العمران و معيشة الإنسان الفطرية أسلم للأبدان . 57
﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20
دلّت الآية على أنّه لم يبق بعد الطوفان سوى نوح و بنيه و ذراريه . و حتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به و نجوا من الغَرَق هلكوا و انقرضوا بلا عقب . هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس و قتادة . قال الكلبي : لمّا خرج نوح من السفينة مات مَن كان معه من الرجال و النساء إلاّ ولده و نساءهم . 58 و من ثمّ كان نوح ( عليه السَّلام ) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم ( عليه السَّلام ) .
لكنّه يتنافي و قوله تعالى خطاباً لبني اسرائيل : ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ 59 .
و الموصول عامّ يشمل مَن ركب مع نوح من المؤمنين ، و لا يخصّ ولد صلبه ـ كما قيل ـ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ .
و القول بتشعّب البشر من ولد نوح الثلاثة ( سام ، حام ، يافث ) رواية إسرائيلية بحتة ذكرتها التوراة : « و من هؤلاء تشعّب كلُّ الأرض » . 60
غير أنّها ذكرت أيضاًَ أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بنوه و أزواجهم فحسب 61 ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جداً أو كانوا آمنوا و لكنّهم بقوا ليكونوا مع المغرقين ، و هذا أبعد و أغرب !
فالصحيح ما ذكره القرآن : ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ 62 . فقد ركب معه من المؤمنين جماعة و إن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين . و قد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً . 63
فلا بدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه و نجوا كانوا معه و هبطوا جميعاً بسلام ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 .
و التعبير بالأمم ممّن معه يعطي تناسل الأمم منهم ، منهم المؤمنون كآبائهم و منهم الفاسقون ، و هذا أيضاً مطلقٌ شامل لكلّ من ركب معه و هبط إلى الأرض بسلام .
فالخطاب ـ مع بني إسرائيل ـ بأنّهم ذريّة من حملنا مع نوح ( يعني الذين آمنوا به ) يشمل الجميع .
ثمّ لو كان المراد ذريّة ولد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أولى ، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم !!
و الوجه فيما ذكره الكلبي و غيره أنّه تأثُّرٌ برواياتٍ إسرائيليّة و ينبو عنه ظاهر تعبير القرآن .
بقي قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 يظهر منه أنّ البشرية أصبحت جميعاً من ذرّية نوح و لم يُعقّب الآخرون .
لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام محمّد بن على الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 قال : الباقون بالحقّ و النبوّة و الكتاب و الإيمان في عقبه . قال : و ليس كلّ من في الأرض من بني آدم ، من ولد نوح . و استشهد ( عليه السلام ) بالآية من سورة اسراء : ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ 59 . 64
و هو تأويلٌ وجيه يدعمه قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ 65 و هذا هو معنى البقاء ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ 66 . يعني إبراهيم ( ع ) و قال تعالى : ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ ... ﴾ 67 .
فالبقية الباقية في مصطلح القرآن هم الذين ورثوا الكتاب و النبوّة و الإيمان ، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر . هذا هو البقاء و في غيره الفناء ، الأمر الذي تحقّق في ذريّة نوح و إبراهيم ( عليهما السلام ) .
قال الحسن البصري : هلك المتمتّعون في الدنيا ، لأنّ الجهل يغلب عليهم و الغفلة ، فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا و عمارتها و ملاذّها . . . 68
قال الإمام أميرالمؤمنين عليه صلوات المصلّين : هلك خُزّان الأموال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقى الدهر . 69
نوح ( عليه السلام ) بعد الهبوط
قال تعالى : ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 .
دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ و بركات . فقد أسّس أمّةً و بنى حضارةً من جديد و عمر الأرض و أحيى البلاد و سعي في إعلاء كلمة الله في الأرض على بُنيانٍ مرصوص .
فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تنير درب الإنسان إلي حيث سعادته الخالدة ، و كان التوفيق حليفه في هذا الشطر من حياته الكريمة ، و صار قدوة لمن جاء بعده من الأنبياء . و حتّى أنّ إبراهيم الخليل ( عليه السَّلام ) أصبح من شيعته ، ﴿ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ 70 .
قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ 71 .
و كم عاش نوح بعد الطوفان ؟ القرآن ساكتٌ عنه ، و في الروايات اختلاف ، خمسين إلى خمسمأة عام 72 أو أكثر ممّا لا اعتداد به. 73
المصادر
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصّة الطوفان في التوراة
جاءت قصّة الطوفان في سفر التكوين 1 بصورة تفصيليّة تشبه أن تكون أساطيرية ، و فيها ما ترفضه العقول و تأباه واقعية الحياة ، فضلاً عن منافاتها لأصول الحكمة المهيمنة على مظاهر الوجود .
جاء فيه : أنّ قوم نوح فسدوا وأفسدوا في الأرض ، فغضب الله عليهم و أنذرهم على لسان نوح بعذاب الاستئصال بإرسال الطوفان العارم ، فلم يعبهوا بذلك و ظلّوا يعبثون و يعثون في البلاد .
و لمّا بلغ نوح من العمر ستمائة سنة أمرة الله بصنع الفلك ( في 300 ذراع طولاً و50 ذراع عرضاً و 30ذراعاً في الارتفاع ) .
فجاء الطوفان ، و جعلت ينابيع الأرض تتفجّر و السماء تمطر بغزارة أربعين صباحاً و الماء يرتفع شيئاً فشيئاً على وجه الأرض كلّها حتّى بلغ قمم الجبال الشامخة في كل جوانب الأرض و ارتفع على أشمخ قمّة من الجبال بخمس عشرة ذراعاً ، و بذلك هلك الحرث و النسل و مات كلّ ذي حياة على وجه الأرض من الدوابّ و البهائم و الدبّابات و الزحّافات و حتّى الطير في السماء . و دام الطوفان على وجه الماء حتّى أخذ الماء ينحطّ و يغور فاستقرّت سفينته على جبل « آرارات » بأرمينية . فنزلوا من السفينة و عاش نوح بعد ذلك ثلاثمائة و خمسين عاماً ، فكان كلّ أيّام نوح تسعمائة و خمسين سنة . على ما جاء في الإصحاح التاسع عدد 28 .
و كان الذي حمله نوح معه في السفينة ـ غير أهله و ذويه ـ أزواجاً ( ذكراً و اُنثى ) من كلّ أنواع الحيوانات لئلاّ ينقرض نسلها و تبيد من الوجود . « من جميع البهائم و الطيور ذكراً و اُنثى ، لاستبقاء نسلها على وجه كلّ الأرض » . 2
و هذا يعني : أنّ جميع الأحياء هلكوا على أثر الغَرَق « فمات كلّ ذي جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور و البهائم و الوحوش و كلّ الزحّافات التى كانت تزحف على الأرض و جميع الناس ، كلّ ما في أنفه نسمة روح الحياة فيما في اليابسة مات » . 3
و ذلك أنّ الماء غمر وجه الأرض كلّها و طغى على أعالي الجبال الشامخة في كل أكناف الأرض « و تعاظمت المياه كثيراً جداً على الارض فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كلّ السماء خمس عشرة ذراعاً في الارتفاع فتغطّت كلّ الجبال » . 4
حادث الطوفان في القرآن
و حاشا القرآن أن يساير التوراة ( المتداولة ) في سرد أقاصيص أسطورية واهية ، و إنّما هي الواقعيّة ينتقيها و ينبذ الأوهام الخرافية و التي أحدقت بها على أثر طول العهد .
و إليك الحادث على ما جاء في سورة هود :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 5 6
مواضع عِبر أغفلتها التوراة
جاءت القصّة في التوراة كسائر الأحداث التاريخية القديمة مشوّهةً في خِضمًّ من خرافات بائدة و من غير أن تتأكّد على مواضع العِبر منها ، بل و أغفلتها في الأكثر . أمّا القرآن فبما أنّه كتاب هداية و عِبر نراهُ يقتطف من أحداث التاريخ عبرها و يجتني من شجرة حياة الإنسان السالفة يانع ثمرها ، فليتمتّع الإنسان بها في حياته الحاضرة في شعفٍ و هناء .
و قد أغفلت التوراة جانب زوجة نوح و ابنه اللذين شملهما العذاب بسوء اختيارهما . إنّها عِبرةٌ كبرى ، كيف يغفل الإنسان أوفر إمكانيّات الهداية و الصلاح ، و ينجرف بسوء اختياره مع تيّار الضلالة و الفساد ، و في النهاية الدمار و الهلاك !!
ذكر السيّد ابن طاووس : أنّه كان لنوح زوجان إحداهما وفيّة و أخرى غبيّة ، فركبت الصالحة مع أبنائها السفينة ، و هلكت الأخرى الطالحة مع الآثمين . 7
قال الله تعالى عنها و عن زوج لوط : ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ 8 .
و كانت خيانتهما هي المسايرة مع الكافرين و نبذ معالم الهداية التي كانت في متناولهما القريب .
و ابن نوح يقول عنه تعالى : أنّه ليس من أهله . لا يصل للانتساب إليه بهذا العنوان الفخيم ( أهل نوح ) لأنّه عملٌ غير صالح ، إنّه حصيلة أعماله غير الصالحة ، ومن ثَمَّ فإنّه كان يعيش خارج الإطار الذي كان يعيشه نوح و أهله .
و هذا أيضاً من أعظم العِبر ، كيف ينحدر الإنسان من أعلى قمم الهداية و التوفيق لينخرط مع البائسين الحيارى لا يهتدون سبيلاً ؟!
أمّا و كيف ابتغى نوح نجاة ابنه هذا و هو يعلم ما به من غواية الضلال ؟ فهذا يعود إلى حنان الأبوّة و رحمة العطوفة التي كان يحملها نوح ( عليه السَّلام ) لاسيّما مع ما وعدهُ اللهُ بنجاة ّأهله ، فلعلّه شملته العناية الربّانية و أصبح من المرحومين . و من ثَمَّ جاءته الإجابة باليأس و أنّه لا يصلح أن يكون أهلاً له و كان محتّماً عليه أن يمسي من المرجومين .
هل عمّ الطوفانُ وَجْهَ الارْض ؟
صريح التوراة أنّ الطوفان عمّ وجه لأرض و أهلك الحرث و النسل و حتّى الطير في السماء .
و ليس في القرآن دلالة و لا إشارة إلى ذلك ، بل على العكس أدلّ ، و أنّ الطوفان إنّما عَمَّ المنطقة التي كان يعيشها قوم نوح ولم يتجاوزها .
جاء في سورة الأعراف : ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ 9 الى قوله : ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ ﴾ 10 .
فالذين كان يُخافُ عليهم عذابَ يومٍ عظيم ممّن كذّبوهُ و كانوا قوماً عمين ، كانوا هم المغرقين .
و لا دلالة فيها على غَرَق آخرين من أقوامٍ لو كانوا مبعثرين عاشين في سائر أقطار الأرض ممّن لم تبلغهم دعوة نوح ولم يكن مرسلاً إليهم .
هذا فضلاً عن سائر الحيوان من الزحّافات و الدبّابات المنتشرة في وجه الأرض ، و كذا الطير في الهواء . ممّا لا شأن لها و رسالات الأنبياء و لا وجه لأن يعمّها العذاب و هو عقاب على معصية لا مساس لها بغير الإنسان .
الأمر الذي يؤخذ على التوراة أشدّ الأخذ ! و لا سيّما بذاك الوصف الذي وصفته : غمر الماء وجه الأرض كلها و ارتفع حتّى غمر قمم الجبال الشامخات و علاهنّ بخمس عشرة ذراعاً ( سبعة أمتار ) ! نقض فرضية الشمول ؟
يقول «وُلتر» ـ الكاتب الناقد الفرنسي ( 1694 – 1778م ) بصدد تسخيف أسطورة الطوفان على ما وصفته التوراة ـ : كان يجب لمثل هذا التضخّم من الماء المتراكم على وجه الأرض أن تضطمّ اثنا عشر بحراً ، كلٌّ في سعة البحر الأطلانتي المحيط ، بعضها فوق بعض ، ليكون الأعلى في حجم أكبر بأربع و عشرين ضعفاً ، و هكذا حتّى تجتمع في مثل هذا الماء المتراكم ليغمر شامخات الجبال !
و يزيد ـ مستخفّاً عقيلة مسطّر هذه الأساطير و ناقماً على الذين اعتنقوها باعتبارها وحياً من السماء ( وحاشاه ) ـ : يكفي بذلك معجزة خالدة لا حاجة معها إلى سائر المعاجز ، حيث لا مثيل لها في خرق نواميس الكون !! .
و يقول آخر : أنّ المحاسبات العلمية الدقيقة تعطينا : أنّ الأبخرة المنبثّة في أجواء الأرض لو تكثّفت جميعاً و هطلت أمطاراً لما كانت تكفي لأن تغمر و تعلو عن وجه الأرض بأكثر من بضع سانتي مترات ، فكيف بجبال شامخات ؟!
يقول الدكتور «شفا» : لو كانتِ السماء تهطل بأمطارها أربعين صباحاً ـ كما هو نصّ التوراة ـ لما كاد أن يغمر هَضبة ما بين النهرين ـ على صغرها ـ فكيف بغمر وجه الأرض و أن يعلو قمم الجبال ؟! و جبل « آرارات » يرتفع عن سطح البحر بأكثر من خمس كيلو مترات ما يكاد أن يغمره ، فكيف بسائر الجبال الشامخة ؟! 11
الطوفان ظاهرة طبيعية حيث أرادها الله
نعم ، كان حادث الطوفان ظاهرة طبيعية و على ما وصفه القرآن ممّا لا يكاد الغمز فيه .
كان قد مرّ على حياة الأرض في أدوارها الأولى كثير من تغيّرات جوّية مفاجئة ، كان وجه الأرض مسرحاً لتناوب هطول أمطار غزيرة و سيول هائلة منحدرة من أعالي الجبال كادت تغمّ الهضاب و الوديان و المناطق المنخفضة من سطح الأرض . و كان طوفان نوح إحدى تلكمُ الظواهر الكونية حدثت بإذن الله ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ 12 . فانحدرت سيول هائجة عبى سفوح الجبال و تفجر ينابيع الأرض المشبعة بالأمطار ، و هكذا أحاط الماء الهائم بقوم نوح و سد عليهم طرق النجاة . و حتى ابن نوح حاول اللجوء إلى أعالي المرتفعات لو لا أن جابهته سيول هائجة لتصرعه إلى حيث مهوى الهلاك ، بل وحتّى لم يجد فرصة التريّث فيما كان ينصحه أبوه ، و حال بينهما الموج فكان من المغرقين .
و في تواريخ الاُمم ما يسجّل حدث طوفانا هائلة جرفت بقسط من الحياة ، و لعلّه لتراكم الفساد و الشرّ في تلكمُ البقاع . فمن قدماء الفرس : أنّ طوفاناً هائلاً عمّ أرض العراق إلى حدود كردستان . و هكذا روي عن قدماء اليونان . و الهنود أثبتوا وقوع الطوفان سبع مرّات شمل شبه الجزيرة الهنديّة . و يروى تعدّد الطوفان عن اليابان و الصين و البرازيل و المكسيك و غيرهم . و يروى عن الكلدانيين ـ و هم الذين وقع طوفان نوح في بلادهم ـ : أنّ المياه طغت على البلاد و جرفت بالحرث و النسل . فقد نقل عنهم « برهوشع » و « يوسيفوس » : أنّ « زيزستروس » رأى في الحلم بعد موت أبيه « أوتيرت » أنّ المياه ستطغى و تغرق الناس كلّهم ( ممّن كان يعيش هناك طبعاً ) . فأمر بصنع سفينة يعتصم فيها هو و ذووه ، ففعل . و قد كان هناك جبابرة طغوا في البلاد و أكثروا فيها الفساد فعاقبهم الله بالطوفان و الاستئصال .
و قد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نُقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسمارية في عصر « آشوربانيبال » من نحو ( 660 ) سنة قبل ميلاد المسيح و أنّها منقولة من كتابةٍ قديمة من القرن السابع عشر قبل الميلاد أو قبل ذلك . و من ثَمَّ فهي أقدم من كتابة سفر التكوين ( يرجع تدوينه إلى عام 536 قبل الميلاد بعد الرجوع من سبي بابل ) .
و يروي اليونان خبراً عن الطوفان أورده « أفلاطون » و هو : أنّ كهنة مصر قالوا للحكيم اليوناني « سولون » أنّ السماء أرسلت طوفاناً غيّر وجه الأرض مراراً فهلك الناس ( ممّن عمروا البلاد في المنطقة ) و انمحت آثارهم ولم يبق للجيل الجديد شيء من تلكمُ الآثار و المعارف . و أورد « مانيتيون » خبر طوفان حدث بعد « هرمس » الأوّل الذي كان بعد « ميناس » الأوّل . و هو أقدم من تاريخ التوراة أيضاً . 13
و هكذا جاء خبر الطوفان في « اُوستا » كتاب المجوس . 14
و جاء في كتاب « تاريخ الأدب الهندي » الجزء الأوّل المختصّ بالثقافة الوثنية الهندية ، للسيّد أبي نصر أحمد الحسيني البهوبالي الهندي ( مخطوط ) ص 42 و 43 ، في الباب الخامس ، و عنوانه « برهمانا و أوبانبشاء » :
و ممّا يلف النظر في « ساتا بانا برهمانا » قصّة الطوفان ، التي بيّنت في ضمن الضحايا . و القصّة و إن اختلفت من وجوه كثيرة عمّا في القرآن و التوراة ، و إن لم توجد شواهد قاطعة تربط القصّة الهندية مع السامية . توجب الاهتمام . .
ففي هذه القصّة البرهمانية يقوم « مانو » بدور نبيّ الله نوح ( عليه السَّلام ) في القرآن و في التوراة . و « مانو » اسمٌ نالَ التقديس و الاحترام في أدب الثقافة بأسره من الوثنيين ، فهو : ابن الله ، و مصدر جميع الناس و جدّهم الاُسطوري .
و خلاصة القصّة : أنّه بينما كان « مانو » يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة ، و ممّا اندهش به « مانو » أنّ السمكة كلّمته و طلبت إنقاذها من الهلاك ، و وعدته جزاءً عليه أنّها ستنقذه في المستقبل من خطرٍ عظيم . و الخطر العظيم المحدق الذي أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات . و على ذلك حفظ « مانو » السمكة في « المرتبان » . فلمّا كبرت السمكة أخبرت مانو عن السنة التي سيأتي فيها الطوفان ، ثم أشارت عليه أن يصنع سفينة كبيرة ، و يدخل فيها عند طغيان الماء ، قائلةً : أنا أنقذك من الطوفان . فمانو صنع السفينة ، و السمكة كبرت أكثر من سعة « المرتبان » ، لذلك ألقاها « مانو » في البحر . ثمّ جاء الطوفان كما أنبأت السمكة . و حين دخل « مانو » السفينة ، عامت السمكة إليه ، فربط السفينة بقرن على رأس السمكة ، فجرّتها إلى الجبال الشمالية . و هنا ربط « مانو » السفينة بشجرة . و عندما تراجع الماء و خفّ ، بقي «مانو» بوحدته . 15
فذلكة الكلام : إنّ فيما أنبأت به الاُمم وحدّثت به الأجيال من حوادث جوّية خطيرة داهمت الحياة البشرية الأولى و كان فيها الهلاك و الدمار و منها حادث الطوفان في كرّات و مرّات لَيُشْرفْ بالاطمئنان على تحقّق الحادث إجماليّاً و لو يكن بذلك الشكل الأساطيري المنقول ، شأن سائر القصص البائدة حيكت حولها مخاريف ، الأمر الذي لا يوجب إنكارها من رأس . و لا سيّما أنّ مثل حادث الطوفان كان طبيعيّاً أن يهاجم حياة الإنسان و يواجهه بالنكبات في الأيام الأولى بكثرة ، و لا يزال ينتاب وجه الأرض بعد حينٍ و آخر .
و ربما كان من أعظمها و أشملها طوفان نوح ، عمّ المنطقة و دمّر وأباد . هذا شيءٌ لا مساغ لإنكاره ، بعد كونه طبيعيّاً و أخبر به الصادق الأمين .
أمّا الزيادات التي جاءت في الأساطير القديمة و نقلتها التوراة على علاّتها فهذا شيءٌ نستخلص منه و نبذه كما نبذه القرآن و استخلص الحادث صافياً جليّاً . الأمر الذي اختصّ به القرآن و كان نبأً غيبيّاً لا يعلمه أيّ إنسان ذلك الحين . ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ 16 .
أي لا تعلمها بهذا الخُلوص و الجلاء . أمّا صورتها المشوّهة فكان يتداول بها أقوامٌ جاهلون بحقيقة الأمر .
لا شاهد على شمول الطوفان
لاشكّ أنّ شواهد الطبيعة لا تدع مجالاً لاحتمال شمول الطوفان ، و لا سيّما بذلك الارتفاع الهائل ! كما لا موجب لتناول الإعجاز لمثل هذا الحدّ غير الضروري قطعيّاً .
بقي ظاهر النصّ ( التعابير الواردة في القرآن الكريم ) ممّا حسبه البعض ذا دلالة أو إشارة إلى ذلك ، فضلاً عن قرائن اُخرى :
قال الشيخ محمّد عبده : و أمّا مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان و أهل النظر في طبقات الأرض ، و موضوع خلاف بين مؤرّخي الاُمم . أمّا أهل الكتاب و علماء الأمّة الإسلامية فعلى أنّ الطوفان كان عامّاً لكلّ الأرض . و وافقهم على ذلك كثير من أهل النظر . و احتجّوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف و الأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال ، لأنّ هذه الأشياء ممّا لا تتكّون إلاّ في البحر ، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أنّ الماء صعد إليها مرّةً من المرّات ، و لن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض . 17
و قال السيّد الطباطبائي : الحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم ـ ظهوراً لا ينكر ـ أنّ الطوفان كان عامّاً للأرض ، و أنّ من كان عليها من البشر اٌغرقوا جميعاً . . .
و من شواهد الآيات التي استند إليها قوله تعالى ـ حكايةً عن نوح ـ ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ 18 ، و قوله : ﴿ ... لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ 19 ، و قوله : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 .
قال : و من الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من الأمر بأن يحمل من كلًّ زوجين اثنين . 21 و من الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بالمنطقة ( أرض العراق كما هو معروف ) لم تكن حاجة إلى ذلك . 22 نظراً لإمكان تداوم النسل بسائر أفراد النوع المنبّثة في أقطار الأرض حينذاك .
آثار جيلولوجية ؟
لكن وجود الفسايل و بقايا متحجّرة لحيوانات مائية و هكذا آثار الردم المشاهد في أعالي بعض الجبال لا يصلح شاهداً لصعود الماء إليها إذ لا يكفي لحدوث هذه الآثار و وجوده هذه البقايا صعودُ الماء أيّاماً معدودة و لفترة قصيرة ، بل و من المحتمل القريب أنها من بقايا رسوبية كانت يوماً مّا تحت البحر و على ضفافه ، غير أنّ التغيّرات الجيولوجية و التمعّجات الحاصلة على قشرة الأرض على أثر الزلازل و غيرها هي التي أوجبت تغّيراً في وجه الأرض ، فمنها ما ارتفع بعد ما كان مغموراً ، أو انغمر بعد ما كان علياً ، و هكذا تعرجّات حدثت على الأرض و لا سيّما في الفترات الأولى على أثر انخفاض حرارة سطح الأرض .
قال الشيخ محمّد عبده : إنّ وجود الأصداف و الحيوانات البحرية المتحجّرة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنّه كان من أثر تكوّن الجبال و غيرها من اليابسة في الماء . فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها . 17
﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ 18
أخذوا من هذه الآية دليلاً على الطوفان و شموله لوجه الأرض كلّها .
قال الشيخ محمّد عبده : ليست الآية نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها ، فإنّ المعروف في أخبارهم أن تذكر الأرض و يراد بها أرضهم و وطنهم ، كقوله تعلى حكايةً عن خطاب فرعون لموسى و هارون : ﴿ ... وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ... ﴾ 23 يعنى أرض مصر ، و قوله : ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ... ﴾ 24 فالمراد بها مكّة ، و قوله : ﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ 25 و المراد ديار فلسطين ، و الشواهد على ذلك كثيرة .
قال : و ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن و التقاليد الموروثة عن أهل الكتاب ، على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلاّ قومه ـ« و هو في أوّليات حياة البشر » ـ و إنهّم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيته . و هذا يقضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها و جبالها ، لا في الأرض كلّها . إلاّ إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين و بوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين و طبقات الأرض ( الجيولوجية ) يقولون : إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ثمّ صارت كرة مائية ، ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج . 26
و بذلك ظهر عدم دلالة الآية ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 على شمول الطوفان لعامّة وجه الأرض ، بعد فرض محدودية نطاق النسل البشري آنذاك ( في عهدٍ بعيد جدّاً ) و عدم الانتشار في أقطار الأرض . و لا نتسلّم بما حدّدته التوراة من التاريخ القريب و لا مستند لها .
﴿ ... لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ 19
شاهدٌ آخر التمسوه دليلاً على عموم الطوفان .
قال تعالى : ﴿ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ 27 .
في هذه الآية موضعان يمكن الاستناد إليهما تدليلاً على شمول الطوفان :
1 ـ التعبير بالموج الهائل كالجبال ، ممّا لا يحدث إلاّ في متّسع من خضمّ الماء المتراكم .
2 ـ محاولة ابن نوح للصعود إلى جبلٍ يعصمه من الماء ، و لكن نوحاً أنذره أن لا عاصم اليوم . و معنى ذلك أنّ الماء سيغطّي الجبال أيضاً و لا يذر موضعاً يأوي إليه . و هكذا ابتلعه الموج الهائم فكان من المغرقين .
لكن لاشكّ أنّ هضبة كبيرة واسعة الأرجاء إذا ازدحمت عليها المياه واكتنفتها السيول العارمة من كلّ جانب و فاضت ينابيع الأرض فإنّ الماء ليجول و يصول في ساحتها و ربّما ارتفعت إلى عشرات الأمتار . و في مثل هذا الخضمّ من الماء الهائم و الذي في عرضة الطوفان و هبوب رياح عاصف لابدّ أنّ تحصل أمواج عالية و عاتية تلوي على كل شيء . لا بد أن ابن نوح كان واقفا على مرتفع من الارض ليرى تجوال السفينة على وجه الماء ، و حينما كلّمه أبوه ـ و هو راكبٌ في السفينة ـ لم يعبه بنصح أبيه ، و أنّه سوف يأوي إلى أعالي الجبال . لكنّه غافلٌ أنّ السيول الهائمة المنحدرة على سفوح الجبال سوف تلوي به إلى أعماق الغرق ، و بالفعل نزلت به النازلة و حال بينه و بين أبيه الموج فكان من الهالكين .
و ليس في ذلك دلالة على أنّ الماء سوف يرتفع على قمم الجبال الشامخة في كلّ مناحي الأرض .
و هكذا رجّح العلاّمة الشعراني أنّ الماء لم يرتفع في أرض الطوفان ( هضبة ما بين النهرين ) أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً ، ممّا لا يمكن غشيانه قلل جبال رفيعة كقلّة آرارات من سلسلة جبال جودي . 28
﴿ ... قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29
شاهدٌ ثالث أخذوه دليلاً على عموم الطوفان :
قال العلاّمة الطباطبائي : هذا كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الذي هو بمنزلة الجميع . قال : و لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض و ناحيةٍ من نواحيها ـ كالعراق على ماقيل ـ لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين . 30
و هذا المعنى قائم على أساس ما حسبه المفسّرون في سبب حمل زوجين من كلّ جنس من الحيوان لعلّة لاستبقاء نسلها لئلاّ تنقرض . قال صاحب المنار : و التقدير ـ على قراءة حفص [ بتنوينِ كلًّ ] ـ : احمل فيها من كلُّ نوعٍ من الأحياء أو الحيوان زوجين اثنين ذكراً و إنثى ، لأجل أن تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل و يبقى نوعُها على الأرض . 31
و عامّة المفسّرين على ذلك ، و لعلّهم متأثّرون بنصّ التوراة و توارد الإسرائيليات بهذا المعنى . جاء في سفر التكوين : و من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعةً سبعةً ذكراً و اُنثى ، لاستبقاء نسلٍ على وجه كلّ الأرض . 32 و هكذا ورد في الإسرائيليات . 33
و لكن ما قدر السفينة حتّى يحمل فيها مثل هذا بعدد الجمّ من أنواع الحيوان الأهلية والوحشية و الحشار و الطيور لئلاّ ينقرض نسل الأحياء . بل و في هذه الروايات : حمل الأزواج من أنواع النبات و الشجر و الأعشاب ، و هو من الغرابة بمكان !!
و بحقًّ قال سيّد قطب : و مرّة اُخرى تنفرّق الأقوالُ حول ﴿ ... مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29 . و تشيع في الجوّ رائحة الإسرائيليات قويّة .
و تعقّبه بقوله : أمّا نحن فلا ندع الخيال يلعب بنا و يشتطّ حول النصّ ﴿ ... احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 29 ممّا يملك نّوح أن يُمسك و أن يستصحب من الأحياء ، و ما وراء ذلك خبط عشواء . 34
و هذا هو الرأي الصحيحُ ، فقد رخّص الله لنوح أن يحمل معه ما يملكه من الحيوانات الأهلية بقدر ما يحتاج إليه من زادٍ و راحلة ، و لا يثقل حمله حتّى تعود الأحوال إلى أوضاعها الأولى . و أمّا سائر الأحياء الأهلية و الوحش فتتشرّد لوجهها و لا تبقى في المنطقة المصابة بالحادث ، كما هو مألوف . هذا ما يدّل عليه نصّ القرآن لا أكثر .
و الزوجان ـ في الأية ـ يراد به المتعدّد في تشاكل ، أي من كلّ جنسٍ عدداً يفي لتأمين الحاجة بها .
و هذا نظير قوله تعالى : ﴿ ... وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 35 ( في الارض ) أي من كلّ نوعٍ في أشكالٍ و ألوانٍ متقاربةٍ و متنوّعة ، كالتفّاحة في أشكالها و ألوانها ، و هكذا الليمون و الرّمان و سائر الفواكه من كلّ نوعٍ فيها أزواج متشابهة . كما قال تعالى : ﴿ ... وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ... ﴾ 36 أي متشاكلاً و غير متشاكل .
و جاء في وصف فواكه الجنّة : ﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴾ 37 أي صنفان متشاكلان . و المراد المتعدّد في أشكالٍ و أصناف ، كما قال : ﴿ ... وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ... ﴾ 38 أي متشاكلاً .
و من الواضح أنّ الثمرة ـ و هي الفاكهة ـ ليس فيها ذكر و لا انثى و لا تزاوج لقاح ، و انما ذاك في بذور الازهار لا في الفواكه و الثمار .
على أنها لغة دارجة : أن يراد بالمثنى الشياع في الجنس لا الاثنان عددا . قال ابو علي : الزوجان في قوله : من كل زوجين يراد بهما الشياع و ليس يراد بهما عدد الاثنين ، كما قال الشاعر :
فاعمد لما يعلو فمالك بالذي *** لا تستطيع من الاُمور يدان
يريد : الأيدي و القوى الكثيرة حتّى يستطيع من الاُمور .
قال : و يبيّن هذا المعنى أيضاً قول الفرزدق :
و كلّ رفيقي كلّ رحل و إن هما *** تعاطى القنا قوماً هما أخَوان 39
إذ رفيقان اثنان يكونان رفيقي كلّ رحل ، و إنما يريد الرفقاء كلّ واحد مع صاحبه يكونان رفيقين .
و أمّا وصف الزوجين بالاثنين فلإرادة التأكيد و التشديد في المتبوع ، كما قال تعالى : ﴿ ... لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ... ﴾ 40 خطاباً مع المشركين ، نهى عن اتخاذ الآلهة ، و مع ذلك جاء تأكيده بالاثنين ، زيادةً في المبالغة . 41 و من ثمّ عقّبه بقوله : ﴿ ... إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ 40 .
و إنّما جاء بالتثنية باعتبار اتخاذ إلهٍ آخر معه سبحانه ، أي لا تتّخذوا مع الله إلهاً آخر ، و المعنى : النهي عن التعدّد في الآلهة و إن كان في صياغة المثنّى 42 و قد بحثنا عن إرادة الشياع من المثنّى بتفصيل فليرجع إليه . 43 فيما توهّم من المخالفة مع العلم .
﴿ ... وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ... ﴾ 44
يقال : إنّه تعريب « جورداي » اليونانية ، اسم لسلسلة جبال تمتدّ من شمالي العراق فإلى تركيا و بلاد أرمينية ذات قمّة رفيعة ( 5175 مترا ) عرفت بـ « آراراط » . شاع عند الأرامنة ـ القاطنين في المنطقة ـ أنّها مرسى سفينة نوح ، و أخذ عنهم العرب من غير تحقيق .
و يرجع هذا الشياع إلي عهدٍ متأخّر ( منذ القرن العاشر بعد الميلاد ) حيث ترجمت عبارة التوراة : ( رست السفينة على جبل الأكراد ) بجبل آراراط .
ولم تكن الأرامنة تعرف لذلك الوقت مرسى متعيّناً للسفينة ، حتى شوّهت عليهم هذه الترجمة الخاطئة ، و جعلت الأوهام تحيك حولها أساطير .
جاء في دائرة المعارف الإسلامية : و المحقّق من كتابات كثير من المؤلّفين الأرمن و غيرهم من الكُتّاب أنّ جبل « آراراط » لم يكن له حتّى القرن العاشر صلة مّا بحادث الطوفان . فالرواية الأرمنية القديمة لا تعرف ـ على التحقيق ـ شيئاً على جبل استقرّت عليه فلك نوح . فلمّا أن جاء ذكر جبلٍ في المؤلّفات الأرمنية المتأخّرة تبيّن أنّ ذلك كان بتأثير الكتاب المقدّس ، المتزايد في هذه المؤلّفات. و الكتاب المقدّس هو الذي يقول إنّ السفينة استقرّت على جبال أراراط . و أعلى هذه الجبال و أشهرها جبل « ماسك » ( ماسيس ) و من ثمّ فلابدّ أنّ نوحاً قد حطّ بسفينته على هذا الجبل .
أمّا المرحلة الثانية من نموّ هذه الرواية الأرمنية فتُرَدُّ إلي الأوربييّن الّذين أطلقوا اسم آراراط ( بالأرمنية : إيراراط ) و هو اسم ناحية على جبل ماسك ، استناداً على تفسيرٍ خاطئ لسفر التكوين . 45
و إنّما أخذت الرواية القائلة بأنّ « ماسك » هو الجبل الذي استقرّت عليه السفينة ، تجد مكاناً في المؤلّفات الأرمنية في القرنين الحادي عشر و الثاني عشر . و تذهب التفاسير الدينية السابقة على هذا في الزمن ، إلى أنّ الجبل المعروف الآن بجبل « الجوديّ » أو جبال « جورديين » ( بالسريانية : قردو . و بالأرمنية : كُردُخ ) ـ كما تقول المصادر النصرانية ـ هو المكان الذي رست عليه سفينة نوح .
و المحقّق أنّ هذا التحديد للمكان الذى استقرّت عليه السفينة ـ و هو التحديد الذي ذكر حتّى في الترغوم ( الترجمة الكلدانية للعهد القديم ) ـ يسند إلي الرواية البابلية . و قد نشأ من الاسم البابلي « برسوس » .
زد على ذلك أنّ جبل « نصر » الذي ذكر في قصّة الطوفان في الكتابات المسمارية يصحّ أيضاً أن يحدّد مكانه في جبال « جورديين » بالمدلول الواسع لهذا الاسم . و قد أخذ النصارى بالرواية البابلية اليهودية القديمة ، و عرفها العرب منهم عندما وصلوا بفتوحاتهم إلي إقليم « بهستان » ( بلاد أرمينية ) . و أطلق العرب اسم الجودي ـ الوارد في القرآن ـ في غير تثبّتٍ على جبل « قردو » المعروفة بذلك منذ أقدم الزمن .
و ما زالت المنطقة المحيطة بجبل الجودي إلي يومنا هذا حافلة ـ كالمنطقة المحيطة بجبل آراراط ـ بالأساطير و الذكريات المتّصلة بقصّة الطوفان و حياة نوح بعد إذ غادر السفينة . 46
***
و هكذا نرى الجغرافيّ الكبير ياقوت الحموي ( ت626 ) متأثّراً بتلكمُ الأساطير المسطّرة ، يقول : الجوديّ جبل مُطلٌّ على جزيرة « ابن عمر » في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل . عليه استوت سفينة نوح ( عليه السَّلام ) .
ثم يذكر نصّ التوراة ـ مستشهداً به ـ : « . . . و استقرّت السفينة على الجودي في شهر كذا و يوم كذا . . . و يقول : هذا تعريب التوراة حرفاً حرفاً » . 47
ما ندري ماذا كان الأصل حتى ترجمه إلى ذلك . و لعلّه لُقن بذلك ـ و هو روميّ الأصل ـ من بعض الأرامنة المسيحيين . و هكذا لقّن أبناء الإسلام بأوهام جاءتهم من قبل أهل الكتاب !
هذا ، و من ورائهم زرافات من المفسّرين سواء في الغابر و الحاضر ـ مع الأسف ـ من غير تريّث و لا تحقيق ، وكم له من نظائر في مواضع من التفسير ، أشهرها و أشنعها تفسيرهم ذاالقرنين بالإسكندر الكبير !
و من مضاعفات هذا الزعم ـ كما نبّه عليه المحقق الشعراني ـ 48 القول بعموم الطوفان المستحيل . 49 إذ لازمه أن يكون الماء قد غمر رؤوس الجبال الشامخات ، حيث رست السفينة ـ بعد ما أخذت المياه في النضوب ـ على قمّة جبل ترتفع خمس كيلومترات !
و ممّا يجدر التنبّه له : أنّ القوم حسبوا من كلمة « الجودي » ـ باعتبارها اسم جبل ـ أنّها أعجمية معرّبة ، فراحوا يجوبون البلاد علّهم يعثروا على ذلك الأصل أهو « جورداين » أو « جورداي » أو « قوردو » أو غيرها ؟
لكن لا مبرّر لهذا الحسبان بعد أن كان لهذه الكلمة أصل عربي خالص و لها سابق التعبير في جاهلية العرب . قال أميّة بن أبي الصلت :
سبحانه ثمّ سبحاناً يعود له *** و قبله سبّح الجودي و الجمد
الجودي ـ من الجود ـ : الربوة من الأرض تجود بنباتها إذا أصابها و ابلٌ آتت أكلها ضعفين . و الجمُد : الحزنة من الأرض تجمد بنباتها و تبخل سواء أصابها وابل أو طلّ .
قال أبومسلم الإصبهاني : الجودي اسم لكلّ جبلٍ و أرض صلبة . 50 في مقابلة الرخوة أي استقرّت على مرتفع من الأرض غير ذات و حل ، و كانت ذات بركة عليه حينما نزل بها .
﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 . فأوّل مفاتح البركات نزوله بأرضٍ ذات بركةٍ وجود .
و أين هذا من حسبان نزوله في أعالي جبالٍ شامخاتٍ ترتفع عن الأرض السهلة بخمس كيلومترات ؟!
و هل كان نزوله حينذاك بسلام ٍ و بركاتٍ أم بشقاء و عَناء ؟!
﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29
هذه العبارة ﴿ ... وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29 إمّا كناية عن فورة سخطه تعالى بمعني : و ثار غضب الربّ ، كما يقال : فار فائره إذا اشتدّ غضبه . و بنو فلان تفور علينا قدرهم أي يشتدّ غضبهم علينا .
قال الشاعر :
تفور علينا قِدرُهم فَنديمها *** و نفثؤها عنّا إذا حَمْيُها غلا 52
و هكذا فار تنّورهم أي احتدّ سخطهم و ثارت نائرتهم . فمعنى ﴿ ... وَفَارَ التَّنُّورُ ... ﴾ 29 : حمى غضب الربّ و إمّا أن نأخذ التعبير على حقيقته ليكون التنّور مفجر الماء .
غير أنّ التنّور ـ في أصله ـ اسم لما يخُبز فيه ، و الكلمة فارسيّة و استعملتها العرب بلا تحوير .
قال ابن دريد : التنّور فارسيٌ معرّب . لا تعرف العرب له اسماً غير هذا ، فلذلك جاء في التنزيل لأنهم خوطبوا بما يعرفون .
و قال ابن قتيبة : روى عن ابن عبّاس أنّه قال : التنّور بكلّ لسان ، عربيّ و عجمي . 53
و استعير لمفجر الماء . و التنانير : ينابيع الماء ، حيث تفور كما يفور التنّور بالنار .
قال الفيروزآبادي : التنّور : كلّ مفجر ماء ، و محفل ماء الوادي أي مجتمعه . و تنانير الوادي محافله ( مواضع تجتمع فيها المياه ) و هي الوهاد و المستنقعات في البراري .
و معنى الآية على ذلك : و فارت تنانير الأرض أي فاضت ينابيعها و ثارت .
و هكذا جاء التعبير في سورة القمر ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ 54 .
﴿ ... فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ... ﴾ 55
و هل يعيش إنسان في مثل هذا العمر الطويل ؟ الأمر الذي لم يكد يكون معروفاً و حتّى في القرون الماضية ، هؤلاء الفراعنة في مصر نجد أجسامهم كأجسام أهل هذه الأيام و أعمارهم لم تختلف عن أعمارنا و قد مرّ لهم أربعون قرناً أو أكثر ، فكيف يكون ذلك ؟
يقول الأستاذ عبد الوهاب النجّار : لا مانع من أن يعمّر آدم و مَن قرب منه أعماراً طويلة ، لأنّ النوع الإنساني كان في بدء نشأته لم يحمل هموماً و لم تعتوره الأمراض المختلفة و لم تنهك قوّته الأطعمةُ التـي لا يقدر على هضمها ، فكان من المعقول أن يعيش طويلاً . و أمّا نحن و أمثالنا ممّن كانوا قبل أربعين قرناً فقد جئنا بعد أن أنهكت النوع الإنساني الأمراضُ و طحنته الأدواء . فالواحد منّا عصارة لآلاف الأمراض التي انتابت آباءه و أمّهاته ، فلم تعد قوانا تتحمّل العمر الطويل .
و عند العلماء بالطبّ و الأحوال الأجتماعية أن الإنسان قواه محدودة و الحياة العريضة تستنفدها بسرعة بخلاف الحياة الضيّقة ، فإنّها تكون طويلة لقلّة ما يستنفد من قوي الأجسام بتلك الحياة . فنحن الآن لا نعيش عيشة البساطة التي كان يعيشها آدم و من قرب منه ، بل نتفنّن في أنواع الطعام و لذائذ المعيشة بما ينهك قوانا ، فلا غرابة أن تكون أعمارنا قصيرة ، و قد اجتمعت عليها الأمراض المتوارثة و التبسيط فـي العيش . و يقول بعض الأطبّاء الألمان : إنّ إنسان هذا الزمان يمكن أن يعيش ثلاثمائة سنة إذا اتّبع نظاماً خاصّاً . 56
و هكذا ذكر الشيخ محمّد عبده في إمكان إطالة الأعمار فـي عهدٍ كانت الحياة غير موسّعة الأطراف و المعيشة على بساطتها الأولى غير معقّدة الجوانب و لا كانت مزدحم الأمراض و الأدواء و الشدائد و الآلام حيث كانت طبيعة العمران و معيشة الإنسان الفطرية أسلم للأبدان . 57
﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20
دلّت الآية على أنّه لم يبق بعد الطوفان سوى نوح و بنيه و ذراريه . و حتّى الذين ركبوا معه في الفُلك ممّن آمن به و نجوا من الغَرَق هلكوا و انقرضوا بلا عقب . هكذا جاءت في الروايات الإسلاميّة عن ابن عباس و قتادة . قال الكلبي : لمّا خرج نوح من السفينة مات مَن كان معه من الرجال و النساء إلاّ ولده و نساءهم . 58 و من ثمّ كان نوح ( عليه السَّلام ) هو الأب الثاني لكافّة البشر بعد آدم ( عليه السَّلام ) .
لكنّه يتنافي و قوله تعالى خطاباً لبني اسرائيل : ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ 59 .
و الموصول عامّ يشمل مَن ركب مع نوح من المؤمنين ، و لا يخصّ ولد صلبه ـ كما قيل ـ إذ لا شاهد عليه في ظاهر تعبير القرآن العامّ .
و القول بتشعّب البشر من ولد نوح الثلاثة ( سام ، حام ، يافث ) رواية إسرائيلية بحتة ذكرتها التوراة : « و من هؤلاء تشعّب كلُّ الأرض » . 60
غير أنّها ذكرت أيضاًَ أنّ الذين ركبوا مع نوح هم بنوه و أزواجهم فحسب 61 ليكون غيرهم لم يؤمنوا به إطلاقاً ممّا يبدو غريباً جداً أو كانوا آمنوا و لكنّهم بقوا ليكونوا مع المغرقين ، و هذا أبعد و أغرب !
فالصحيح ما ذكره القرآن : ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ 62 . فقد ركب معه من المؤمنين جماعة و إن كانوا في قلّة بالنسبة إلى قومه الأكثرين . و قد ذكر المفسّرون أنّهم كانوا ثمانين نفساً . 63
فلا بدّ أنّ هؤلاء الذين ركبوا معه و نجوا كانوا معه و هبطوا جميعاً بسلام ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 .
و التعبير بالأمم ممّن معه يعطي تناسل الأمم منهم ، منهم المؤمنون كآبائهم و منهم الفاسقون ، و هذا أيضاً مطلقٌ شامل لكلّ من ركب معه و هبط إلى الأرض بسلام .
فالخطاب ـ مع بني إسرائيل ـ بأنّهم ذريّة من حملنا مع نوح ( يعني الذين آمنوا به ) يشمل الجميع .
ثمّ لو كان المراد ذريّة ولد نوح الذين ركبوا معه لكان التعبير بذريّة نوحٍ أولى ، من غير ضرورة تدعو إلى هذا الالتواء في التعبير الموهم !!
و الوجه فيما ذكره الكلبي و غيره أنّه تأثُّرٌ برواياتٍ إسرائيليّة و ينبو عنه ظاهر تعبير القرآن .
بقي قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 يظهر منه أنّ البشرية أصبحت جميعاً من ذرّية نوح و لم يُعقّب الآخرون .
لكن في رواية أبي الجارود عن الإمام محمّد بن على الباقر ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ ﴾ 20 قال : الباقون بالحقّ و النبوّة و الكتاب و الإيمان في عقبه . قال : و ليس كلّ من في الأرض من بني آدم ، من ولد نوح . و استشهد ( عليه السلام ) بالآية من سورة اسراء : ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ 59 . 64
و هو تأويلٌ وجيه يدعمه قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ 65 و هذا هو معنى البقاء ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ 66 . يعني إبراهيم ( ع ) و قال تعالى : ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ ... ﴾ 67 .
فالبقية الباقية في مصطلح القرآن هم الذين ورثوا الكتاب و النبوّة و الإيمان ، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر . هذا هو البقاء و في غيره الفناء ، الأمر الذي تحقّق في ذريّة نوح و إبراهيم ( عليهما السلام ) .
قال الحسن البصري : هلك المتمتّعون في الدنيا ، لأنّ الجهل يغلب عليهم و الغفلة ، فلا يتفكّرون إلاّ في الدنيا و عمارتها و ملاذّها . . . 68
قال الإمام أميرالمؤمنين عليه صلوات المصلّين : هلك خُزّان الأموال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقى الدهر . 69
نوح ( عليه السلام ) بعد الهبوط
قال تعالى : ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ 51 .
دلّت الآية على أنّ نوحاً هبط بسلامٍ و بركات . فقد أسّس أمّةً و بنى حضارةً من جديد و عمر الأرض و أحيى البلاد و سعي في إعلاء كلمة الله في الأرض على بُنيانٍ مرصوص .
فقد أخذ من تجارب ماضية دليلاً هادياً له إلى تأسيس معالم جديدة تنير درب الإنسان إلي حيث سعادته الخالدة ، و كان التوفيق حليفه في هذا الشطر من حياته الكريمة ، و صار قدوة لمن جاء بعده من الأنبياء . و حتّى أنّ إبراهيم الخليل ( عليه السَّلام ) أصبح من شيعته ، ﴿ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ 70 .
قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ 71 .
و كم عاش نوح بعد الطوفان ؟ القرآن ساكتٌ عنه ، و في الروايات اختلاف ، خمسين إلى خمسمأة عام 72 أو أكثر ممّا لا اعتداد به. 73
المصادر
- [*=1]1. سفر التكوين ، إصحاح 9 ـ 6 [*=1]2. المصدر : 7 / 4 . [*=1]3. المصدر : 7 / 21 . [*=1]4. المصدر : 7 / 19 . [*=1]5. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآيات : 40 - 48 ، الصفحة : 226 . [*=1]6. التنور : كلمة أعجمية و تطلق في كلام العرب على مفجر المياه . جاء في القاموس : التنّور كلّ مفجر ماء . و الجودي : قال أبو مسلم الاصبهاني : الجودي كل جبل و أرض صلبة . [*=1]7. راجع : سعد السعود لابن طاوس : 239 ؛ و بحارالأنوار : 11 / 342 . [*=1]8. القران الكريم : سورة التحريم ( 66 ) ، الآية : 10 ، الصفحة : 561 . [*=1]9. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 59 ، الصفحة : 158 . [*=1]10. القران الكريم : سورة الأعراف ( 7 ) ، الآية : 64 ، الصفحة : 158 . [*=1]11. راجع : ما كتبه الدكتور شجاع الدين شفا في كتابه « تولّدى ديگر» / 285 منتقداً قصّة الطوفان على ما وردت في الكتب الدينية . [*=1]12. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآية : 11 و 12 ، الصفحة : 529 . [*=1]13. راجع : تفسير المنار لمحمّد عبده : 12 / 105 . [*=1]14. في ترجمتها الفرنسية . راجع : الميزان للطباطبائي : 10 / 267 . [*=1]15. راجع قصص الأنبياء للنجّار : 46 ـ 47 . [*=1]16. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 49 ، الصفحة : 227 . [*=1]17. . تفسير المنار : 12 / 108 . [*=1]18. القران الكريم : سورة نوح ( 71 ) ، الآية : 26 ، الصفحة : 571 . [*=1]19. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 43 ، الصفحة : 226 . [*=1]20. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 77 ، الصفحة : 449 . [*=1]21. : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 40 و سورة المؤمنون ( 23 ) ، الآية : 27 . [*=1]22. راجع تفسير الميزان : 10 / 272 و 274 . و وافقه على ذلك الدكتور محمّد الصادقي في تفسيره الفرقان : 12 / 316 ـ 317 . [*=1]23. القران الكريم : سورة يونس ( 10 ) ، الآية : 78 ، الصفحة : 217 . [*=1]24. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 76 ، الصفحة : 290 . [*=1]25. القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 4 ، الصفحة : 282 . [*=1]26. تفسير المنار : 12 / 106 . [*=1]27. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 42 و 43 ، الصفحة : 226 . [*=1]28. معجم لغات القرآن للعلاّمة أبي الحسن الشعراني ( ملحق تفسير أبي الفتوح الرازي : 11 / 144 ) . [*=1]29. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 40 ، الصفحة : 226 . [*=1]30. تفسير الميزان : 10 / 274 . [*=1]31. تفسير المنار : 12 / 76 . [*=1]32. سفر التكوين ، إصحاح 7 / 2 ـ 3 . [*=1]33. راجع : الدرّ المنثور للسيوطي : 4 / 423 فما بعد . [*=1]34. في ظلال القرآن : 12 / 26, مجلّد 4, ص 548 . [*=1]35. القران الكريم : سورة الرعد ( 13 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 249 . [*=1]36. القران الكريم : سورة الأنعام ( 6 ) ، الآية : 141 ، الصفحة : 146 . [*=1]37. القران الكريم : سورة الرحمن ( 55 ) ، الآية : 52 ، الصفحة : 533 . [*=1]38. القران الكريم : سورة البقرة ( 2 ) ، الآية : 25 ، الصفحة : 5 . [*=1]39. تعاطى مخفف تعاطيا ، حذف اللام للضرورة ، جامع الشواهد : 324 . [*=1]40. . القران الكريم : سورة النحل ( 16 ) ، الآية : 51 ، الصفحة : 272 . [*=1]41. راجع : مجمع البيان للطبرسي : 5 / 161 . [*=1]42. المصدر : 6 / 365 . [*=1]43. فيما يأتي في البحث عن آية ﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ القران الكريم : سورة الذاريات ( 51 ) ، الآية : 49 ، الصفحة : 522 . [*=1]44. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 44 ، الصفحة : 226 . [*=1]45. مجمع البيان للطبرسي : 8 / 4 . [*=1]46. راجع : دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى العربية : 7 / 161 ـ163( الجودي ) . [*=1]47. معجم البلدان : 2 / 179 . [*=1]48. معجم لغات القرآن للشعراني : 11 / 144 . [*=1]49. عادةً في الطبيعة . و لا ضرورة تدعو إلى مثل هذا الإعجاز ! [*=1]50. مجمع البيان : 5 / 165 . [*=1]51. . القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 48 ، الصفحة : 227 . [*=1]52. أساس البلاغة للزمخشري : 2 / 217 . و فثأ القدر ـ بالثاء المثلّثة ـ : إذا صبّ عليه ماءاً بارداً ليفتر غليانُه . [*=1]53. المعرَّب لأبي منصور الجواليقي : 213 . و راجع : جمهرة اللغة لابن دريد : 3 / 502 ، و 2 / 14؛ و أدب الكاتب لابن قتيبة : 384 . [*=1]54. القران الكريم : سورة القمر ( 54 ) ، الآيات : 11 - 13 ، الصفحة : 529 . [*=1]55. القران الكريم : سورة العنكبوت ( 29 ) ، الآية : 14 ، الصفحة : 397 . [*=1]56. قصص الأنبياء للنجّار : 48 . [*=1]57. تفسير المنار : 12 / 104 . [*=1]58. مجمع البيان : 7 / 447 . [*=1]59. . القران الكريم : سورة الإسراء ( 17 ) ، الآية : 3 ، الصفحة : 282 . [*=1]60. سفر التكوين , إصحاح 9 / 18 . [*=1]61. سفر التكوين ، اصحاح 7 / 8 . [*=1]62. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 40 ، الصفحة : 226 . [*=1]63. مجمع البيان : 5 / 77 . [*=1]64. تفسير القمي : 2 / 223 . [*=1]65. القران الكريم : سورة الحديد ( 57 ) ، الآية : 26 ، الصفحة : 541 . [*=1]66. القران الكريم : سورة الزخرف ( 43 ) ، الآية : 28 ، الصفحة : 491 . [*=1]67. القران الكريم : سورة هود ( 11 ) ، الآية : 116 ، الصفحة : 234 . [*=1]68. مجمع البيان : 5 / 168 . [*=1]69. نهج البلاغة ، قصار الكلم ، رقم 147 ، في كلامه ( عليه السلام ) مع كميل بن زياد النخعي عليه الرحمة : 496 . [*=1]70. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآية : 84 ، الصفحة : 449 . [*=1]71. القران الكريم : سورة الصافات ( 37 ) ، الآيات : 75 - 84 ، الصفحة : 448 . [*=1]72. راجع : كمال الدين الصدوق : 134 , رقم 3 ؛ و بحار الأنوار : 11 / 289 . [*=1]73. شبهات و ردود حول القرآن الكريم : 29 ـ 51 ، تحقيق : مؤسسة التمهيد ، الطبعة الثانية / سنة : 1424 هـ 2003 م ، منشورات ذوي القربى ، قم المقدسة / الجمهورية الاسلامية الإيرانية .