إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قراءة في قول الإمام علي عليه السلام (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها)

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قراءة في قول الإمام علي عليه السلام (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها)

    قراءة في قول الإمام علي عليه السلام (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها)
    المقدمة
    يُعدّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام النموذج الأكمل للإنسان الذي جمع بين السلطة والقداسة، وبين الزهد والسيادة. فقد كان زهدُه عليه السلام نهجًا واقعيًا لا شعاراتيًّا، يجسّد رؤية الإسلام الأصيلة إلى الدنيا بوصفها ممرًّا إلى الآخرة لا مقرًّا. ومن أبلغ ما يعبّر عن هذه الرؤية قوله الشريف:
    «والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها».
    هذه العبارة البسيطة في ظاهرها، العميقة في باطنها، تختزل فلسفة متكاملة في الأخلاق والسياسة والاجتماع والعرفان، وتعبّر عن رؤية الإمام التكوينية للحياة الدنيا وموقع الإنسان منها.
    أولًا: الزهد الواقعي لا الشعاري
    الزهد في منطق الإمام علي عليه السلام ليس هروبًا من الحياة، بل تحرّرًا من عبوديتها. فقوله هذا صادر من خليفة للمسلمين كانت بيده خزائن الأمة، ومع ذلك عاش في مستوى الناس، بل دونهم، ليُبرهن أن الكرامة لا تُستمد من الملبس، بل من المبدأ.
    الزهد عند الإمام كان زهد اختيارٍ لا اضطرار؛ لأن الإمكان المادي متوافر، لكن الامتناع عنه عبادة. فهو يمارس الزهد كقيمة أخلاقية تهذّب النفس وتربطها بالحق، لا كوسيلة دعاية أو تكلّف اجتماعي. ولهذا قال عليه السلام أيضًا:
    «لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي» (نهج البلاغة، الخطبة 45).
    إن استحياءه من راقعها يعني أن تواضعه بلغ حدًّا يجعله يشعر بالحياء من بساطته أمام الناس، لا لأنه فقير، بل لأنه يرى في نفسه مسؤولًا عن أمة، فلا يريد أن يُشعر أحدًا بالضيق أو الحسرة من فقره أو بساطته.
    ثانيًا: العدالة الاجتماعية ومبدأ المساواة
    المدرعة المرقعة لم تكن مظهر زهد فحسب، بل كانت بيانًا سياسيًا واجتماعيًا يترجم العدالة التي أرادها الإمام أن تسود المجتمع الإسلامي.
    فهو القائل:
    «أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر؟».
    لقد أراد أن يعيش كما يعيش الناس، وأن يُشعر الفقير بأن الحاكم يشاركه همّه لا أن يترفّع عنه. بهذا السلوك أقام مبدأً خالدًا: أن الحاكم العادل لا يحق له أن يترفّه ما دام في الأمة جائع أو محتاج.
    إن رقع المدرعة كانت رقعًا على جسد العدالة؛ إذ تذكّر الناس بأن الحاكم الذي يرتدي المرقّع هو أصدق من يرقّع جراح المجتمع.
    ثالثًا: رمزية الرقع في الإصلاح الذاتي والمجتمعي
    من زاوية رمزية، الرقع التي جمّلت المدرعة هي صورة مكثفة لفلسفة الإصلاح التي اتبعها الإمام عليه السلام. فكما يُرمَّم الثوب بدل رميه، كذلك يجب إصلاح المجتمع بدل هدمه، وتربية الناس بدل استبدالهم.
    إن في قوله هذا دعوةً إلى الاقتصاد والإحياء، لا إلى الاستبدال والإتلاف، وهو ما يعكس منهجه في التعامل مع الأخطاء البشرية: الإصلاح قبل الإقصاء، والتقويم قبل العقوبة.
    رابعًا: القيادة القدوة
    الإمام علي عليه السلام كان يدرك أن الأمة لا تُربّى بالمواعظ اللفظية فقط، بل بالقدوة العملية. فقوله هذا يعبّر عن منهج القيادة الأخلاقية التي تُعلّم بالعمل قبل القول.
    ولذلك قال عليه السلام في موضع آخر:
    «من نصب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره».
    بهذه التربية العملية أقام الإمام أساسًا حضاريًا عميقًا: أن السلطة لا تكتسب شرعيتها إلا من المطابقة بين القول والفعل، وأن الإصلاح لا يبدأ من القوانين بل من سلوك الحاكم نفسه.
    خامسًا: الكرامة في البساطة
    في عمق هذه الكلمة درسٌ إنساني بليغ: أن القيمة لا تكمن في المظهر بل في الجوهر.
    فالإمام عليه السلام لم يستحِ من فقره، بل من كثرة ترميمه لثوبه، وهي استعارة عن كثرة صبره على قسوة الزمان وتقلبات الناس.
    كان يرى أن كرامة الإنسان لا تُقاس بثيابه، بل بما يكسو قلبه من تقوى، مصداقًا لقوله تعالى:
    ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26).
    سادسًا: البعد العرفاني والتكويني
    في الرؤية العرفانية، الرقع في ثوب الإمام ترمز إلى أنوار الرحمة التي يرقّع بها الله قلوب العارفين.
    فالإمام العارف بالله لا يرى في المادة إلا ستارًا يُخفي الجوهر النوراني.
    وهكذا تتحول المدرعة المرقعة إلى رمز للفناء في الله، إذ لا يهمّه من الدنيا سوى ما يستره عن أعين الناس ليبقى قلبه مشغولًا بالله وحده.
    ولذلك قال عليه السلام في مناجاته:
    «إلهي ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، ولكن وجدتك أهلًا للعبادة فعبدتك».
    سابعًا: الاقتصاد الأخلاقي كمنهج حياة
    يؤسس الإمام من خلال هذا القول مبدأً قرآنيًا واضحًا:
    ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31).
    فهو يمارس الاقتصاد لا بوصفه بخلًا، بل كأخلاق روحية واجتماعية تحفظ الموارد وتربّي النفس على الاعتدال.
    فالرقع ليست فقرًا، بل وعيًا حضاريًا يدعو إلى إصلاح الموجود بدل استبداله، وإلى قناعة تُحصّن من جشع الدنيا.
    الخاتمة
    إن قول الإمام علي عليه السلام:
    «والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها»
    ليس مجرد تصوير لثوب مرقّع، بل هو بيان زمني خالد يختصر فلسفة الحياة في منهجه عليه السلام.
    إنها رقعة على جسد الثوب، لكنها أيضًا رقعة على ضمير الإنسانية، تذكّر كل قائد وكل إنسان بأن البساطة ليست نقصًا بل كمال، وأن الزهد ليس حرمانًا بل تحرّرًا.
    من هذه الجملة القصيرة تتولد شبكة من المفاهيم: الزهد، العدالة، القدوة، الإصلاح، والعرفان، لتكشف عن شخصية الإمام علي عليه السلام بوصفها الإنسان الكامل الذي جمع بين العقل والروح، وبين الدنيا والآخرة، وبين السلطة والزهد، دون أن يتناقض في أي بُعد من أبعاده.
    المصادر
    نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، الخطبة رقم (160) و(45).
    شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 17 ص 78–80.
    الغارات، إبراهيم الثقفي، ج 1 ص 90.
    تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص 200.
    بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 41 ص 109.
    المستدرك على نهج البلاغة، هبة الدين الشهرستاني، ج 1 ص 125.
    مشارق أنوار اليقين، الحافظ رجب البرسي، ص 94.​
المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X