بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾[1].
﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾، من خلال المشاهدة الحسية نحن نرى انسانا بشرا مثلنا، ولا بد أن يكون الرسول إلى البشر من صنف هو أعلى من البشر كالملائكة وهو قول البراهمة، متغافلين أن الملائكة ليسوا كأصل أفضل من البشر، وحتى لو كانوا أفضل منه، ففي البشر نفسه تفاضلات من الناحية الروحية كسائر التفاضلات، أو ليس المتحكم على جمع مفضلا عليهم طوعا أو كرها؟ أم لا يتفاضلون أبدا فيما بينهم أنفسهم بالقيم الزائفة وهم أمثال في البشرية؟ ولكنهم لما لم يجدوا في نوح (عليه السلام) مقياس الفضيلة الظاهرة أنكروا رسالته الربانية.
ثم ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَالرَّأْيِ﴾، وهو الرأي البادي الأول، قضية بادي النظر، رغم أن بادي الرأي هو دون تأمل ونضج، لا يعتمد عليه، فقد أجابوا عن حجتهم هذه اللجة ب ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، فلئن اتبعك أفاضلنا بادي الرأي لكنّا نفضلك علينا رغم أنك بشر مثلنا.
فمن ثم ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ﴾، تتفضلون به علينا بالرسالة، لا فيك يا نوح ولا في أتباعك القلة الذليلة الرذيلة.
وهنا ﴿مَا نَرَى﴾، في ثالوثها، سناد إلى عدم الرؤية البادية وهي الحسية الخسيسة التي يتبناها الحسيون الناكرون لما وراء الحس، ثم ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، وهو الرأي دون غور وتأمل الذي مجاله وراء الحس، ثم ﴿نَظُنُّكُمْ﴾، سنادا إلى غير العلم في النكران.
وكيف تكذّب رسالة الله ب ﴿مَا نَرَى﴾، ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، ﴿نَظُنُّكُمْ﴾، وهو جهالة مثلثة مفلّسة؟
ف «ما نرى الأولى» تتبنى ظاهرة البشرية، أننا لا نجدك إلاّ مثلنا فيها، فكيف تتفضل علينا ولا فضل لك علينا، متجاهلين الفضائل الروحية غير الحسية.
و«ما نرى الثانية» تتبنى ظاهرة الفقر الذي يعبرون عنه بالرذالة، وهو الفقر المادي الحسي، متجاهلين الثروة الروحية التي تدعو لاتباع الحق المبين.
و«ما نرى الثالثة» سلب لأي فضل وحتى الروحي إذ لا يرى حسيا، ورؤية الفضائل الروحية هي رؤية عقلية روحية، وليس ﴿مِن فَضْلٍ﴾، تختص بالفضل الحسي لمكان ﴿فَضْلٍ﴾، النكرة في سياق النفي من هؤلاء الذين يعنون سلب أي فضل مهما كان روحيا فهم لا يعتبرونه فضلا، مجاراة مع نوح (عليه السلام) ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾[2].
ثم النتيجة ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾، هي ظن يتبنى ﴿مَا نَرَى﴾، في حقل سلب الرؤية الحسية ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾[3].
فلقد عمّيت على هؤلاء الأعمين أصل الفضيلة وهي الروحية، زاعمين أن الفضيلة هي فقط الفضيلة في الحياة الدنيا بزخرفاتها وقواتها الحيوانية، فحرموا أنفسهم من رحمة غالية ربانية. ذلك رد العليّة المستكبرين من قومه كما هو رد سائر المستكبرين طول الزمان وعرض المكان.
ذلك، وفي استنكار رسالة البشر إلى البشر تغاض عن أهلية البشر لحمل الرسالة الربانية، رغم أن الله خلقهم في أحسن تقويم، ولكنهم يردون أنفسهم بأنفسهم إلى أسفل سافلين! هذا! وفي رسالة البشر إلى البشر تبجيل لهذا البشر أنه مكتف بنفسه في حمل الرسالة، وهذه أقرب إلى القبول، وأغرب عن الذّبول والأفول، وأقوى حجة عند أرباب العقول.
ثم في تسمية الفقراء العزّل المظلومين أراذل رذالة من الرأي، وثفالة من الوعي، فإنما الأراذل هم الذين رذّلوهم وظلموهم وهضموهم حقوقهم، فهم إذا أفاضل وليسوا أراذل، واتّباعهم رسل الله هو بنفسه دليل على أن رسالات الله ناحية كأساس منحى الحفاظ على حقوق المظلومين المهضومين.
[1] سورة هود، الآية: 27.
[2] سورة المؤمنون، الآية: 27.
[3] سورة النور، الآية: 40.
