إن مسألة الابتلاء والمصائب التي تعترض حياة الإنسان من القضايا المهمة التي تشغل فكر الكثيرين، وقد يتساءل البعض عن علاقة ذلك بعدالة الله تعالى، خاصة عندما يُبتلى الإنسان بظروف أسرية صعبة أو يُولَد في بيئة غير مناسبة.
إن كون الإنسان مذنباً أو ولادته في أسرة معينة لا علاقة له بعدالة الله تعالى أبداً، فالله سبحانه قد أوضح للبشرية جميعاً طرق الخير والسعادة، وميّز لهم الهداية من الضلال تأسياً بالمعصومين (عليهم السلام).
كما أن الله تعالى قد وضع العقل في باطن الإنسان ليستطيع به أن يُشخّص سبل الخير من الشر، فهو يملك القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
فإذا ترك الإنسان - مع أن الله تعالى لم يقصّر في هداية البشرية - جميع وسائل الهداية والسعادة، وابتعد عن الطريق الواضح والمستقيم، وتحرك في طريق الانحراف والضلال وسار نحو الظلام والهلاك المعنوي، وولد له ولد وهو في هذه الأجواء، فما ارتباط ذلك كله بعدالة الله تعالى؟
فالله عز وجل قد هيأ لنا جميع وسائل الهداية، غاية الأمر أن بعض الناس يستفيد من هذه الوسائل ويسير بحسب اتجاهه الفطري، والبعض الآخر يسير في طريق الضلال، وكل منهما يسير في طريقه باختياره الذي أعطاه الله تعالى له. وفي هذه الأثناء من يعيش في مثل هذه الأسر يمكنه أن يغير من مصيره ويتوجه نحو البراءة والسعادة والنزاهة.
وعلى أي حال، ليس هناك إنسان مبتلى وحده، بل كل شخص في هذه الدنيا هو مبتلى بنوع من البلاء.
أسباب البلاء
طبقاً للآيات القرآن الكريم وروايات أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، فإن المصائب التي تجري على المؤمنين إما بسبب أعمالهم أو أنها امتحان إلهي لرفع درجاتهم عند الله.
أولاً: نتيجة الذنوب
قد يرتكب الإنسان بعض الذنوب والأخطاء فتكون سبباً لأن تظهر على شكل مصائب وبلايا في الحياة الدنيا. كل ذنب له آثار خاصة، فبعض الذنوب توجب الفقر، وبعضها تجلب البلاء كما قال الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء".
وعلى أي حال، فإن هذه المصائب تكفر عن المؤمن ذنوبه، وحيث أن الله يحب عبده المؤمن فيبتليه ببعض المصائب كي يكفر عنه ذنوبه في هذه الدنيا ويأتي يوم القيامة خالياً من الذنوب، وهذا هو لطف من الله تعالى بالنسبة إلى عبده. أما من كان من المغضوب عليهم فنجد أن الله تعالى غالباً يسبغ عليه نعمه كي يستدرجه ويبتليه بعذاب جهنم وساءت مصيراً.
ثانياً: الامتحانات الإلهية
تنزل المصائب والبلايا أحياناً لأجل الامتحان الإلهي. من جملة سنن الله تعالى وقوانينه الثابتة هو ابتلاء وامتحان المؤمنين، كما جاء في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة بشأن ذلك، على سبيل المثال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186).
ويقول الله تعالى في سورة البقرة الآية 155: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
ويقول الله تعالى في آية أخرى من كتابه الكريم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3).
وطبعاً أن الامتحانات الإلهية ليس لها إطار معين ومشخص، بل يمتحن كل إنسان بحسب حالاته الروحية، لذا يقول الله تعالى في آية أخرى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35).
الحكمة من الامتحان الإلهي
حيث أن الله تعالى عالم بجميع الأمور، لذلك فالامتحان الإلهي ليس لأجل رفع الجهل بالأمور، ولكن الله تعالى يمتحن المؤمنين المخلصين لأجل أن تظهر إلى الخارج كفاءاتهم واستعداداتهم المخفية.
من جملة غايات الامتحان الإلهي هي تصفية إيمان الإنسان المؤمن وإظهار حقيقة إيمانه، مثل الصانع الذي يصهر الذهب في الفرن بحرارة النار كي تحترق الشوائب وتنعدم بسبب النار ويبقى الذهب الخالص.
فالله تعالى يقوم بتصفية وغربلة إيمان المؤمنين في فرن البلاء والامتحان، وهكذا من جملة حكم الامتحان والابتلاء هو تمييز المؤمنين الصادقين من المؤمنين باللسان والظاهر. كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا وَيُسْتَخْرَجُ فِي الْغِرْبَالِ خَلْقٌ".
وعليه يتعرض كل واحد من المؤمنين للبلاء والامتحان بما يتناسب مع درجته الإيمانية ووضعيته الروحية.
لا يتصور أحد أن التدين والإيمان يعيش بين الحدائق والبساتين والمنتزهات، وأن الإنسان المؤمن يمر من خلال طريقه الإيماني الطويل بالأزهار والورود والتنزه، فإن هذا التصور يدل على عدم فهم حقيقة الإيمان والتدين.
ولعل هذه الفكرة والتصور هي التي تدفقت إلى أفكار بعض المسلمين ردحاً من الزمن وهي أنه إلى متى نعيش بسبب الإيمان البلاء والحرمان؟
وقد أنزل الله تعالى لإزالة هذه الأوهام عن أفكارهم الآيات التالية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3).
ومن الواضح أنه مع إيمانهم بالله تعالى لا ينبغي أن توجد لديهم هذه التصورات الشنيعة، ولكن هذه الأفكار كانت موجودة عند المسلمين في المدينة وقد قال الله تعالى لأجل إبطال هذه الأفكار: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
وبعد معركة أحد التي تعرض فيها المسلمون إلى جميع تلك الإصابات والضحايا وقد قتل منهم سبعون نفراً من الجيش، وفي هذه الظروف قد أنزل الله تعالى آية كي يفهمهم أن طريق الإيمان والتدين مليء بالمصاعب والبلايا، حيث يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 142).
شدة البلاء على قدر الإيمان
روي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْبَلَاءُ وَمَا يَخُصُّ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) بِهِ الْمُؤْمِنَ، فَقَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ، فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ.
ونقرأ في رواية أخرى: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ بِمَنْزِلَةِ كِفَّةِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلَائِهِ.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) ما مضمونه: إن الله ليبتلي أولياءه بالمصائب والنوائب كي تغفر ذنوبهم ويعطيهم الأجر والثواب.
وروي في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلِهِ، يُبْتَلَى بِبَلَاءٍ فِي جِسْمِهِ فَيَبْلُغُهَا بِذَلِكَ.
وروي بهذا المضمون عن الإمام الصادق (عليه السلام): عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَا يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلَّا بِالِابْتِلَاءِ فِي جَسَدِهِ.
من الضروري أن نتأمل في حياة وسيرة الأولياء والصلحاء ومن عنده منزلة عند الله تعالى من قبيل الأنبياء (صلوات الله عليهم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسائر عباد الله الصالحين، فإن البلايا والمصائب التي جرت عليهم، لو صبت وجرت على أي شخص آخر لعله من الصعب جداً أن يتحملها أو يطيقها.
ولنلاحظ حياة الأئمة المعصومين (عليهم السلام): كم كان عندهم من المصائب، ولنلاحظ خصوصاً واقعة كربلاء، وننظر أي مصيبة عظمى قد حلت بهم، ولكن مع كل تلك المصائب التي وقعت في كربلاء نجد أن العقيلة زينب (سلام الله عليها) بطلة كربلاء في الصبر والتحمل فإنها ليس لم تعترض فحسب بل قالت: "ما رأيت إلا جميلاً" حتى أنها لم تترك صلاة النافلة في ليلة استشهاد إخوتها (ع) وأصحابهم (رض).
ولنتأمل جيداً لعل هذه المصائب هي امتحان إلهي، ولعل له جهات أخرى، وأساساً بناءً على بعض الروايات أن الله تعالى يرى أن من الخير والصلاح أن يبتلي عبده وأن حكمته تقتضي أن يبتليه.
موقع الائمة الاثنى عشر
إن كون الإنسان مذنباً أو ولادته في أسرة معينة لا علاقة له بعدالة الله تعالى أبداً، فالله سبحانه قد أوضح للبشرية جميعاً طرق الخير والسعادة، وميّز لهم الهداية من الضلال تأسياً بالمعصومين (عليهم السلام).
كما أن الله تعالى قد وضع العقل في باطن الإنسان ليستطيع به أن يُشخّص سبل الخير من الشر، فهو يملك القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
فإذا ترك الإنسان - مع أن الله تعالى لم يقصّر في هداية البشرية - جميع وسائل الهداية والسعادة، وابتعد عن الطريق الواضح والمستقيم، وتحرك في طريق الانحراف والضلال وسار نحو الظلام والهلاك المعنوي، وولد له ولد وهو في هذه الأجواء، فما ارتباط ذلك كله بعدالة الله تعالى؟
فالله عز وجل قد هيأ لنا جميع وسائل الهداية، غاية الأمر أن بعض الناس يستفيد من هذه الوسائل ويسير بحسب اتجاهه الفطري، والبعض الآخر يسير في طريق الضلال، وكل منهما يسير في طريقه باختياره الذي أعطاه الله تعالى له. وفي هذه الأثناء من يعيش في مثل هذه الأسر يمكنه أن يغير من مصيره ويتوجه نحو البراءة والسعادة والنزاهة.
وعلى أي حال، ليس هناك إنسان مبتلى وحده، بل كل شخص في هذه الدنيا هو مبتلى بنوع من البلاء.
أسباب البلاء
طبقاً للآيات القرآن الكريم وروايات أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، فإن المصائب التي تجري على المؤمنين إما بسبب أعمالهم أو أنها امتحان إلهي لرفع درجاتهم عند الله.
أولاً: نتيجة الذنوب
قد يرتكب الإنسان بعض الذنوب والأخطاء فتكون سبباً لأن تظهر على شكل مصائب وبلايا في الحياة الدنيا. كل ذنب له آثار خاصة، فبعض الذنوب توجب الفقر، وبعضها تجلب البلاء كما قال الإمام علي (عليه السلام) في دعاء كميل: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء".
وعلى أي حال، فإن هذه المصائب تكفر عن المؤمن ذنوبه، وحيث أن الله يحب عبده المؤمن فيبتليه ببعض المصائب كي يكفر عنه ذنوبه في هذه الدنيا ويأتي يوم القيامة خالياً من الذنوب، وهذا هو لطف من الله تعالى بالنسبة إلى عبده. أما من كان من المغضوب عليهم فنجد أن الله تعالى غالباً يسبغ عليه نعمه كي يستدرجه ويبتليه بعذاب جهنم وساءت مصيراً.
ثانياً: الامتحانات الإلهية
تنزل المصائب والبلايا أحياناً لأجل الامتحان الإلهي. من جملة سنن الله تعالى وقوانينه الثابتة هو ابتلاء وامتحان المؤمنين، كما جاء في القرآن الكريم من الآيات الكثيرة بشأن ذلك، على سبيل المثال: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (آل عمران: 186).
ويقول الله تعالى في سورة البقرة الآية 155: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
ويقول الله تعالى في آية أخرى من كتابه الكريم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3).
وطبعاً أن الامتحانات الإلهية ليس لها إطار معين ومشخص، بل يمتحن كل إنسان بحسب حالاته الروحية، لذا يقول الله تعالى في آية أخرى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35).
الحكمة من الامتحان الإلهي
حيث أن الله تعالى عالم بجميع الأمور، لذلك فالامتحان الإلهي ليس لأجل رفع الجهل بالأمور، ولكن الله تعالى يمتحن المؤمنين المخلصين لأجل أن تظهر إلى الخارج كفاءاتهم واستعداداتهم المخفية.
من جملة غايات الامتحان الإلهي هي تصفية إيمان الإنسان المؤمن وإظهار حقيقة إيمانه، مثل الصانع الذي يصهر الذهب في الفرن بحرارة النار كي تحترق الشوائب وتنعدم بسبب النار ويبقى الذهب الخالص.
فالله تعالى يقوم بتصفية وغربلة إيمان المؤمنين في فرن البلاء والامتحان، وهكذا من جملة حكم الامتحان والابتلاء هو تمييز المؤمنين الصادقين من المؤمنين باللسان والظاهر. كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا وَيُسْتَخْرَجُ فِي الْغِرْبَالِ خَلْقٌ".
وعليه يتعرض كل واحد من المؤمنين للبلاء والامتحان بما يتناسب مع درجته الإيمانية ووضعيته الروحية.
لا يتصور أحد أن التدين والإيمان يعيش بين الحدائق والبساتين والمنتزهات، وأن الإنسان المؤمن يمر من خلال طريقه الإيماني الطويل بالأزهار والورود والتنزه، فإن هذا التصور يدل على عدم فهم حقيقة الإيمان والتدين.
ولعل هذه الفكرة والتصور هي التي تدفقت إلى أفكار بعض المسلمين ردحاً من الزمن وهي أنه إلى متى نعيش بسبب الإيمان البلاء والحرمان؟
وقد أنزل الله تعالى لإزالة هذه الأوهام عن أفكارهم الآيات التالية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3).
ومن الواضح أنه مع إيمانهم بالله تعالى لا ينبغي أن توجد لديهم هذه التصورات الشنيعة، ولكن هذه الأفكار كانت موجودة عند المسلمين في المدينة وقد قال الله تعالى لأجل إبطال هذه الأفكار: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
وبعد معركة أحد التي تعرض فيها المسلمون إلى جميع تلك الإصابات والضحايا وقد قتل منهم سبعون نفراً من الجيش، وفي هذه الظروف قد أنزل الله تعالى آية كي يفهمهم أن طريق الإيمان والتدين مليء بالمصاعب والبلايا، حيث يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 142).
شدة البلاء على قدر الإيمان
روي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) الْبَلَاءُ وَمَا يَخُصُّ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ) بِهِ الْمُؤْمِنَ، فَقَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، وَيُبْتَلَى الْمُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وَحُسْنِ أَعْمَالِهِ، فَمَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ.
ونقرأ في رواية أخرى: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ بِمَنْزِلَةِ كِفَّةِ الْمِيزَانِ كُلَّمَا زِيدَ فِي إِيمَانِهِ زِيدَ فِي بَلَائِهِ.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام) ما مضمونه: إن الله ليبتلي أولياءه بالمصائب والنوائب كي تغفر ذنوبهم ويعطيهم الأجر والثواب.
وروي في حديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلِهِ، يُبْتَلَى بِبَلَاءٍ فِي جِسْمِهِ فَيَبْلُغُهَا بِذَلِكَ.
وروي بهذا المضمون عن الإمام الصادق (عليه السلام): عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَا يَبْلُغُهَا عَبْدٌ إِلَّا بِالِابْتِلَاءِ فِي جَسَدِهِ.
من الضروري أن نتأمل في حياة وسيرة الأولياء والصلحاء ومن عنده منزلة عند الله تعالى من قبيل الأنبياء (صلوات الله عليهم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) وسائر عباد الله الصالحين، فإن البلايا والمصائب التي جرت عليهم، لو صبت وجرت على أي شخص آخر لعله من الصعب جداً أن يتحملها أو يطيقها.
ولنلاحظ حياة الأئمة المعصومين (عليهم السلام): كم كان عندهم من المصائب، ولنلاحظ خصوصاً واقعة كربلاء، وننظر أي مصيبة عظمى قد حلت بهم، ولكن مع كل تلك المصائب التي وقعت في كربلاء نجد أن العقيلة زينب (سلام الله عليها) بطلة كربلاء في الصبر والتحمل فإنها ليس لم تعترض فحسب بل قالت: "ما رأيت إلا جميلاً" حتى أنها لم تترك صلاة النافلة في ليلة استشهاد إخوتها (ع) وأصحابهم (رض).
ولنتأمل جيداً لعل هذه المصائب هي امتحان إلهي، ولعل له جهات أخرى، وأساساً بناءً على بعض الروايات أن الله تعالى يرى أن من الخير والصلاح أن يبتلي عبده وأن حكمته تقتضي أن يبتليه.
موقع الائمة الاثنى عشر