
آية الله السيد مرتضى الشيرازي
مظلوميةَ الزهراء لم تكن حدثًا تاريخيًا مضى وانتهى، بل هو حدثٌ متجدِّدٌ مستمرٌّ حتى هذه اللحظة، وأنّ خذلانَنا لها ولرسالتها لا يزال مستمرًّا، وذلك من الأسباب، حسب مقتضى القواعد، التي تدعو لحجب لطف الله تعالى عنّا، وعدم إذنه لوليِّه الأعظم بالظهور المبارك الذي يملأ الأرضَ عدلًا وقسطًا كما مُلِئت...
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[1].
وقال جل اسمه: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرينَ)[2].
المقدمة: سيتمحور البحث بإذن الله تعالى حول محاور ثلاثة:
المحول الأول: إنّ مظلومية السيدة الزهراء (عليها السلام) لا تزال مستمرة، وإنّ خذلاننا لها ولأهل البيت (عليهم السلام) لا يزال متواصلاً، إلا القليل أو القليل جداً ممن خرج.
المحور الثاني: إنّ الاستبداد السياسي يعدّ من أسوأ أنواع الاستبداد.
المحور الثالث: كيف قادت الزهراء (عليها السلام) الانقلاب الاستراتيجي – الناعم؟ وكيف واجهت المنقلبين على الأعقاب؟
وقد ابتدأ البحث ببصائر قرآنية حول مفردة التغيير وأنواعها، التغيير الناعم والخشن والمؤقت والاستراتيجي والدائم وغير ذلك، ثم تطرق البحث إلى شاهدين على ظلامة الزهراء (عليها السلام) أحدهما: الجهل الغريب، حتى من قبل كثير من العلماء، بالإرث الروائي الضخم الذي خلّفته صلوات الله عليها، والثاني: تقصيرنا المذهل في إيصال الخطبة الفدكية ونظائرها لمئات الملايين من المسلمين، بل إننا لم نوصلها حتى لعشرات الملايين، أو حتى للملايين ظاهراً مستشهداً بقصة رائعة عن كتاب مبتكر للأطفال عن الغدير.
وتناول البحث الاستبداد الديني موضحاً كيف يعتبر أخطر أنواع الاستبداد لأنه يشكل قوة متمركزة مكثفة ولأنه يذبحك باسم الدين، مستشهداً باتخاذ المستبدين أسماء وعناوين لاهوتية، متطرقاً إلى أسماء الخلفاء العباسيين: المعتصم بالله، القائم بالله، المستعصم بالله،... إلخ ثم استشهد بقصة من أغرب القصص وهي قصة ابن مقلة – الوزير المعذّب ثم انتقل البحث إلى أساليب السيدة الزهراء في مواجهة الاستبداد الديني التي تنوعت بين المقاطعة وبين الجهر والإعلان المعارضة وبين استخدام اللغة الرمزية ومعادلة الشعائر ليختم برثاء الإمام علي (عليه السلام) لزوجته الزهراء (عليها السلام) رثاء يبكي حتى جلاميد الصخور.
بصيرة عن بعض أبعاد مفردة التغيير
وينبغي قبل البدء أن نتوقف عند بصيرة قرآنية تلقي الضوء على بعض أبعاد مفردة (التغيير) الواردة في الآية الكريمة مرتين، فإنّ التغيير على أنواع: تغيير دفعي وتغيير تدريجي، فعلى سبيل المثال إذا وجدت خصلة سيئة أو صفة رذيلة في شريك حياتك أو مسؤولك أو الموظف لديك أو تلميذك أو أستاذك أو أحد أبنائك، فهل المطلوب هو التغيير الفجائي الدفعي أم التدريجي؟! أو بالتفصيل، وما هو ذلك التفصيل؟!.
كما أنّ التغيير قد يكون خشناً وقد يكون ناعماً، إذ قد تستخدم القوة الصلبة في التغيير، وقد تستخدم القوة الناعمة، كما قد يكون التغيير تكتيكياً، وقد يكون استراتيجياً، وقد يكون على المدى القصير، أو المتوسط، أو الطويل.
وذلك كله مما قد يكون من الصعب تمييزه وتحديده، إلا أن الأصعب حقاً هو التحلي بـ (الحكمة) والتميّز بـ (القدرة) على صناعة الخلطة المتوازنة من كل ذلك، واختيار المزيج المتناغم المتجانس في عملية مواجهة الطغاة والمستبدين وكيفياتها وذلك، بحسب كل من أ- المراحل الزمنية المختلفة، ب- وشاكلة المستبدين وطريقتهم، ج- وبحسب التيارات الحاكمة في المجتمع، د- وبحسب قابلية الشعب ودرجات وعيه وتحمله ومدى استعداده للتغيير ولدفع ضريبته، ولعل الحديث عن ذلك يأتي تفصيلاً بإذن الله تعالى.
الفصل الأول: مظلومية الزهراء مستمرة... وخذلاننا مستمر!!
إنّ مظلومية الزهراء (عليها السلام) لا تزال مستمرة حتى الآن، ولا يزال خذلاننا، إلا النادر ممن خرج، مستمراً. ويكفي أن نستشهد على ذلك بشاهدين:
قصة العالم الشهير الذي ناقشته حول عدد روايات الزهراء (عليها السلام)
الشاهد الأول: من تجربتي الشخصية، التي تعضدها مشاهدات أخرى كثيرة، حيث التقيت قبل أكثر من عقدين من الزمن بواحد من أهم علماء العامة، وجرى الحديث في مسائل متنوعة، فكان فيما قال: إنَّ الروايات المروية عن الزهراء (عليها السلام) لا تتجاوز أصابع اليدين، بينما المروية عن عائشة هي بالألوف!
والغريب أنّه استعرض من تلك الروايات القليلة المروية عن الزهراء (عليها السلام) روايةً مكذوبةً – واضحة الوضع والكذب – رواها عن توتّرٍ حَدَث، بزعم الراوي المأجور، بين علي والزهراء (عليهما السلام) حتى أصلح النبي (صلى الله عليه وآله) بينهما؟
فقلت له: إضافة إلى أن هذه القصة مكذوبة ومجعولة لأهداف مبيّتة، فإنَّ تلك الأخرى معلومة خاطئة تماماً (أنَّ الروايات عن الزهراء (عليها السلام) دون العشرة)، فنظر إلي بدهشة، وقال: كيف وأنا متتبع، والأمر مشهور؟ (لاحظوا الظلامة!)، قلت له: إنَّ الروايات الواصلة إلينا منها صلوات الله عليها، هي بالمئات وأكثر! وعندما وجدت استغرابه، بل نظراته المستنكرة، قلت له: أتريد الدليل؟ قال: نعم، فإن ذلك غريب جداً، بل هي دعوى يصعب إثباتها!
قلت: إنَّ أحد علمائنا، وهو السيد محمد باقر الموحد الأبطحي قدس سره (وكان حيّاً حينذاك)، جمعَ بعضَ ما تناثر في بطون الكتب من الروايات الواردة عنها، مستدركاً بها على ما رواه العلامة الشيخ عبد الله البحراني (قدس سره) في كتاب (عوالم العلوم والمعارف والأحوال من الآيات والأخبار والأقوال)، فبلغ مجموعها ما يقارب الألف رواية (بعد تقطيع الطوال جداً منها إلى فقرات مفيدة، كل منها في موضوع).
وعندما أبدى دهشته مزيجةً بنوع استنكار أو تكذيب، قلت له: الكتاب مطبوع، وسأرسل لك نسخة منه!!.
وموطن الشاهد هو استمرار ظلامتها، حتى أنَّ كثيراً من الخاصة والشيعة، فضلاً عن العامة، يتوهمون أنّ الروايات عنها صلوات الله عليها لا تبلغ العشرة؟ فمن المقصِّر؟ رغم أنّ الأمر سهل جداً، خاصة في هذا العصر، حيث لم تُبقِ وسائل التواصل الاجتماعي، والحاسوب، والذكاء الصناعي ونحوها، لذي عذر عذراً!
طباعة كتاب مبتكر عن الغدير بمليون نسخة!
الشاهد الثاني: أنَّه كان من المفترض أن نطبع من (الخطبة الفدكية) عشرات الملايين من النسخ، لِمَا تتوفر عليه من معارف في علم الكلام، والتفسير، والفقه، والتاريخ، والسياسة، والاجتماع، ولكونها وثيقة من أهم الوثائق التاريخية، التي تكشف عن جوانب مخفية عمداً أو غفلةً، عن صفحات من تاريخ ما قبل وبعد شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولكن هل فعلنا ذلك؟ والعجيب أنّك تجد أكثر بيوت الشيعة خالية من هذه الخطبة وسائر كلماتها… أفهل توجد ظلامة أكبر من ذلك؟
مع أنّ طبع الخطبة، وهي عدة صفحات[3]، في عشرة ملايين نسخة أمر بسيط يقدر عليه تاجر واحد متوسط الوزن، فكيف وللشيعة ألوف التجار، بل وعشرات الألوف وأكثر بين عادي ومتوسط وعملاق (بين مليونير وملياردير)… بل إن مجموعة من الشباب، لو جعلوا همّهم ذلك، لأمكنهم بمتابعة تبرعات الغيارى والطيبين أن يطبعوه بعشرات الملايين من النسخ، ولكن، وكما سبق، الخذلان لا يزال مستمراً، وإلى الله المشتكى!
وممّا يوضّح سهولة الأمر وكونه عملياً، القضية التالية، فإنّ جماعةً من الشباب المؤمن المتحمّس فكّروا في طباعة مليون كتاب عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وحيث إنّ هذا العدد الكبير بما يتطلّبه من أموالٍ ضخمةٍ بالنسبة إلى جماعة من الشباب لا يمتلكون إلا دخلاً متواضعاً، كان كبيراً جداً[4]، لذا توصّلوا إلى فكرةٍ مبتكرة، وهي أن يتكوّن الكتاب من (8) صفحات فقط (بدل 500 صفحة مثلاً)، فبذلك تنخفض التكاليف إلى أقلّ من اثنين بالمائة، ولكن بشرط أن يكون الكتاب مؤثّراً جداً وبشكلٍ نادر، كي يعوّضوا بالتأثير الكبير والفكرة المبتكرة عن حجم الكتابة...
وهكذا هداهم التفكير خارج الصندوق إلى أن يكون المخاطَب هم الأطفال، وأن يكون المحور هو الغدير، وأن يحاولوا غرس ضرورة نصب الرسول (صلّى الله عليه وآله) لخليفته، في أذهان الأطفال، حتى يكون ذلك لديهم بديهياً واضحاً لا يقبل الشكّ، وليُغنيهم عن عشراتٍ من الاستدلالات، وكي لا يمكن لأحدٍ أن يغيّر قناعتهم حتى لو احتجّ بعشرات الحجج.
فكتبوا الكتاب بهذه الطريقة:
الصفحة الأولى: صورة حافلة (باص) فيها أربعون طفلاً يذهب بهم السائق إلى المدرسة، وإلى جواره جلس مساعده، والقصة تقول بإيجازٍ مؤثّر: أنّ تلفون السائق رنّ، ولمـّا أجاب واستمع، انخطف لونه، إذ أخبره الطرف الآخر بأنّ والدته تعرّضت لحادث اصطدامٍ، وأنّها الآن في المشفى في حالةٍ خطرة، وأنّ حضوره فوراً ضروريّ، فأوقف السائق الحافلة فوراً على جانب الطريق، وقال لمساعده أن يقودها بدلاً عنه (ولم تعلّق القصة على هذه القضية...).
الصفحة الثانية: صورة إمام جماعةٍ حضر إلى المسجد، ولكنه عندما أراد أن يُصلّي ابتُلي بمغصٍ شديدٍ، فاعتذر للحضور، لكنه عيّن رجلاً من الصالحين ليُصلّي بهم الجماعة بدلاً عنه.
الصفحة الثالثة: صورة أبٍ له عشرة أطفال، لكنه اضطرّ إلى سفرةٍ تطول شهراً، فأوصى أمّهم بأن ترعى الأطفال في غيابه، وأعطاها مبلغاً من المال...
وهكذا إلى الصفحة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كلّ صفحةٍ تحمل قصةً من واقع الحياة وممّا يُدركه ويستشعره كلّ شخصٍ بالفطرة والوجدان.
ثمّ يصل إلى الصفحة الثامنة، حيث رُسِمت لوحةٌ تعكس صورةً نورانيةً للرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في يوم الغدير وهو ينصب الإمام عليّاً (عليه السلام).
وهنا يختم الكتاب بالتعليق البليغ التالي: ألم تجدوا قائد الحافلة نصب خليفةً؟! وكذا إمام الجماعة؟! وكذا الأب؟! وكذا مدير المدرسة عندما يمرض؟! إلخ... إذ لم يكن من المعقول أن يتركهم دون خليفة. أيُعقل أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ترك أمّته كلّها من دون خليفة؟! هل يُعقل أنّ أيّ إنسان سويّ لا يمكنه أن يترك أربعين طفلاً أو عائلةً صغيرةً دون خليفةٍ عليهم، رغم أنّ ما ينجم عن عدم الاستخلاف هو ضررٌ قليلٌ عادة، وفي المقابل يترك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمّته كلّها، وهي بمآت الألوف في زمانه، ثمّ بالملايين ومآت الملايين في الأزمنة اللاحقة، وهو الدِّين الخاتم، دون خليفةٍ عليهم؟!
هل يُعقل أن يترك جهوده وجهاده ودماء الشهداء كحمزة وجعفر الطيّار وغيرهما تضيع بإهمال نصب الخليفة؟!
فإن قيل إنّه اعتمد على عقل الأمّة؟! قلنا: أيّ عقلٍ هذا الذي اختلفوا فيه إلى حدّ سب بعضهم بعضاً وتكفير بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً؟! حتى لقد شنّ بعضهم حروباً ساحقةً على بعضهم الآخر من حروب الردّة إلى حرب صفّين والجمل والنهروان، وإلى غير ذلك، والذي نجم كلّه عن رفضهم الخليفة الذي عيّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله) يوم الإنذار، وفي خيبر، وغدير خمّ (أو حسب دعواهم من إهماله – والعياذ بالله – نصب الخليفة)؟!
الفصل الثاني: الاستبداد الديني اسوأ أنواع الاستبداد، لماذا؟
إنّ الاستبداد الديني لَهُوَ أسوأ أنواع الاستبداد، ذلك أنّ المستبدّ تمركزت في يديه السلطات بشكلٍ مكثّفٍ مضاعفٍ، إذ أنّ له القدرة الظاهرية (شرطةٌ، وعسكرٌ، ومخابراتٌ، وسجونٌ، وتعذيبٌ... إلخ) وله أيضاً سلطةٌ شرعيةٌ وقدسيّةٌ وما ورائيه، فهو يقتلك أو يسجنك أو يصادر أموالك ويسحق حقوقك باسم الدين؛ كل ذلك تحت لافتة تهمة معلبة جاهزة وهي أنك فاسقٌ أو مرتدّ، كما تبثّه أبواقه ومرتزقته وعلماء البلاط!
ويكبّرون بأن قُتلت وإنما --- قتلوا بك التكبير والتهليلا
والحاصل: أنّه يتسلّح بسلاح الدين لقمع المعارضين، وإسكات صوت كلّ ناهٍ له عن المنكر أو آمرٍ له بالمعروف، بل إنه يرتدي رداء العظمة الإلهية ليمرّر أغراضه الشخصية ويكرّس سلطته الاستبدادية.
ولذلك نجد الكثير من المستبدين يتسلّحون بالألقاب الدينية كـ(خليفة المسلمين)، (خليفة رسول ربّ العالمين)، و(ولي أمر الدين)، أو بأسماءٍ وألقاب مثل (القائم بأمر الله)، فإذا كان هو القائم بأمر الله، فكلّ معارضٍ له كافرٌ أو مرتدّ، لأنه عارض الله تعالى! أو مثل (المتّقي لله)، ومن يجرؤ على معارضة المتّقي لله إلا إذا كان عدوّ الله؟! أو مثل (المستعصم بالله)، فإذا كان هو المستعصم بالله، فكلّ من ينتقده فهو مستعصمٌ بالشيطان!
وهكذا تَضُخّ هذه العناوين في رَوْع الناس البسطاء، القدسيةَ والعصمة والإلهية!، ثمّ إنّ الأبواق تؤكّد ذلك، وتضع الأحاديث في وجوب إطاعة أولي الأمر مهما كانوا ومهما فعلوا...
الألقاب اللاهوتية للخلفاء كطريق للهيمنة وإلغاء الآخر
ومن الطريف والمؤلم أن ننظر مثلاً إلى قائمة أسماء الخلفاء العباسيين، حيث إنّه بعد السبعة الأوائل (من عبد الله السفّاح وإلى عبد الله المأمون)، الذين كانت لهم أسماء أو ألقاب ليست تكون بتلك القوة والدلالة، اختار من بعدهم عناوين ما ورائيه إلهيةً شديدة الإيحاء، وأولهم المعتصم بالله وآخرهم المستعصم بالله.
وهذه قائمةٌ بأسمائهم جميعاً، وهم (37) الذين امتدّت حكومتهم من عام (132هـ) إلى عام (656هـ).
الخلفاء العباسيون
تعليق