بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا ۚ قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا ۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾[1].
في هذه الآية الشريفة حديث عن مطلق الأشخاص المنحرفين من حيث كونهم يتجهون إلى الله تعالى في حالات الشدة، ويعاهدونه بالطاعة في حالة انقاذه تعالى إياهم، ولكنهم بعد أن تفرج الشدة عنهم، يبغون في الأرض بغير الحق.
ويلاحظ أن القرآن الكريم، سبق أن طرح هذا السلوك في مقطع اسبق، وذلك قوله تعالى. ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[2].
والسؤال هو هل أن القرآن الكريم يكرر هذا الموضوع في أكثر من مقطع كما لاحظنا، أم أن تكراره للموضوع يتم في سياق جديد؟ وما دامت دراستنا بعمارة السورة حينئذ يتعين علينا إثارة مثل هذا السؤال.
الحق، أن تكرار الحقيقة المتصلة بكون الإنسان المنحرف مطبوعا على أن يتجه إلى الله تعالى في حالة الشدائد، وأن يغفل عن الله تعالى في حالة انفراجها، إن تكرار هذه الحقيقة إنما تم في سياقات مختلفة، ففي المقطع الأسبق يتناول النص القرآني الكريم سلوكا خاصا هو أن الإنسان عندما يكشف ضره يمر وكأنه لم يتجه إلى الله تعالى بعد أن كان يدعو مضطجعا أو قاعدا أو قائما.
أما في المقطع الجديد، فإنه يتناول سلوكا أشدّ مفارقة من سابقه، ألا وهو المكر والبغي، بينما كان السلوك السابق هو مجرد التغافل عن الله تعالى وعن الدعاء.
وعليه فالتكرار هنا جاء في سياق جديد، وهو أمر يفسر لنا جانبا من السر الفني الكامن وراء عنصر التكرار.
والآن، لنربط بين آيتنا هذه والآية التي من بعدها، إن الناس إذا أذاقهم الله تعالى رحمة من بعد الشدة إذا لهم مكر في آيات الله تعالى، فقدم النص نموذجا عمليا لهذا السلوك، موضحا ردود الفعل التي يصدر عنها المنحرفون في مثل هذه الحالة التي ينتهون إليها، ونعني بذلك كونهم يبغون في الأرض بغير الحق عندما يكشف الله تعالى عنهم الشدة، فيقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[3]، إن هذا المقطع الذي ينطوي:-
أولا: على تذكير الإنسان بعطيات الله تعالى بالنسبة إلى تأمين وسائل النقل، ثم بإنقاذ الإنسان.
ثانيا: عند مواجهته لشدائد الغرق في البحر، هذا العرض ينطوي من الزاوية الفنية على أسرار جمالية متنوعة ينبغي الوقوف عندها ولو عابرا.
ولعل أول ما ينبغي لفت الانتباه عليه هو ملاحظة الهيكل الهندسي للمقطع حيث تحدث النص أولا عن معطيات الله تعالى بالنسبة إلى تيسيره تعالى للإنسان وسائل تنقله في البر والبحر ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾، بعد ذلك تحدث عن أولئك الذين يسيرون في البحر ويتعرضون لعواصفه ولخطر الموت.
فالهدف هنا هو توضيح أن الناس إذا أذاقهم الله رحمة من بعد ضراء مستهم، نجدهم يمكرون في آيات الله تعالى بدلا من الشكر على معطياته.
وفي نفس الوقت يستهدف لفت النظر إلى جملة من ظواهر الإبداع الكوني الذي حدثنا عنه في مقطع سابق، لذلك قطع النص سلسلة حديثه عن هؤلاء الناس الذين يمكرون في آيات الله تعالى، واتجه إلى عرض الظاهرة الإبداعية للبر والبحر، ثم عاد إلى الحديث عن سلوك هؤلاء الناس وهم ينعمون بمعطيات الرحلة في البحر، وهو ترابط جميل وبهذا التقطيع لسلسلة الموضوعات ووصلها من جديد نتلمس مدى إحكام العمارة الفنية للآيتين من حيث تلاحم موضوعاتها بعضا مع الآخر.
[1] سورة يونس، الآية: 21.
[2] سورة يونس، الآية: 12.
[3] سورة يونس، الآية: 22.