بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾[1].
بعد أن دعا النبي صالح عليه السلام قومه ثمود لعبادة الله تعالى وبين أن المعبود هو الله وحده لا شريك له وليس من خالق سواه، وارسلنا وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ﴾، فثمود اسم منع صرفه باعتبار التعريف والتأنيث، وهو بمعنى القبيلة، ويطلق على الماء القليل الذي لا مادة له، ولعل تلك القبيلة كانت مياههم قليلة في الحفر المجتمعة من ماء المطر من دون أن تكون لهم العيون والابار، بعد ذلك عرض لنعمة سابقة سابغة ربانية أنه: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، إنشاء في التكوين واستعمارا فيه، وإنشاء في التشريع، أي هو كوّنكم من الارض لا غيره، فإنّه خلق آدم وموادّ النطف الّتي خلق نسله منها من التراب.
فطالما أصبحت صيغة الاستعمار صيغة زائفة كما السياسة والاستثمار، حيث الساسة المستعمرون المستثمرون كانوا ولا يزالون يظلمون الناس فيما هم عاملون.
نرى هنا ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، من الصفات الربانية، وكما الاستثمار في الزخرف بمعناه: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾[2].
ولكن أين استعمار من استعمار، واستثمار من استثمار، وسياسة ربانية من سياسة شيطانية؟ فالاستعمار الرباني هو طلب العمران الإنساني في هذه الرقعة الأرضية، عمرانا للأرض نفسها لعمران الحياة الجسدانية فيها، وعمرانا للروح الإنسانية الساكنة الماكنة فيها وأين عمران من عمران؟ لقد استعمرنا ربنا في الأرض التي أنشأنا منها استقرارا برياحة الحياة الأرضية، واسترواحا لأرواحنا، حيث العقل السليم هو في البدن السليم، فالأصل في الاستعمار هو استعمار الأرواح، في الأبدان المستعمرة العامرة إذ هي أمكنة الأرواح ومجالاتها العملية الظاهرة في مجالات للحياة.
إن المستعمرين الطغاة الظلمة إنما يهدفون من استعمار الأرض عمران حياتهم الأرضية بتهديم العمال عن بكرتهم واستغلالهم ليحنوا ظهورهم لهم فيركبوهم، ولايطعمونهم شبعهم إلا سدّ رمقهم ليواصلوا في هذه العمالة الظالمة، لذا هو استعمار لأنفسهم دون من يستعملونهم للعمار.
والله سبحانه خلق لنا الأرض قبل أن يخلقنا منها، ثم استعمرنا فيها بما خلق من معدات العمار فينا وفي أرضنا، وجعل استعمار الأرض من العبادات ف ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[3]، خلقها وما فيها لصالحنا، فعمّرنا فيها وأمّرنا بما أمرنا وقوّانا باستعمارها العادل الكافل للحياة الأرضية الراقية ماديا ومعنويا.
وهكذا يأمر القائد الإسلامي السامي بأمر الله تعالى أن تستعمر الأرض وكما في عهد الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر النخعي متصرف لواء مصر من قوله: ((وَلْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ اَلْأَرْضِ أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اِسْتِجْلاَبِ اَلْخَرَاجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لاَ يُدْرَكُ إِلاَّ بِالْعِمَارَةِ وَمَنْ طَلَبَ اَلْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ اَلْبِلاَدَ وَأَهْلَكَ اَلْعِبَادَ وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً))[4].
وقد تعني ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، إضافة إلى ما تعني من العمار، العمر، فهما معنيان، حيث العمر والعمار متلازمان، فقد أنشأكم من الأرض وجعل لكم فيها عمرا وعمارا، فبالعمر يحصل العمار، وبالعمار يطول العمر، فإن في عمار الأرض إصلاحها لصالح الحياة المعيشية الطويلة، رعاية لمتطلبات الحياة البدنية، والعقل السليم في البدن السليم.
وجعلكم عمارا بإعطاء العلم بمقدار التعمير والقدرة حتى عمّرتم الارض بالبرهان السابق، فذواتكم وصفاتكم من العلم والقدرة من الله الواحد.
فاطلبوا منه تعالى الصفح من ذنوبكم وقولكم بالشرك، وهو طلب الغفران، ثمّ بعد ذلك ارجعوا اليه بالطاعات، فإن صحة العبادات مشروطة بالتوحيد، ومتى لم يتحقق التوحيد، لافائدة للعمل، فمرتبة الاعمال متأخرة، وعلل الاستغفار والتوبة، بقرب الله واجابته الدعاء، إذ بسبب القرب يسمع، ويلتفت ويتوجه، وبسبب الاجابة يستجيب، ويعطى المأمول، وحيث إن القرب هو القرب القيومي لا المكاني، ففيه القرب الودادي ايضا، فهو المحب والمجيب.
[1] سورة هود، الآية: 61.
[2] سورة الزخرف، الآية: 32.
[3] سورة البقرة، الآية: 29.
[4] نهج البلاغة، ج 3، ص 96.
