بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
اللهم صلِّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّد
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾[1].
﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، جملة توهم الى أن يوسف عليه السلام بحوله فقط وقوته ترك تلك الخيانة فلم يصب إليهن، يثنّيها بما يزيل غشاوة الإيهام والإبهام بقوله: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾، عن الخيانة وهمها ل ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، نفسي وسواها ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، وقد رحمني بما أراني برهانه: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾[2]، وصرف عني كيدهن: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ﴾[3]، ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، يغفر برحمته ويستر زلات المخلصين والمخلصين، فلولا غفره بما أراه برهانه وصرف عنه كيدهن لهمّ بها وصبا إليهن وكان من الجاهلين، وذلك غفر قبل حلول العصيان، وهو للمعصومين، وهنالك غفر بعد حلوله كغير المعصومين.
فإذا كان يوسف الصديق لا يبرئ نفسه وهو من المخلصين، فيربط براءته برحمة ربه، فبأحرى لمن دونه من الصالحين، فلولا رحمة الرب لكنا من المهلكين ﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾[4]!
ف «النفس» هنا هي الشهوانية وهي بطبعها ﴿لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، إلاّ برادع من نفس مؤمنة مطمئنة بالله، تكرّس كافة طاقاتها سياجا صارما على أمر السوء وفعله، مستعينة بالله وحتى النفس المعصومة، حيث العصمة الإلهية وتثبيته يحولان بين النفس وشهواتها ﴿وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾[5].
وصحيح أن النفس لا يصح ان تأمر بسوء، فإنما تشتهي السوء، ولكن الإنسان لما كان بطبعه يتبع دواعيها إلى الشهوات، وينقاد بأزمتها إلى المقبحات كانت بمنزلة الآمر المطاع، والإنسان بمنزلة السامع المطيع، والمبالغة في ﴿لَأَمَّارَةٌ﴾، مؤكدة باللام تحاكي صفتها بكثرة الدفع إلى المهاوي والقود إلى المغاوي.
ثم وهذه الأمارة بالسوء بطبيعة الحال تتدرج على ضوء المحاولة البشرية والرحمة الإلهية من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، إلى لوّامة بدرجاتها، ومن ثم مطمئنة بدرجاتها، مخلصة لا تخلو من أخطاء اللمم، ثم مخلصة معصومة بعصمة إلهية، وهذه رحمة خاصة تخص المخلصين، وقبلها عامة تعم المخلصين، ويوسف من الأوّلين ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾، والرسول محمد (صلى الله عليه وآله) هو إمام المخلصين يقول: ﴿قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ﴾[6].
ف ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، استثناء متصل يعني إلاّ النفس التي رحمها ربي فليست أمارة ولا آمرة بالسوء بل لوامة أو مطمئنة: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾[7].
وليست لنا إلاّ إحدى هذه الثلاث، وهي مختلفة حالات الروح، واجتماعها في هذه الحالات، أم تعددها كل بحالتها، ذلك اجتماع الأضداد المتنافرة، أو المحالات المتهاترة.
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾[8]، وأمثالها هي من براهين وحدتها دون تعدد في ذواتها، ولا اجتماع في حالاتها! ثم ومع الأسى نرى هنا كما هنالك ترسم أيدي الخيانة ما يمس من كرامة الصديق وليضرب عرض الحائط لمخالفته كتاب الله المصرح في آيات عدة ببراءة يوسف ويراعته.
وهكذا ينتهي دور السجن لمن كرّمه الله واصطفاه.
﴿وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾، ضابطة تضرب إلى مثلث الزمان ومختلف الكائن والمكان، وقد أقام الله تعالى فيها كيد الخائنين مقام الخابط في طريق ليصل الى مضرة المكيدة وهو عنه غافل، فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه حيث لا يوفقه لإصابة الغرض، ولا يسده لبلوغ المقصد، بل يدعه يتخبط في ضلاله ويتسكع في متاهته، حيث يسري في معصية الله فلا يستحق أن يهدى لرشد أو يتسدد لقصد.
ولأنهم كانوا خونة بحقي بكل المكايد الفرعونية، نسائية ورجالية، لم يكن الله ليهدي كيدهم إلى بغيتهم: دراسة متينة ونصيحة مكينة من الصديق السجين لرجال البلاط ونساؤه ولمّا يخلص من السجن!
[1] سورة يوسف، الآية: 52.
[2] سورة يوسف، الآية: 24.
[3] سورة يوسف، الآية: 33.
[4] سورة الصافات، الآية: 57.
[5] سورة الإسراء، الآية: 74.
[6] سورة الزخرف، الآية: 81.
[7] سورة الفجر، الآيات: 27- 30.
[8] سورة الشمس، الآيات: 7- 10.
