- رحيم : شاب يافع
- الأم
- فتاة صغيرة
- خادم الحسين رجل كبير السن
- افتراض صوت الحسين وهو ما يدور حوله محور المسرحية
المشهد الأول
ظلام ثم ضوء خافت يظهر تدريجياً
(رحيم نائماً على سريره وصوت الآذان يعلو)
الله اكبر...الله اكبر
الله اكبر...الله اكبر
اشهد أن لا اله إلا الله
اشهد أن لا اله إلا الله
رحيم: الآن سأقوم, الآن ,الآن...
اشهد أن محمداً رسول الله
أشهد...
(يخفت صوت الآذان تدريجياً ويختفي الضوء الخافت فيما تعلو الموسيقى أكثر فأكثر حتى تصبح صاخبة ثم شيئاً فشيئاً تتغير إلى موسيقى هادئة جدا ويسمع صوت جهوري .. يجب أن يكون الصوت متميزاً من حيث القوة والوضوح والجمال)
الصوت: يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء؟
يكرر يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء؟
(تعود الموسيقى للارتفاع من جديد وتظهر إضاءة دلالة على انقشاع الظلام)
يفتح رحيم عينيه , يجلس على سريره يشعر بارتجاف في جسده فيضمه بين يديه(تتوقف الموسيقى)
رحيم: يا لها من رؤية ! يا الهي! اشعر أن جسدي بدأ يسخن ويبرد مرة واحدة
( صمت)
(همس) لقد رأيته, نعم رأيت سيدي أبا عبد الله وقد طلب شربة ماء
ولكني لما رأيته لم يكن مغبراً ولا حزيناُ ولم تكن ملابسه بالية ولم تتشقق شفتيه ظمأ
إذا لمَ يطلب شربة ماء؟
شربة ماء!
شربة ماء!
بعد ألف وأربعمائة عام يطلب الحسين شربة ماء
لما لم أرَ السيوف تنهال على السيوف
ولم أرَ السيوف تقطع الكفوف
لم اسمع صليل السيوف
ولا صيحات الفرسان
لم أرَ الخيول ترسم صورة الحرب بحوافرها
إذاً لم سيدي ظامئ؟
لم يكن صريعاً تتوسده الرماح ولم تكن لحيته مخضبة بالدماء
فلماذا يطلب شربة ماء؟
آآآه اشعر باضطراب في أفكاري
( يروح ويجيء):
حسناً ,حسناً علي أن اهدأ, علي أن أهدأ..
أولاً و آخراً هو حلم بدأ وانتهى
(يتوقف) كلا لم يكن حلماً لقد كانت رؤيا
غشيتني تماماً, شعرت بوجودي الحقيقي فيها
حتى أثلجت جسدي, وذلك العطر الساحر مازلت أشمه
وقد أحسستُ بخطواتي و أنا أسير نحوه
نعم أحسست بها تماماً.
(يسمع صوت الأم من خارج المسرح)
الأم: رحيم , طعام الفطور جاهز
رحيم: ليس الآن, دعيني , بل دعوني جميعاً
(مع نفسه ) هناك تساؤلات لا أجد لها جواباً
(فيما رحيم يردد العبارة الأخيرة تدخل الأم, امرأة متوسطة العمر ترتدي ثوباً فضفاضاً وتلف رأسها بوشاح - شيلة - تتابع خطوات ولدها تسمع كلامه مع نفسه)
الأم: ولدي ما بك؟ وأية تساؤلات تلك التي لم تجد لها إجابة؟
يفاجئ رحيم بوجود أمهِ
رحيم: آوه , سمعتني أقول ذلك؟! حسناً , لاشيء, أو انه هناك شيء, لكن , كلا, لم يحصل شيء..
الأم: ( تضع كفها على جبينه) رحيم ,كأنك مصاب بالحمى, ولكن الحمد لله, حرارتك جيدة, هيا حتى تفطر
رحيم: أمي دعيني من فضلك, أشعر برغبة في أن أكون لوحدي
الأم: لمَ؟ ما الذي حصل؟
رحيم: وهل حصول أمر ما هو شرط أساسي لرغبة الإنسان في الجلوس لوحده؟
الأم: في وضعك الآن! نعم
رحيم: ولماذا؟
الأم : (نحو الجمهور) تستيقظ صباحاً, ترفض تناول الفطور , ثم تطلب أن تُترك لوحدك, أمر لابد وان يبعث على التساؤل
رحيم: أما أنا فأقول إن الوحدة تكون أحيانا فرصة لمناجاة النفس
أحاورها, أشكو إليها, أعاتبها ,
وأحيانا أخرى تكون الوحدة نوعاً من مقاضاة النفس
التي أسلمت لها أشرعتي قبل أن احرص على معرفتي بها
الأم: وأحياناً , يا ولدي , تكون الوحدة الوجه الآخر للشقاء
رحيم: ها انتِ تصرين على إن ثمة أمراً ما أخفيه عنكِ.
الأم: ولم تستطع إخفاءه, أرى هذا في عينيك, اخبرني يا ولدي..
رحيم: وإذا قلت لك إن مشكلتي لن تقدري على حلها وتفسيرها؟
الأم: تكلم ,إن كنت اعلم فسأخبرك, وان كنت لا اعلم فسأقف إلى جانبك على الأقل.
رحيم مبتسماً: هو ذا يا أمي الغالية.
الأم: هيا, أنا أسمعك
رحيم: سؤال
الأم : جواب
هل لا زال الإمام الحسين ظمأناً؟
الام: سلام الله عليه , إن سؤالك هذا مفاجأة لي
رحيم: تخيلي إني رأيت سيدي الحسين وهو يطلب شربة ماء
الأم: ( تدور متحيرة) أن يرى الإنسان الإمام الحسين في منامه فتلك كرامةٌ لا يحظى بها كل إنسان
رحيم: ولكن أن يشكو الإمام الحسين ظمأه للناس بعد ألف وأربعمائة عام فهو العجب العجاب
الأم: أنا أقول.........
رحيم: قبل أن تقولي أي شي يا أمي, ثم أمر آخر , ألم يسقه النبي الأكرم كأساً لن يظمأ بعدها ابداً؟
الأم: ولذلك أريد أن أقول إن تفسير هذه الرؤيا يحتاج إلى تفسير وتأني..
رحيم: بل هو واضح يا امي
(بتأكيد)التفسير واضح
(بصوت عالي) الحسين ما يزال ظمأناً,
أليس كلام الموتى لا يؤول؟
ويشهد له بالصدق في عالم الرؤيا؟
فكيف الحال بقول سيد شباب أهل الجنة؟!
الأم: الصبر, علينا بالصبر حتى تأتينا الفكرة, أو التفسير الصحيح
رحيم: ليس باستطاعتي التفكير الآن, اشعر بأني مشحون بالانفعالات
الأم: لماذا تدخل نفسك في متاهات قد تفضي بك إلى طريق مسدود ؟
رحيم: بالضبط ,ماذا تقصدين؟
الأم: أنت رأيت أبا عبد الله في منامك وهذا يكفي
رحيم: ( بصوت عالي) كلا ..هذا غير كافٍ
انك الآن تزجينني في متاهات اخرى بقولك هذا
الأم: انا اريد ان اريحك
رحيم: وانا لا اريد ان ارتاح, لم اتكلم عن الراحة ابداً
(موسيقى حزينة دائرة الضوء على رحيم)
ما الراحة يا امي؟ الم نتعلم ان لا راحة في الحياة؟
هل ارتاح الامام الحسين يا امي؟
هل ارتاح ابوه الامام علي؟؟
هل ارتاح جده سيد الكائنات جميعاً؟
هل ارتاحت سيدتي الزهراء؟
هل ارتاحت ابنتها الحوراء
هل ارتاح اخوة الحسين وابناءه وبناته؟
الم يعيشوا حرماناً وظلماً وماتوا جميعاً شهداء؟؟
لماذا نأتي نحن ونجعل من كلمة راحة هدفاً سامياً اساسياً لا يسبقه هدف؟
نطبق على الحياة قوانين الخلود
نشعر دائماً ان الموت فكرة قديمة
بدأت تضمحل وان حدثت لغيرنا فلن تحدث لنا
صرنا مجانين بهوس الثراء
نفر من الصدق لكي نحسن الحوار مع الاخر
نستمع للوشاية, امر تعودنا عليه
الكلمة الطيبة محذوفة اذ حل الكبرياء محلها
نستسلم لغضب النفس
نلبي حاجاتها مثل طفل صغير نخاف ان يصرخ فينا
نتنافس على الرذيلة لنثبت للجميع أننا رجال
مع ان الرجولة نقيض ذلك
اهذه هي الراحة يا امي؟
اهذا ما تتمنينه لي؟
(تتوقف الموسيقى, تختفي دائرة الضوء)
الأم: انا وعدتك يا ولدي ان اكون معك فقط اخبرني ماذا تريد؟
رحيم: اريد جلاء الغموض
اريد رفع ستار الشكوك
اريد ان استفز الشكوك لكي اصل الى الحقيقة.
الأم: اذهب الى كبار المفسرين, اتصل بهم, اعرض رؤياك عليهم ,
رحيم: بل اني سأذهب اليه وحده
الأم: من تقصد؟
رحيم: سيدي ابا عبد الله, سوف اذهب اليه سائراً ,عطشاً , جائعاً
الأم:ولكنك ستكون وحيداً فليس هذا وقت الذهاب اليه سيراً
رحيم: بالضبط ماذا تقصدين؟
الأم: اخشى عليك من شرالاشرار وطوارق الليلوالنهار
اخشى عليك ان تظمأ فلا تجد احداً يسقيك
اخشى عليك من السقوط فلا تجد من يعينك على الوقوف
رحيم: لماذا تريدين القبض علي بمخالب من حديد؟
الأم: كيف تنطق هذا الكلام وانا امك؟
رحيم: امي لدي حماس فلا تخمديه, صدقيني ان فعلتي ذلك فلستِ امي التي اريد
(بهمس) سأخرج يا امي حتى اروي ظمأ سيدي, هذا ما اؤمن به
الأم: سأذهب معك اذاً
رحيم: كلا سوف اذهب اليه وحدي
اريد ان اخاطب كل الموجودات
ان اكتشف حقيقة زماني
ان اخرج روحي من سباتها
انتشلها من فراغات الايام
احاورها بسلام,
اقسم عليها ان تطيعني
فإن أبت, اكون جلادها.. نعم.. جلادها
(بهمس) ولما ادنو من قبر سيدي, سأبكي
حتى تحفر دموعي اخاديداً على وجنتي
لا اريد ان يسمعني احد
سأبكي لوحدي وسأمسح بدموعي قبر سيدي
هناك يا امي قد يرتوي سيدي من ظمأه
الأم: اني اراك تسير على سنن الرجال الشجعان يا ولدي
رحيم: ما اطلبه منك هو ان لا تخشي علي
وأمر اخر يا امي
الأم : ماذا يا ولدي؟
رحيم: إن تأخرت عليكِ ويأستِ من مجيئي
فأبحثي عني
فإن وجدتني ميتاً
أحملي جثتي الى قبر سيدي
تحدثي له عن غايتي في الوصول اليه
وأبكي يا أمي بكاءِ طويلاً
حينها تكونين قد أكملتِ مسيرتي نحو سيدي
الأم: (بحزن) سأفعل إن شاء الله
رحيم: لا تحزني منذ الان يا امي
الأم: سأحاول ان اخفي هذا الشعور( بحماس) اذهب يا بني وليباركك الله
فالزمان زمانك واطلب لي من الحسين الاعتذار لأني عارضت سفرك
اطلب منه ذلك بإسم الامومة
ثم اطلب من الله ومن الحسين النجا........
رحيم: بل اني لن اطلب شيئاً ابداً
سأذهب اليه متجرداً من كل الرغبات
الا رغبتي في ارواء ظمأه
( ظلام)
المشهد الثاني
(صوت بكاء تعلو الاضاءة تدريجياً على مكان مقفر في نهاية المسرح فتاة جالسة ترتدي رداءاً اسوداً وهي تبكي يدخل رحيم بهيئة زائر يرتدي قميصاً اسوداً ويلف رأسه بيشماغ , يسير كالتائه يسمع بكاء الفتاة, يقترب منها ويجلس قبالتها)
رحيم: يا فتاة ماذا تفعلين هنا وفيم بكائك؟
الفتاة: (تمسح دموعها) ابي
رحيم: ما به؟
الفتاة: أريد الوصول إليه, أرجوك, هّلا أخذتني إليه؟
رحيم:أنا ؟ كيف . وقد أضعت طريقي !
الفتاة: أنت تائه؟! كيف؟ وقد اخبرني بأنك ستأخذني إليه
رحيم: ماذا؟! أنا آخذك إليه.. هو أخبرك؟ وأين هو؟ إنما من...
الفتاة: (تقاطعه) لقد تركني ورحل
(موسيقى حزينة ..دائرة الضوء على الفتاة)
قال انه سيرجع
حتى انه في وداعه لم يُشعرني إن سفرهُ سيطول
التمست منه الوعود ولكنه لم يعد
فبقيت انتظره
عشت على هاجس الانتظار
صرت كلما سمعت صوت الباب يتحرك
اركض بلهفة والفرح من قلبي يتدفق
قائلةً ها هو ذا أبي
ولكني لا أجده, كانت الريح هي من يحرك الباب
فما أسرع أن يتحول ذلك الفرح إلى انكسار
أنكسار يشعرني بالخوف
ينذرني إن الذي انتظره قد لا يأتي
( تتوقف الموسيقى وتختفي دائرة الضوء)
أرجوك, خذني إليه
رحيم:ولكني لا اعرف الطريق
الفتاة:بل انك تعرف الطريق بالتأكيد
(يقف رحيم ويتراجع خطوة )
رحيم: (بغتة) ولكن مهلاً, كيف وصلتِ إلى هنا؟
أنتِ وحيدة وبلا متاع
الفتاة: ( تخرج جراباً من تحت رداءها )
ومن قال لكَ بأني بلا متاع؟
وأنا احمل هذا الجراب الذي أثقل كاهلي
(تخرج من الجراب سهماً مشعّباً يذهل رحيم ويمسكه بيده)
رحيم: ما هذا الذي أراه؟!!
ما هذا السهم المشعّب؟؟
أهذا متاعك؟؟
أهذا ما أثقل كاهلكِ؟؟
(بهمس) : إذاً من أنتِ؟ ومن أبيكِ؟
(بصوت عالي يلتفت نحو الفتاة) إذاً من أنتِ؟....................
(تختفي الفتاة)
رحيم : (يتحرك يميناً ويساراً باحثاً عنها)
أيتها الفتاة, أين أنتِ؟ أرجوك لا تزيدي حيرتي
ما عدت قادراً على تحمل المزيد
(يجلس منهاراً)
لم اعد قادراً على تحمل المزيد
(يحدق في السهم المشعّب ) ..
لأي الأمور استعد الآن
لأفتش عن الطريق الذي ما زلت اجهله أم ابحث عن الفتاة وأوصلها لأبيها
ها قد ضعت مرة أخرى
أو كأني أرى كل شيء انفصل عني, استقوى علي
صارت له ذاتاً غير ذاتي ويحكم بقوانين غير قوانيني
لقد فقدت توازني
لم اعد قادراً على التواصل مع أي شيء
(موسيقى حزينة يدخل السهم داخل الجراب ويحمله على ظهره يسير ببطء وانحناء , تتغير الإضاءة دلالة على تعاقب الأيام, تبطئ مشيته أكثر حتى يخرج من المسرح)
ظلام
المشهد الثالث
الإضاء خافتة , مكان مقفر , نباتات شوكيّة في أكثر من مكان , أصوات ذئاب تُسمَع من بعيد)
رحيم: ( بحزن) سيدي أبا عبد الله ها قد انطفأ النهار وحلت عتمة الليل
ولكن هل هناك عتمة مثل عتمة روحي؟
أتدري كم احبك؟
وأنا مقبل عليك.. هل تنتظر قدومي؟؟
هل سأروي ظمأك؟
يشرق يقيني ؟
تتبدد عتمة روحي ؟
( تعلو أصوات الذئاب رحيم يرتعد خوفاً يتحرك نحو جهة معينة فيرتفع صوت الذئاب أكثر فأكثر ثم يتحرك إلى جهة أخرى فيسمع صدى صوت أمه مردداً عبارتها )
صوت أمه: أخشى عليك يا ولدي من شر الأشرار وطوارق الليل والنهار
أخشى عليك من الظمأ فلا أجد من يسقيك
أخشى عليك من السقوط فلا تجد من يعينك على الوقوف
رحيم: أمي , أتشعرين بي الآن ؟ هل ضج قلبك بالفزع علي يا أمي ؟
الوحوش قريبة مني يا أمي
إنها تحيط بي من كل جانب
هل تسمعينني رغم المسافات؟؟
هل تسمعي صدى آلامي؟
هل سأفارق الحياة؟
(بصوت منخفض) ولكن لا يا أمي , فربما أحسست بخوفي وربما سمعت صدى استغاثتي ولكنك لا تريني
وحده فقط يراني ويرى كل كياني
أمهلني يا الهي حتى اروي ظمأ سيدي
(صوت الذئاب يعلو أكثر )
(رحيم بحماس) اسمعي يا هاجس الهلاك
يا أيها المد الجارف
يا من ملئت العالم بالمخاوف
سوف أصل إلى سيدي سائراً فإن أبت الأقدار
أصل إليه شهيداً
أيتها الوحوش الغادرة
أنا اعلم إني الآن فريستك
تسرعين نحوي مغمورة بالأمل
وأنا افر منك مغموراً بالخوف
تجدّين باللحاق بي
أجدُّ بالفرار منك
تداهمينني من كل صوب
حينها لن اشك في هلاكي إلا لحظة واحدة
واحدة فقط
اصرخ فيها :
يا الهي يا من أعطيتني وجهاً أتطلّع بهِ إليك
ويدان ارفعهما مستنجداً بك
يا من صاغ كل الأشياء
ويعلم ما يُخفي صدري من غايات
خلصني يا كلّي الرحمة من الوحوش التي لا ردع لها ولا شرائع
أتوجه إليك بسيدي الشهيد الظامئ
أن لا تجعل الوحوش تعيق سيري إليه
(صمت)
ولكن ماذا لو حانت ساعتي
تطوقني الذئاب
تزرع أنيابها في كل جسدي
تنزع لحمي عن عظمي
تمزقني
تسحق ذاكرة أيامي وتسحق معها كل آمالي وأحلامي
ستبقى عظاماً وبعضاً من لحمي وقميصي الممزق
ستعرفه أمي
ستلتقط أمي كل أشلائي, تجمعها
تعفرها بالكافور وأوراق السِدْر
تقرأ عليها سورة ياسين
تلفها بقماش ابيض جديد
ثم تكمل مسيرتي نحو سيدي
تضع أشلائي أمام قبره وتظل تبكي بكائي الذي تمنيته
ثم تشيعني نحو مثواي الأخير في وادي السلام
فتحفر لي حفرة توضع فيها أشلائي المكفنة
ويهيلون علي التراب
كلام بليغ سيقال بحق الخالق , الفناء, الأزل, عن شبابي ورحلتي إلى دار الأخرى
يبنون على قبري شاهداً من الرخام ويغسلونه بماء الورد , يشعلون البخور, يوضع عليه سعف النخيل وأغصان ألآس وباقات الورود وتتجدد الزيارة
وفي كل مرة يغسلون قبري بماء الورد واشم عطر ألآس والورد والقرآن
أما أنتِ يا وحوش الغدر
يا مبعث الذعر
يا آسرة السلامة ومرتع الندامة
سوف تفقد أنيابك صلابتها
ثم تضعف وتضعف
حتى تغرقين في الهاوية
وسوف لن يخفف الله عنك العذاب
ولن يقف احد في محنتك
حتى الشيطان نفسه سيتخلى عنكِ
وستظل أشلائك على الأرض يغطيها الدود
تتفسخ
وتنتشر رائحة عفنك
ولن يكون جزيل سعيك إلا البصاق والسب
وستظل نماذج الإنسانية في تألقها السرمدي
مشاعل فوق المنابر
( تبتعد أصوات الذئاب , يضعف رحيم ويتمدد على الأرض)
مشاعل... فوق... المنابر...مشاعل.....
(ظلام)
المشهد الرابع
الإضاءة خافتة جداً نفس المكان إلا إن الأشواك تختفي وتظهر شجيرات قليلة في نهاية المسرح, رحيم ما يزال ممداً على الأرض, صوت رياح قوية ,يظهر خادم الحسين وهو رجل كبير السن يرتدي رداءاً ابيض وبيده قدح ماء لا يرى وجهه من قبل الجمهور)
خادم الحسين: ( وهو يناوله قدح الماء)
بني اروي عطشك
رحيم: (ينهض ويمسك قدح الماء فيشعر ببرودته)..
عجباً ! ماءٌ بارد في هذا المكان !
خادم الحسين: اروي عطشك
رحيم: ولكن من أنت؟
خادم الحسين: خادم الحسين اقضي حوائج السائرين إليه
رحيم: يا لها من كرامة إلهية!
خادم الحسين:اروي ظمأك
(يحاول رحيم سكب قدح الماء في جوفه مرة واحدة ولكنه ينتبه ويشرب شربة صغيرة)
رحيم: أشكرك يا سيدي
خادم الحسين: أكمل قدحك, أمامك طريق طويل
رحيم: ( محدثاً نفسه) ..
أمامي طريق وعرة قد لا تحقق مناي
خادم الحسين: ستُهلُك نفسك هكذا
رحيم: أريد أن أصل إليه وأنا ظامئ وجائع
مغبر وحزين
لعلي اروي ظمأه
لقد رأيته يطلب شربة ماء مني, بل منا جميعاً
طلبها مرتين
خادم الحسين:من الواضح إن الرؤيا أثقلتك
رحيم: حينما تكررت تلك العبارة
فلا بد أنها أثقلت كل جوارحي
لقد خرجت من كل مسرات الحياة
من اجل رؤية فجر جديد
خادم الحسين:قد ترى رؤيا تسرك بعد زيارة الحسين
رحيم: (بحسرة) آه, كم آمل ذلك.....
( موسيقى هادئة, دائرة الضوء على رحيم الذي ينسى ما بهِ من تعب فيقف ويسير خطوات)
ولكن... ما يحيرني, ما يحيرني..
إني رأيته بتلك الهيأة المهيبة
كان طويلاً مهيباً
قوامه , وجهه وشكل رداءه
كأنك أمام مشهد يختصر كل الجمال في العالم
كانت تعلو محياه هالة من النور
ووجهه أجمل من كل صورهِ التي نراها
وصوته ,صوته لم اسمع له مثيلاً
مزيد من الأضداد فيشق السماء بعظمته
ويتدفق منه الحنان مثل ينبوع ماءٍ صافٍ
فيبعث في النفس الراحة والطمأنينة
وكان يبتسم.. نعم.. يبتسم ويقول:
يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء
ويعود ليكررها بصوت أكثر رقة من السابق
يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء
خادم الحسين: كان يخاطب الجميع
رحيم: (يتمدد على الأرض يطوي يديه الواحدة مع الأخرى)
منذ تلك الرؤيا اشعر إني اغرق داخل نفسي
ترى هل تعتقد إن زيارتي للحسين ستروي ظمأه؟؟
خادم الحسين:قد يكون ذلك, إن شاء الله
رحيم: هل تعتقد إن فعلي هذا هو التفسير الصحيح لتلك الرؤيا؟
خادم الحسين:قد يكون ذلك , إن شاء الله
رحيم: ( يغمض عينيه)
قد, قد, قد, هذه القد تثير شكوكي
(يرتفع صوت الآذان)
الله اكبر الله اكبر
الله اكبر الله اكبر
اشهد أن لا اله إلا الله
رحيم: ( مغمض العينين) الصلاة, الصلاة , سأقوم الآن ..........
اشهد أن لا اله إلا الله
اشهد...............
( صوت ريح قوية مع موسيقى فيما يُخفض صوت الأذان)
رحيم: (مع ارتفاع الموسيقى يكون لصوت رحيم صدى)..
أيتها الكرامة الإلهية
أخرجيني من وحشة الغروب
أريدُ أن اعلم الحقيقة
خادم الحسين: أيةُ حقيقة؟
رحيم: لم لا يزال الحسين ظمأناً؟
خادم الحسين: ستدرك الجواب من خلال نفسك
رحيم: نفسي؟؟! عدوي الذي أتحاشاه
وفي نفس الوقت علي أن اتبعه
نفسي التي تزداد غروباً عند كل شروق
وتزداد غرقاً كلما توهمت الإبحار
خادم الحسين: عليك بالمحاولة, انتشل نفسك من دهاليز الظلام
رحيم: هل استطيع حقاً أن انتشلها؟
(ضحك) من أين؟؟ ومن ماذا؟
من آفات الأقدار؟
أم من تسرّع الأفكار
أم,, أم,, أم....
(بصوت منخفض)أرجوك ساعدني
خادم الحسين: إن فعلت ذلك فسوف يسهُل هبوطها إلى القاع ثانيةً
رحيم: آه من حيرتي..
(يعلو صوت الموسيقى ثم يخفت إلى موسيقى هادئة جداً كما في المشهد الأول والصوت نفسه يسمع ولكن تظهر هيأة رجل خلف ستار في نهاية المسرح, الهيأة تدل على الهيبة من خلال طول القامة وشكل الرداء)
الصوت: يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء؟
تكرار الصوت: يا أولادي أما من احد يسقيني شربة ماء؟
(رحيم ينهض مسرعاً يأخذ قدح الماء من خادم الحسين ويسرع نحو الظل خلف الستار وقبل أن يصل إليه تتحرك الإضاءة وتعود الموسيقى الصاخبة ثم تتوقف ويختفي الظل وخادم الحسين ويظهر رحيم نائماً ثم ينقشع الظلام دلالة على طلوع الصباح)
رحيم: ( ينهض مذعوراً ينظر نحو مكان الظل)
لم أصل إليه, لم أصل إليه
لقد أسرعت ولم أصل
كنت متشوقاً إليه
كنت متلهفاً لإروائه
حسبت انه سيأخذ القدح من يدي لا محالة
تمنيت أن أحظى بلمسةِ من يديه الكريمتين
تنتعش لها روحي
فأفوز بكرامة لم يحظَّ بها احد قبلي
وحينها... وحينها فقط سأفخر برؤاي
سأرويها لجميع الناس
الأقرباء, الأصدقاء , وحتى الغرباء
سأقول إني رأيت الحسين وأني سقيته كأس ماءٍ
واني لامست دفء يديه
(بحزن) ولكني لم أصل إليك
ولم يصلك الماء
ولم المس يديك
لماذا يا سيدي يا حسين
لماذا يا حبيبي يا حسين
لماذا تجافيني
أتيت إليك ظامئاً ,جائعً, سائراً,حزيناً
انتفخت قدماي وبلَت ثيابي
كادت الوحوش أن تنهش لحمي
رفضت أن يصاحبني احد كي لا أسلى عن غايتي
أكلُّ ذلك لا يرويك؟!
وكأني ما زلت في ضياعي
وما زال ذلك المتاع يثقل كاهلي
(صمت, ينتبه إلى طلوع الشمس)
رحيم: (بأسى) استغفر الله, ها قد طلع الصباح
وها أنا كالعادة اقضي صلاتي
إلى متى اللوم
والى متى الاستغفار
والذنب هو هو
أوه إنها حكاية كل يوم
إنها حكاية كل يوم
(ينهض واقفاً , يرفع كميه, ويسير بحزن)
لم أصل إلى سيدي الحسين ولم أصلِّ لله
(بحسرة)
لم أصل إلى سيدي الحسين ولم أصلِّ لله
(صمت كأنه انتبه إلى أمر ما)
(بهمس) : لم أصل إلى سيدي الحسين ولم أصلِّ لله
: لم أصل إلى الحسين ولم أصلِّ لله
لم أصل إلى.....ولم أًصلِّ لـ ِ......
(تبدأ الموسيقى تعلو عند العبارة الآتية أكثر فأكثر)
لم أصل ولم أًصلِّ ِ
لم أصل ولم أًصلِّ ِ
الصلاة..الصلاة هي .. شربة الماء التي طلبها منا سيدي ابا عبد الله
كان صوته يأتيني عند غفلتي عن وقت الصلاة
نعم, نعم, أليست الصلاة هي عمود الدين؟
أليست الصلاة هي خير العمل؟
الآن عرفت سبب ظمأك سيدي
كان يؤدي صلاته في أوقاته رغم لهيب تلك المعركة
بل انه خرج لإصلاح الدين
وما الدين إلا صلة العبد بخالقه
أليست الصلاة هي ما تشعر المرء بضآلته أمام معبودهِ
فيركع ويسجد ويركع ويسجد
مهما على شأنه
أليست الصلاة منقذ الروح من اليأس؟
وعندها يتوقف القلب عن تقبل فكرة الإغراء؟
إذاً أيتها الروح ها قد خرجتِ من وحشة الغياب
وها أنا أرى يقيني أمام عيني
الحمد لله... الحمد لله
(ظلام مع استمرار الموسيقى)
صوت: أن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا.
أعجبني
تعليق
مشاركة