ينطلق تشكيل مضمون خطابي ابداعي من أعتاب مهرجان ثقافي، ويعتبر من أهم المميزات الفنية التي تحسب لصالحه، فقد تميزت بحوث مهرجان ربيع الشهادة الخامس والذي اقامته أمانتا العتبتين الحسينية والعباسية المقدستين، بالجدية التي فاعلت بها الفكر بالادب، وفق متغيرات الفرادة من حيث قيمة البحث وحداثته، فلذلك كان بحث الدكتور (محمد سعيد الطريحي) يحمل توجهات رؤيوية تطرح مثاقفته الانسانية عبر تجربة جديدة لمثل هذه المهرجانات لكونه شكل منفذا جديدا يطل فيه على مناطق بكر لم تشهد مثل هذه الاشتغالات الفكرية، محصناً بالمعنى الدلالي الحيوي...
والبحث الموسوم (الإمام الحسين في الموروثات الشعبية الافريقية والاندلسية) ينقل أساساً تجربة الشاعر (عنصيل البرعصي) ولا شك أن الحديث عن شاعر بطبيعته ينفتح على عوالم زمانية ومكانية، تمهد لمضامين أوسع، وتمنحنا مدلولات فنية أدبية، وقد تكون هذه منطقة الاساس عندنا لظهور دراسات تخص الأثر الولائي لتخصص كل معمورة، فينقل لنا البحث مؤثرات الوعي العام الساعي لتلاحم القضايا المصيرية روحاً، إذ سعى المرجع الديني الشيعي إلى اصدار فتاوى توجب الجهاد ضد الايطاليين لنصرة طرابلس، وابعاد شبح الاحتلال عنها بعد عام 1911 سنة اعلان ايطاليا الحرب على العثمانيين. والدقة البحثية تكون محصناً تمنع فجاجة إي اعتراض بحجة تجزئة تكوينية او ما شابه لكونها تصب في جوهر الخطاب القصدي. تلك التجزئة تجاوزت الكثير من العقد حين خصصت عناوين فرعية بعنوان (شيعة العراق يدعمون الجهاد الليبي) فقد شكل الجنوب العراقي هيئات أهلية لدعمه وجمعوا الأموال وبعثوها للمجاهدين الليبين في طرابلس الغرب.
فقد سعى البحث إلى السمات الشخصية العراقية المحمية بحب آل البيت (ع) فلم تكن تلك الشخصية وليدة نمطية مغلطة، وإنما تعيش أفقا رحبا يعانق السلام بوعي الحرية والاستقلال وبوعي النهضة الحسينية، وتتلخص كل هذه المعاني في شخصية الشيخ (مبدر آل فرعون) رئيس قبيلة (آل فتلة) الذي تبرع بمبلغ 500 ليرة ذهب، وعزم الذهاب إلى ليبيا وهو معتقل... فأطلق السطان العثماني سراحه تثمينا لموقفه.
ومثل هذا النص البحثي يحيلنا إلى مكونات المدن الإيمانية وارتباطاتها بتواريخها المقدسة، والتي أثمرت متعلقات انفتاحية؛ ففي كربلاء المقدسة وعند ضريح سيد الشهداء كان هناك دعم للقضية الليبية تمخضت عن فتاوى جهادية ساعية لتحرير الوطن والناس. وفي النجف الأشرف وعند مرقد الإمام علي (ع) اقيم أحتفال كبير دعت إليه المرجعية.
ونجد إن ارتكاز البحث على سمة فنية أبعدت عنه التقريرية، وأوجدت لنا استدلالات منطقية أوحت بأن هذا الجهد الشعبي المقدس لابد أن يتوج بمسعى يكسر نمطية الأحداث، وتقرر فعلاً ارسال السيد مسلم زوين، والحاج عزيز بيك، إلى ليبيا، وارسال معونات الشعب العراقي للمجاهدين، وهذا الالتزام الجماهيري يستمد مرجعية من متن ولائي ووطني توحدت فيه الرؤى، فكان لابد من سند أدبي يعبر عن محمول الثقافة والأدب عند الشعراء العراقيين الشيعة مثل الشيخ عبد المحسن الكاظمي، والسيد عبد المطلب الحلي، والشيخ محمد حسن أبو المحاسن، والشيخ عبد العزيز الجواهري.
ولكي لا تشغلنا الاستجابة التكوينية عن مؤثثات التمثيل الايماني داخل المضمون الاجتماعي الليبي، والبحث في آثاره الدالة على تعلق الأفارقة بآل البيت (ع) ورموزهم المقدسة، ولا سيما الإمام الحسين (ع) فتظهر للوجدان بنية فعّالة مؤثرة في السياق خارج ـ داخل النصي، وفي هجرة أحد أعيان ليبيا في القرن التاسع عشر إلى العراق لزيارة ضريح الإمام سيد الشهداء (ع) (عنصيل البرعصي) وهو من الأسماء النادرة المستعملة في الجنوب العراقي، والبرعص نسبة إلى البراعصة، وهم من البدو الرحل.
وبحث الدكتور محمد سعيد الطريحي يطرح تجربة فنية ولائية، وليس تاريخا ولائيا نجد أن النص البحث لم يتأثر بجهل التاريخ لهجرة (عنصيل) لزيارة العراق بل راح يبحث في البنية النصية في الاستدلال المحكي الذي أسهم في كشف هوية المكان أمام ضريح الإمام الحسين (ع) وتمنى نصرته ونصرة قبائل عربية لرد مظلومية الحسين عليه السلام.
وفي عمق هذه الأمنية نجد تأريخا يحمل محبة آل البيت عليهم السلام في شمال أفريقا منذ القرون الهجرية الاولى. وترسخت جذور الولاء في العهد الفاطمي حتى نهايته، ويعني أن هذه الأمنية والالتزام نابعة من مهد قبول عام فيحمل البحث معالجته عمل دؤوباً ليكشف عن معالم التشيع في ذوات الأعراق الأفريقية، كرصد شمولي يلاحظ وجد التقاليد الاجتماعية التي تؤكد عليها مدلولات التراث الشعبي الأفريقي بشكل عام كالاحتفال بيوم عشوراء والحزن العشورائي ويؤكد زعيم أفريقي أن اي استفتاء سيأخذ شيعية الاسلام، فاسألوا الناس من يحب عليا دون سواه...
وكاستنتاج تاريخي لا مجال للشك فإن الدولة الفاطمية الشيعية قامت في شمال أفريقا وليس في إيران، هذا يعني أن الشيعة عرب بالأساس، وهذا هو الاطار الحقيقي الذي رسمه العرب الشيعة بمقامهم الاسمى، وعليه فأن القصيدة أسهبت في كشف الأبعاد الدرامية بواقعة كربلاء وبين الاثر الشعبي العام الذي خلقته الواقعة في قلوب الأفارقة، فكانت القصيدة عبارة عن أمنية تجاوزات معجمها اللغوي فشكلت أوار حرقة فواره:
تمنيتني في الفين فوق أحصنه
نهار كربلاء ونجيبه قبل يجنه
تمنيتني في أول سبيب يطرب
حرابى عصارى م الحجاج مغرب
ويجن في قدومهن خيل عيت مغرب
على كل تيغى ما الصراع يعنه
والحجاج عند الليبيين جانب الجبل الأخضر حافته أن تأتي لنجدة الحسين من قبيلة حراب برقة (عيت مغرب) من قبيلة البراعص فقد عد سمات هويتهم وجغرافية موقعهم وكما عرفنا السيد الباحث الطريحي إن الحاج مغرب يشير إلى أنهم من تلك الجبال ويدل على أن الشاعر كان في العراق وأجابه الشاعر الشيخ:
تمنيتني في ألفين درناوية
اللي مو على عاتى على أمعشية
جيابة الثنى من قبل م الصفية
دعاهن حبيب وفي جرايد جنة
الامام الحسين عليه السلام في الموروثات الشعبية الافريقية
علي حسين الخباز