البعد الفكري في نصّ مسرحية (ليلة ضياع الشمر) لعدي المختار
علي حسين الخباز
يهدف نصّ المسرح الحسيني إلى قراءة التاريخ، ومن تلك النصوص ما ينقل التاريخ حرفياً ليبقى فيه، وروّاد هذا اللون يعدّون من يخرج عن سرد الواقع التاريخي لواقعة الطف هو خروج عن الهوية، وهناك من يشتغل على النظائر؛ ليفتح مجالاً للتخيّل، والخيال يمثل البعد الأدبي في النصّ المسرحي، وهناك سعي مثابر لا لقراءة التاريخ قراءة نصية أو تحليلية، بل إلى البحث عن الأفكار، فالكاتب عدي المختار اندفع إلى التاريخ الواقعي للبحث عن الفكر، وشيّد الفضاء النصي بقراءة فكرية؛ ليرسخ البعد الفكري، وليصل إلى روحية الواقعة، لذلك هو لا ينظر إلى وقت الواقعة زمنيا، يكفيه الأثر (الفكري ــ الروحي) للواقعة.
الإهداء... لكل الأمهات اللواتي تقطعت نياط قلوبهن من أجل قضية عادلة.
البحث عن روح الواقعة في روح كل ثورة وكل نهضة وحراك ثوري من أجل قضية عادلة، الزمان عيّنه الكاتب بلا زمن محدد، أي: امتداد الماضي إلى كل حاضر ومستقبل.
قدرة كتابة التاريخ عند عدي المختار هي البحث عن الأفكار، لذلك علينا أن نقرأ الوقت الذي عيّنه الكاتب بمنتصف الليل، قراءة تدلّ على ليل العتمة الفكرية، ليل الخنوع الإنساني، عكس النهضة الفكرية واليقظة، فيبدأ (بصوت الأم)، وهو جذر العلاقة الانسانية بدعامة النشأة والأخلاق والحنان والمحبة والتربية، ونعني به (نشيد الفطرة)، وما يحتويه من فكر للنظر في روحية هذا الصفاء، ونعرف حينها ما يفكر به التضاد الساعي إلى تدمير هذه الروحية، فهم قتلة الإنسانية، بكل ما يحملونه من فكر سلبي، قيّدهم بقيود وسلاسل من حديد، ورسم المشهد عبر ثلاثة إطارات تشبه الأبواب التي ليس فيها مغاليق، وقماش أسود يغطي الأبواب، مع ناعور يدلّ على حراك الزمن وتغيراته ووجهات النظر التي ترسم ملامح ترنيمة الأم (عدوك ساكن الچول)، يحلمون بالقتل، وحزّ الرؤوس، ويعلنون الحقد ضد العقول، فهل الأمر صعب أن نقرأ التواريخ عبر الأفكار؟
أولاً: الشمر الذي يزرع الثكل هو أولى بالثكل والنواح.
ثانياً: يعشق حزّ الرؤوس؛ لأنه يكره العقول.
ثالثاً: يرى الأطفال بما يمتلكون من حضور الروح، هم من سيقود روح العالم والفكر مستقبلا إذا كبروا.
رابعاً: هو مرعوب من شعار (واحسيناه)؛ لأنّه يدرك روحية هذا الانتماء، ويعرف أنّ مسعاه هو من أجل كرسي مجنون، وجاه مغشوش، ومال حرام بعويل (املأ ركابي فضة أو ذهبا)، يريد أن يضجّ العالم بالفجيعة؛ كي لا يحمل الصمت أي تأمل يعرف حجم وحدته.
(الوحدة موت آخر):
نتأمل في الأبعاد الفكرية لهذه الجملة، يفترض أنّ الحسين (عليه السلام)، هو الذي بقي وحيداً، وبقي الشمر محاطاً بجنده مهيباً، لكن الحسين (عليه السلام) على الرغم من كونه بقي وحيداً، إلا أنّه مطمئن، بينما الشمر يرى في نفسه الوحدة والهواجس، يعيش مرضًا ينخر في الروح دون هوادة، فيجعل ما فيه من نهم لا يعرف الاكتفاء، أو الراحة والطمأنينة.
لو نسأل: ما هو الفارق بين المؤرخ وكاتب المسرح؟، فالمؤرخ يذهب للبحث عن الوقائع والأحداث، وتأتي النتائج حسب المنظور الذي يقرّه الظاهر، والكاتب المسرحي يبحث عن الفكر والانتماء والمرتكزات الفكرية، وفي كل مسار يقرأ الثورة واليقظة، ويركز على الأبعاد الفكرية، فإيمان الطغاة بسطوة السيف أكبر من إيمانهم بحكمة العقل، ونزاهة الروح، وإلى اليوم يقولون: قالت زينب: «ما رأيت إلا جميلا»، لا أحد ينظر إلى الأثر الفكري لهذا القول - لا أقصد رؤية المغزى - بل هي رأت هذا الجميل بعينها وعقلها، وهذا الفارق بين من يبحث عن الأحداث، ومن يبحث عن الفكر.
التاريخ في المسرح ليس مادة أو موضوعًا، بل هو فكر انتصر به الدم على السيف، فهو لا يستطيع أن يدرك أنّ نصر الجند في الطف كان انكسارا، امرأة من عامة الناس تخاطب شمرا: «ما أنت إلا معنى آخر للتيه، خذلك الرأي كنت بطلًا من ورق مهزوم بكلّ ما فيك»، ومن أعماق عقلية الشمر ينظر النصّ إلى الموروثات الفكرية لهذا الوهم الشرير.
الشمر (مع عمر بن سعد): تعال يا عمر بن سعد، فملك الري مازال بلا أمير.
استمرارية وجود من يحلمون بملك الري من جديد، وملك الري ينتظر الحالمين به.
عمر بن سعد: لا أريد غير ملك الري، إن كان من الأمير أم من غيره، ملك الري لا غير.
الشمر يقرّب لنا رؤيته الفكرية: كلما تمرّ الدهور يبقى كلّ شيء على نحر كربلاء يدور.
وقراءة التاريخ من حيث الأفكار تشتغل على مساحة الرؤية القادرة على أن تبقي الواقع التاريخي حيا متجدداً.
امرأة (مع الشمر): الجرأة خذلتكم، خذلتكم الشجاعة.
امرأة: لم يتقد عقلكم لفكر القضية.
بينما الشمر يرى لا مجال للقلب والعقل في الحرب، وعمر بن السعد لا يريد غير ملك الري.
قراءة فكر التاريخ عن طريق النصّ المسرحي أفضل وسيلة لاستيعاب التاريخ؛ فالمسرح له القدرة على حماية هوية الواقعة، والأفكار تثير اهتمام الأمم، وتقدر على تنمية القضية الإنسانية عبر مفاهيم واقعة الطف، والحر الرياحي (رضوان الله عليه) ترجم لنا فكر الواقعة عبر رؤيته للحياة والموت: ما قيمة أن نحيا أمواتا في ركب المعاصي؟ أريد لكم الحياة، والقوم لا يستطيعون استيعاب مثل هذا الفكر المتوقد (أن تنهض الحياة من سراديب الموت).
امرأة (مع الشمر): خذلتك حتى جاهليتك.
أسّس عدي المختار نصاً فكريًا معتمداً على عدم تحديد الواقعة بالزمن؛ لأنها تتنامى فكرياً، وكل جيل له قراءته الفكرية في الواقعة.
(أم وهب) لخصت تلك الأفكار: (السماء لن تفتح مرتين).
مفهوم فكري تتوقف عنده كل تواريخ الأرض؛ لتلتقط أنفاسها من عقيدة الحسين (عليه السلام) وإيمانه: (الفكر الحقيقي الذي يمتلك صروح الحق لا يموت).
يتحول أنين الخيام فيه على مر العصور إلى رجز مقاوم، في حال يبقى فكر ابن سعد مرهونا بحكم الري، بالكرسي والعرش والمنصب والمال، وكلها أشياء زائلة، فصار في ظلمة التيه.
نصّ (ليلة ضياع الشمر) هو حقا قراءة فكرية واعية لطفّ كربلاء.