بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾[1].
لدينا في هذه السورة جملة من الموضوعات، منها ما ذكره تعالى في هذه الآية وهو تركيبة الشخصية التي تقوم على الاتجاه إلى الله تعالى في حالة مواجهتها لشدائد الحياة، ولكنها تتعامى عن الله تعالى عندما تحيا بمنأى عن الشدائد.
إن مثل هذا السلوك ينطوي على جملة من الحقائق العبادية والنفسية.
أما الحقيقة العبادية فهي أن البشرية جميعا مؤمنها وكافرها ترث جهازا فطريا يقوم على توحيد الله تعالى بحيث يتجه الإنسان عندما يواجه شدة من شدائد الحياة نحو الله تعالى ويدعو إلى إزالتها.
وأما الحقيقة النفسية فهي أن الإنسان مطبوع على أن يتجه إلى الله تعالى في حالة الشدة، بما في ذلك الشخصية المؤمنة، وإنه مطبوع على الابتعاد عن الله تعالى عند انفراج الشدة عنه. ترى، ماذا يعني مثل هذا السلوك؟
فهذا السلوك يفصح عن كون الإنسان معنيا بإشباع الحاجات الدنيوية العابرة، فهو يتحرك بقدر ما يحقق له تأمين حاجاته، فإذا واجه عدم التأمين، حينئذ يتحرك لمصدر الحاجات وهو الله تعالى، وإذا أشبع حاجاته انعزل عن الله تعالى، وهذا هو منتهى الجفاء والغلظة والكفران بالنعم مما يسلخ الإنسان من صعيد إنسانيته ويحوله إلى كائن ممسوخ لا يعنى إلا بحاجاته، على نحو مما تسلكه البهائم من إشباع غرائزها لذا قال تعالى: ﴿وَمَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾[2].
والمعنى هنا أن النص القرآني الكريم طرح هذه الشريحة من السلوك وفق صياغة فنية ممتعة، فقدم أولا رسما خارجيا للشخصية هو كيفية تحركها نحو الله تعالى من حيث المظهر الجسمي للحركة إذ أن المظهر الحركي هو تعبير عن المظهر الداخلي للإنسان، فالأفكار والمشاعر والانفعالات تظل حينا حبيسة في أعماق الشخص، وتبرز حينا آخر إلى الخارج، متمثلة في تعبير لفظي هو الكلام أو في تعبير حركي هو حركات الجسم المختلفة، أو في تعبير لفظي وحركي أيضا، وهذا ما رسمه النصّ القرآني الكريم حينما رسم المظاهر اللفظية والحركية للشخص عندما يواجه شدائد الحياة وهو قوله تعالى في الآية اللاحقة: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[3]، فالدعاء هو المظهر اللفظي، والاضطجاع والقعود والقيام هي مظاهر حركية ترمز فنيا إلى التعبير عن شدة الحالة النفسية التي يصدر عنها الداعي.
فهو يضطجع حينا، ويقعد حينا ثانيا، ويقوم حينا ثالثا: كلّ ذلك في حالة الدعاء والتوجه إلى الله تعالى لكشف الشدة التي يكابد منها.
لكن ما أن تكشف الشدة حتى يعرض الإنسان عن الله تعالى، وهذا مما رسمته الآية اللاحقة وفق رسم خارجي حركي أيضا، وهو قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾، فهنا قدّم النص صورة أو مرأى حركيا هو مرور الإنسان عابرا في طريقه دون أن يلتفت إلى أي شيء، وهذا المرور هو رمز أو صورة رمزية تشير إلى مظهر داخلي هو تغافل الإنسان عن الله تعالى، وانصرافه عن الله تعالى بعد أن فرّج الله تعالى عنه الشدائد.
إذن جاءت الصورتان الفنيتان الرمزيتان مصوغتين وفق رسم خارجي.
أحدهما يتصل بطريقة الدعاء اضطجاعا وقعودا وقياما، والآخر يظل صورة رمزية تركيبية أي كونها رمزا وليس حركة جسمية بالفعل، حيث أن المرور العابر هو رمز لعدم العناية بالشيء. والمهم، بعد ذلك إن صياغة الصورة الفنية تكتسب جماليتها الفائقة عندما يتجانس مما هو داخلي من الأفكار والعواطف والانفعالات مع ما هو خارجي من الحركات التي تعكس الداخل، وهو أمر يكشف عن إحكام النص من حيث تلاحم أجزائه بعضا مع الآخر بالنحو الذي أوضحناه.
[1] سورة يونس، الآية: 11.
[2] سورة البقرة، الآية: 171.
[3] سورة يونس، الآية: 12.