بمناسبة ولادتها المباركة.. السيدة "فاطمة الزهراء" (ع) نور الله تعالى على الأرض
11 ديسمبر 2025 - 11:28
مصدر: أبنا
لقد هيّأ الله سبحانه وتعالى البيئة الصالحة لتكوين شخصية الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(س) التي قدّر لها أن تكون ملتقى النبوّة والإمامة الراشدة الضامنة لسلامة المسيرة الرسالية الخاتمة من خلال ذرّيتها الطاهرة من كل زيغ وشين .
وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ انّ السيدة فاطمة الزهراء (ع) آية إلهية كبرى على قدرة الله البالغة وإبداعه العجيب، إذ أعطى للزهراء فاطمة أوفر حظ من العظمة وأوفى نصيب من الجلالة والبهاء.
لقد شاركت الزهراء (س) أباها وبعلها صلوات الله عليهما في أحرج اللحظات وفي أصعب الأزمات الكثيرة، فنصرت الإسلام بجهودها وجهادها وبيانها وتربيتها لأهل بيت الرسالة الذين استودعهم الرسول (ص) مهمة نصرة الإسلام بعد وفاته، فكانت أوّل أهل بيته لحوقاً به بعد جهاد مرير، توزّع في تكوين أُسرة نموذجية واُمومة مثالية ومشاركة فاعلة في سوح الجهاد مع المشركين والقضاء على خُططِ ومؤامراتِ المنافقين، وتجلّى في تثقيف نساء المسلمين كما تجلّى في الوقوف أمام المنحرفين ، فكانت بحقّ رمزَ الطهر والاُنوثة والاُمومة ورمز الإخلاص والبطولة والجهاد والصبر والشهادة والتضحية والإيثار ، حتى فاقت في كلّ هذه المعاني سادات الأوّلين والآخرين في أقصر فترة زمنية يمكن أن يقطعها الإنسان نحو أعلى قمم الكمال الشاهقة.
نشأة السيدة فاطمة الزهراء(س)
1 ـ الأمر الإلهي في خلق فاطمة (س) :
لقد هيّأ الله سبحانه وتعالى البيئة الصالحة لتكوين شخصية الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(س) التي قدّر لها أن تكون ملتقى النبوّة والإمامة الراشدة الضامنة لسلامة المسيرة الرسالية الخاتمة من خلال ذرّيتها الطاهرة من كل زيغ وشين .
والروايات تحدثنا عن مزيد من الاهتمام الربّاني والعناية الإلهية في تكوين وخلق الزهراء البتول، وقد أشار المصطفى(ص) إلى هذه الحقيقة في مواطن عديدة .
فقد روي أنّ النبيّ (ص) بينما كان جالساً بالأبطح إذ هبط عليه جبرئيل(ع) فناداه : « يا محمّد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً » فبعث عماراً بن ياسر إلى خديجة ليخبرها بالأمر الإلهي. وأقام النبيّ (ص) أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، فلمّا كان تمام الأربعين هبط جبرئيل (ع) فقال : « يا محمّد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيته وتحفته». فبينما النبيّ (ص) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس ، فوضعه بين يدي النبيّ (ص) وأقبل جبرئيل (ع) وقال: « يا محمّد! يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام ». فأكل النبيّ (ص) شبعاً وشرب من الماء ريّاً ، ثم قام ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال : « الصلاة محرمة [1] عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة، فإنّ الله ـ عزّوجلّ ـ آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة » . فوثب رسول الله (ص) إلى منزل خديجة رضي الله عنها .
قالت خديجة رضي الله عنها : وكنت قد ألفت الوحدة ، فكان إذا جنّني الليل غطيت رأسي ، وأسجفت ستري وغلقت بابي ، وصلّيت وردي ، وأطفأت مصباحي ، وآويت إلى فراشي ، فلمّا كان تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة ، إذ جاء النبيّ فقرع الباب فناديت : « من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمّد؟ .. قالت خديجة : فنادى رسول الله (ص) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه : « افتحي يا خديجة ، فإنّي محمّد » وفتحت الباب ودخل النبيّ المنزل ، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبيّ (ص) حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني [2].
2 ـ اُنس خديجة بفاطمة(س):
لمّا تزوّجت خديجة بنت خويلد رسول الله (ص) هجرها نسوة مكّة وكنّ لا يكلّمنها ولا يدخلن عليها، فلمّا حملت بالزهراء فاطمة (س) كانت إذا خرج رسول الله (ص) من منزلها تكلّمها فاطمة الزهراء في بطنها من ظلمة الأحشاء ، وتحدّثها وتؤانسها ، فدخل يوماً رسول الله (ص) وسمع خديجة تحدّث فاطمة فقال لها : «يا خديجة! من تكلّمين ؟ قالت : يا رسول الله إنّ الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلّمني وحدّثني من ظلمة الأحشاء، فتبسّم رسول الله (ص) ثم قال : «يا خديجة! هذا أخي جبرئيل(ع) يخبرني أنّها ابنتي، وأنّها النسمة الطاهرة المطهّرة، وأنّ الله تعالى أمرني أن اُسمّيها « فاطمة» وسيجعل الله تعالى من ذرّيتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون» [3].
وروي أنّه لمّا سأل الكفار رسول الله (ص) أنّه يريهم انشقاق القمر ـ وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر ـ قالت خديجة : واخيبة من كذَّب محمّداً وهو خير رسول ونبيّ، فنادت فاطمة من بطنها : يا اُمّاه! لا تحزني ولا ترهبي فإنّ الله مع أبي [4].
إنّ خديجة التي وقفت مع رسول الله في أيام محنته الاُولى وتعرّضت لهجران النساء عوّضها الله على صبرها وبذلها الغالي والنفيس من أجل نشر الدعوة الإسلامية كما عوّضها بالبشرى بحملها بهذه البنت التي سيكون لها ولذريّتها شأن عظيم .
3 ـ فاطمة الوليدة :
لمّا انقضت أيام الحمل واقترب موعد الولادة وخديجة لم تزل تأنس بجنينها وتعيش الأمل على الفرحة بالولادة، حضرتها الولادة فأرسلت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم أن يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء في مثل هذا الظرف الخاص، فأرسلن إليها : عصيتنا ولم تقبلي قولنا ، وتزوّجت محمّداً يتيم أبي طالب ، فقيراً لا مال له ، فلسنا نجيء ولا نلي من أمركِ شيئاً ، فاغتمّت خديجة لذلك، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنّهن من نساء بني هاشم ، ففزعت منهنّ ، فقالت إحداهن : لا تحزني يا خديجة ، فإنّا رسل ربّكِ إليكِ ، ونحن أخواتك ، أنا سارة وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران وهذه كلثم اُخت موسى بن عمران ، بعثنا الله تعالى إليكِ لنلي من أمركِ ما تلي النساء من النساء فجلست واحدة عن يمينها والاُخرى عن يسارها والثالثة من بين يديها والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة ، فلمّا سقطت إلى الارض أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكّة، فتناولتها المرأة التي بين يديها فغسلتها بماء الكوثر وأخرجت خرقتين بيضاوين فلفّتها بواحدة وقنعتها بالثانية ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (س) بالشهادتين ثم سلّمت عليهنّ وسمّت كلّ واحدة منهن باسمها ، وأقبلن يضحكن إليها ، وقالت النسوة : خذيها يا خديجة طاهرة مطهّرة زكية ميمونة ، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها وهي فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها فدرّ عليها [5].
وكانت السيّدة خديجة حين تلد تدفع مولودها لمن يرضعه، ولكنّها لمّا ولدت فاطمة(س) لم يرضعها أحدٌ غير خديجة [6].
4 ـ تاريخ الولادة :
اختلف المؤرّخون في تاريخ ولادتها (س) إلاّ أنّ المشهور بين مؤرّخي الإمامية أنّه كان في يوم الجمعة في العشرين من شهر جمادى الآخرة في السنة الخامسة من البعثة [7]، بينما قال غيرهم : إنّها ولدت قبل البعثة بخمس سنين [8].
روى أبو بصير عن الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(ع)أنّه قال: « ولدت فاطمة في جمادى الآخرة يوم العشرين سنة خمس وأربعين من مولد النبيّ (ص) ، فأقامت بمكّة ثمان سنين وبالمدينة عشر سنين ، وبعد وفاة أبيها خمسة وسبعين يوماً ، وقُبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة» [9].
ومن أسمائها : الصدّيقة وهي الكثيرة التصديق، فإنّها قد كانت سلام الله عليها مصدِّقة لأبيها صادقة في أقوالها صدوقة في أفعالها ووفائها ، فهي الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون كما ورد عن حفيدها الصادق(ع) [10].
والمباركة باعتبار الخير الكثير الذي يأتي من قِبَلِها، وقد وصفها القرآن الكريم بالكوثر باعتبار أنّ النبيّ (ص) قد انقطع نسله إلاّ منها، فهي اُمّ الأئمة الأطهار واُمّ الذريّة الطاهرة لرسول الله (ص) ، وكثرة الذرّية ـ التي دافعت عن رسالة محمّد (ص) وتحمّلت أعباء الوقوف أمام الظالمين والمنحرفين عنها ـ هي الخير الكثير أو أهمّ مصاديقه فهي عطيّة الله لرسوله المصطفى كما نصّت سورة الكوثر على هذا العطاء الإلهي الخالد الخاص برسوله(ص).
وعن سائر أسمائها قال ابن عباس أنّ الرسول (ص) قال : «ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث ، وإنّما سمّاها فاطمة لأنّ الله فطمها ومحبيها عن النار» [11].
وعنه (ص) : «أن فاطمة حوراء إنسيّة، كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتُها» [12].
وقالت اُمّ أنس بن مالك في وصف شمائلها: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفر غماماً إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدّ الناس برسول الله (ص) شبهاً [13].
ولقّبت بالطاهرة لطهارتها من كلّ دنس وكلّ رفث، فأنّها ما رأت قطّ يوماً حمرةً ولا نفاساً [14] كما جاء عن الإمام الباقر(ع) ذلك، وقد شهد القرآن الكريم ـ سلفاً ـ بطهارتها من الدنس في آية التطهير المباركة الأحزاب:33.
وكانت سلام الله عليها راضية بما قدّر لها من مرارة الدنيا ومشاقّها ومصائبها وثوابها، مرضية عند ربها كما أخبر بذلك القرآن الكريم عنها في سورة الدهر، إذ ارتضى ربّها سعيها وآمنها من الفزع الأكبر ، وهي ممّن رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [15] وخشي ربّه دون شك كما نلاحظ ذلك في سيرتها وتاريخ حياتها.
والمحدَّثة هي التي كانت تحدّثها الملائكة ، كما حدّثت الملائكة مريم ابنة عمران واُمّ موسى وسارة امرأة إبراهيم إذ بشّرتها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [16] .
وكنّاها رسول الله (ص) باُمّ أبيها تعظيماً لشأنها، إذ لم يكن أحد يوازيها في محبّته لها ورفعة مكانتها لديه ، وكان يعاملها معاملة الولد لاُمّه كما كانت تعامله معاملة الاُم لولدها، إذ كانت تحتضنه وتضمّد جروحه وتخفّف من آلامه .
كما كُنيت باُمّ الأ ئمة، إذ أخبر الرسول المصطفى(ص) أنّ الأئمة من ولدها وأنّ المهديّ المنتظر من نسلها [17] .
انطباعات عن شخصيّة الزهراء (س)
الزهراء فاطمة ابنة أعظم نبيّ وزوجة أوّل إمام وبطل، واُم أينع بزغتين في تاريخ الإمامة، إنّها الوجه المشرق الوضّاء للرسالة الخاتمة، وإنّها سيّدة نساء العالمين، وهي الوعاء الطاهر للسلالة الطاهرة والمنبت الطيّب لعترة رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد اقترن تأريخها بتأريخ الرسالة، إذ ولدت قبل الهجرة بثمان سنوات وتوفّيت بعد الرسول (ص) بعدّة أشهر.
وقد أشاد النبيّ الكريم بعظيم منزلة الزهراء الطاهرة ، وبما بلغته من موقع رياديّ في خطّ الرسالة محتذياً خُطى القرآن الكريم فيما صرّح به من فضائل ومكرمات لأهل بيت الوحي(ع) بشكل عام وللزهراء (س) بشكل خاص.
الزهراء(س) في آيات الذكر الحكيم
لقد مدح القرآن الكريم اُناساً خلّدهم بآيات تتلى أناء الليل وأطراف النهار، إكباراً لمواقفهم السامية ولتفانيهم بإخلاص في سبيل الحقّ.
وممّن خصّهم الله تعالى بالذكر الجليّ وأشاد بمواقفهم وفضائلهم أهل بيت الرسالة وأهل بيت النبيّ الخاتم (ص)، وقد روى المؤرّخون والمفسّرون نزول آيات كثيرة في مدحهم، كما خصّهم بالثناء في سور شتّى تقريراً لسلامة خطّهم واعترافاً بحُسن سَمتِهم ودعوةً للاقتداء بهم.
1 ـ الزهراء (س) كوثر الرسالة :
إنّ الكوثر هو الخير الكثير ، وهو يتناول بظاهره جميع نعم الله على النبيّ محمّد (ص) ولكن ما ذكروه في أسباب النزول بالإضافة إلى الآية الأخيرة من سورة الكوثر يشيران بوضوح إلى أنّ هذا الخير يرتبط بقيم الرسالة كما يرتبط بكثرة النسل ودوامه، وقد عرف العالم كلّه أنّ نسل رسول الله (ص) قد استمرّ في الأجيال وكثرُ عطاؤه المبارك من خلال ابنته الزهراء البتول كما صرّحت بذلك جملة من أحاديث الرسول (ص) [18].
وممّا رواه المفسّرون في هذا الصدد أنّ العاص بن وائل كان يقول لصناديد قريش: إنّ محمّداً أبتر لا ابن له [19] يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه. وهذا قول ابن عباس وعامة أهل التفسير [20]، وبالرغم ممّا ذكره الفخر الرازي من اختلاف المفسّرين في معنى الكوثر هنا فإنّه قد صرّح قائلاً : « والقول الثّالث : الكوثر أولاده .. لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه (ع) بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ثم قال: فانظرْ ، كم قُتل من أهل البيت ؟! ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني اُمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا(ع) والنفس الزكية وأمثالهم» [21].
وتدلّ آية المباهلة ـ الآتي ذكرها [22] ـ على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول الله (ص) كما دلّت النصوص المتضافرة عن الرسول (ص) على أنّ الله تعالى جعل ذريّة كلّ نبيّ في صلبه وجعل ذريّة الرسول الخاتم (ص) في صلب عليّ بن أبي طالب(ع) [23] وروت الصحاح عن النبيّ (ص) أنّه قال للحسن بن عليّ(ع) : «إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين» [24].
2 ـ الزهراء (س) في سورة الدهر :
حين مرض الحسن والحسين عادهما رسول الله (ص) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة ـ وهي جارية لهما ـ إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ (ع) من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة (س) صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ عليّ رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (ص) فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم ! وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبرئيل ثم قال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة [25].
فالزهراء ممّن شهد الله لها بأنّها من الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، وممّن يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً، وممّن يطعمون الطعام على حبّه، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأنّهم إنّما يطعمون لوجه الله لا يريدون منهم جزاءً ولا شكوراً، وأنّهم ممّن صبروا في ذات الله .. وأنّهم ممّن وقاهم الله شرّ ذلك اليوم العبوس القمطرير .. ولقّاهم نضرةً وسروراً، وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً [26].
3 ـ الزهراء (س) في آية التطهير :
لقد نزل الوحي بآية التطهير على رسول الله (ص) وهو في بيت اُم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وذلك حينما كان قد ضمّ سبطيه ـ الحسن والحسين ـ وأباهما واُمّهما إليه ثمّ غشّاهم ونفسه بالكساء تمييزاً لهم عن الآخرين ولا سيّما النساء، فنزلت الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [27] وهم على تلك الحال، ولم يقتصر على هذا المقدار من توضيح اختصاص الآية بهم حتى أخرج يده من تحت الكساء فألوى بها الى السماء فقال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، يكرّر ذلك واُم سلمة تسمع وترى ، وقد جاءت لتدخل تحت الكساء وهي تقول: وأنا معكم يا رسول الله، فجذبها من يدها وقال: لا، إنّك على خير [28].
وكان رسول الله (ص) بعد نزول الآية كلّما خرج إلى صلاة الفجر يمرّ ببيت فاطمة فيقول: الصلاة يا أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، مستمراً على هذه السيرة ستة أو ثمانية أشهر [29].
ودلّت الآية المباركة على عصمة أهل البيت من الذنوب فإنّ الرجس هو الذنب، وقد صُدِّرت الآية بأداة الحصر فأفادت أنّ إرادة الله في أمرهم مقصورة على إذهاب الذنوب عنهم وتطهيرهم منها، وهذا هو كُنه العصمة وحقيقتها، وقد أورد النبهاني عن تفسير الطبري هذا المعنى بشكل صريح [30].
4 ـ مودّة الزهراء (س) أجر الرسالة :
وروى جابر رضي الله عنه أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ (ص) فقال: يا محمّد! أعرض عليّ الإسلام، فقال: تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، قال: تسألني عليه أجراً ؟
قال: لا، إلاّ المودّة في القُربى، قال: قُرباي أو قرباك ؟ قال: قرباي، قال: هاتِ اُبايعك، فعلى مَن لا يحبّك ولا يحبّ قرباك لعنه الله، قال (ص) : آمين [31].
وفسّر مجاهد هذه المودّة بالاتّباع والتصديق لرسول الله وصلة رحمه [32]، وفسّرها ابن عباس بحفظه في قرابته [33].
وذكر الزمخشري أنّ هذه الآية لمّا نزلت قيل: يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وابناهما» [35][34].
5 ـ الزهراء (س) في آية المباهلة :
أجمع أهل القبلة حتى الخوارج منهم على أنّ النبيّ (ص) لم يَدْعُ للمباهلة من النساء سوى بضعته الزهراء ومن الأبناء سوى سبطيه وريحانتيه الحسن والحسين(ع) ومن الأنفس إلاّ أخاه عليّاً (ع)، الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، فهؤلاء أصحاب هذه الآية بحكم الضرورة التي لا يمكن جحودها لم يشاركهم فيها أحد من العالمين، كما هو بديهيّ لكل من ألمّ بتاريخ المسلمين، وبهم خاصّة نزلت لا بسواهم [36].
لقد باهل النبيّ (ص) بهم خصومه من أهل نجران فانتصر عليهم ، واُمّهاتُ المؤمنين كنّ حينئذ في حجراته (ص) فلم يدعُ واحدةً منهنّ، ولم يدع صفيّة وهي شقيقة أبيه، ولا اُمّ هاني وهي كريمة عمّه، ولا واحدةً من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار.
كما أ نّه لم يدعُ مع سيديّ شباب أهل الجنة أحداً من أبناء الهاشميين ولا أحداً من أبناء الصحابة، وكذلك لم يدع مع عليّ أحداً من عشيرته الأقربين ولا واحداً من السابقين الأوّلين [37]، وإنّما خرج وعليه مرط من شعر أسود ـ كما يقول الرازي في تفسيره ـ وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمِّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ الى يوم القيامة.
قال الرازي بعد نقل هذا الحدث: هذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين(ع) كانا ابني رسول الله وَعَدَ أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين(ع)فوجب أن يكونا ابنيه [38].
الزهراء (س) عند سيّد المرسلين (ص)
«إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها» [39].
«فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني ومن أحبّها فقد أحبّني» [40].
«فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيَّ» [41].
«فاطمة سيّدة نساء العالمين» [42].
لقد تواترت هذه الشهادات وأمثالها في كتب الحديث والسيرة عن رسول الله محمّد (ص) الذي لا ينطق عن الهوى [43] ولا يتأثّر بنسب أو سبب، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
إنّ الرسول الذي ذاب في دعوته وكان للناس فيه اُسوة فأصبحت خفقات قلبه ونظرات عينيه ولمسات يديه وخطوات سعيه وإشعاعات فكره المتجليّة في قوله وفعله وتقريره ـ وهي سنّته ـ بل وجوده كلّه مَعْلَماً من معالم الدين ومصدراً للتشريع ومصباحاً للهداية وسبيلاً للنجاة.
إنّها أوسمة من خاتم الرسل على صدر فاطمة الزهراء، تزداد تألقاً كلّما مرّ الزمن، وكلّما تطوّرت المجتمعات، وكلّما لاحظنا المبدأ الأساس في الإسلام في كلامه(ص) لها: يا فاطمة اعملي لنفسك فإنّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً» [44].
وفي قوله(ص): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد» [45].
وفي قوله (ص): «إنّما فاطمة شجنة [46] منّي، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها [47] وإنّ الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري [48] ...».
وخرج رسول الله (ص) ذات يوم وقد أخذ بيد فاطمة (س) وقال: «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد وهي بضعة منّي، وهي قلبي الذي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» [49].
وقال (ص): «فاطمة أعزّ البريّة عليّ» [50].
ولا يصعب علينا تفسير هذه النصوص بعد معرفة عصمتها (س)، بل هذه النصوص هي شاهدة على عصمتها بشهادة أنّها لا تغضب إلاّ لله ولا ترضى إلاّ له.
الزهراء (س) عند الأئمة والصحابة والمؤرّخين
عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): «لم يولد لرسول الله (ص) من خديجة على فطرة الإسلام إلاّ فاطمة» [51].
وعن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): «والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم» [52].
وعن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع): «إنّما سُمّيت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها» [53].
وعن الصحابي ابن عباس: أنّ رسول الله (ص) كان جالساً ذات يوم وعنده عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقال: «اللهمّ إنّك تعلم أنّ هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس عليّ فأحبب من أحبّهم وأبغض من أبغضهم ووالِ من والاهم وعادِ من عاداهم، وأعن من أعانهم واجعلهم مطهّرين من كلّ رجس معصومين من كلّ ذنب وأيّدهم بروح القدس منك» [54].
وعن اُمّ المؤمنين اُمّ سلمة أنّها قالت: كانت فاطمة بنت رسول الله (ص) أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله (ص) [55].
وعن اُم المؤمنين عائشة أنّها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً من فاطمة إلاّ أن يكون الذي ولّدها [56] وكانت إذا دخلت على رسول الله (ص) قام فقبّلها ورحّب بها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ (ص) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته وأخذت بيده وأجلسته في مجلسها، وكان الرسول دائماً يختصّها بسرّه ويرجع إليها في أمره [57].
وعن الحسن البصري : أنّه ما كان في هذه الاُمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورّم قدماها [58].
ودخل عبدالله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السنّ، وله وقرة [59]، فرفع مجلسه وأقبل
عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عكنة [60] من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال له: اذكرها عند الشفاعة.
فلما خرج لامَهُ أهله وقالوا: فعلت هذا بغلام حديث السن، فقال: إنّ الثقة حدّثني حتى كأنّي أسمعه من في رسول الله (ص) قال: «إنّما فاطمة بضعة منّي يسرّني ما يسرّها» وأنا أعلم أنّ فاطمة (س) لو كانت حيّة لسرّها ما فعلت بابنها، قالوا: فما معنى غمزك بطنه، وقولك ما قلت؟ قال: إنّه ليس أحد من بني هاشم إلاّ وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا [61].
قال ابن الصبّاغ المالكي: ... وهي بنت من اُنزل عليه سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [62]، ثالثة الشمس والقمر، بنت خير البشر، الطاهرة الميلاد، السيّدة بإجماع أهل السداد [63].
ووصفها الحافظ أبو نعيم الإصفهاني بقوله قائلاً: «من ناسكات الأصفياء وصفيّات الأتقياء فاطمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ السيّدة البتول، البضعة الشبيهة بالرسول ... كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة [64].
وقال عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي: وأكرم رسول الله (ص) فاطمة إكراماً عظيماً أكثر مما كان الناس يظنّونه ... حتى خرج بها عن حبّ الآباء للأولاد، فقال لمحضر الخاص والعام مراراً لا مرّة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: «إنّها سيّدة نساء العالمين وإنّها عديلة مريم بنت عمران، وإنّها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد»، وهذا من الأحاديث الصحيحة وليس من الأخبار المستضعفة ، وكم قال لا مرّة: «يؤذيني ما يؤذيها ويغضبني ما يغضبها، وإنّها بضعة منّي يريبني ما رابها» [65].
وقال المؤرّخ المعاصر الدكتور عليّ حسن إبراهيم: وحياة فاطمة هي صفحة فذّة من صفحات التاريخ نلمس فيها ألوان العظمة، فهي ليست كبلقيس أو كليو بطرة استمدّت كلّ منهما عظمتها من عرش كبير وثروة طائلة وجمال نادر، وهي ليست كعائشة نالت شهرتها لما اتصفت به من جرأة جعلتها تقود الجيوش وتتحدّى الرجال، ولكنّا أمام شخصية استطاعت أن تخرج إلى العالم وحولها هالة من الحكمة والجلال، حكمة ليس مرجعها الكتب والفلاسفة والعلماء، وإنّما تجارب الدهر المليء بالتقلّبات والمفاجآت، وجلال ليس مستمداً من ملك أو ثراء وإنّما من صميم النفس ... [66].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
11 ديسمبر 2025 - 11:28
مصدر: أبنا
لقد هيّأ الله سبحانه وتعالى البيئة الصالحة لتكوين شخصية الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(س) التي قدّر لها أن تكون ملتقى النبوّة والإمامة الراشدة الضامنة لسلامة المسيرة الرسالية الخاتمة من خلال ذرّيتها الطاهرة من كل زيغ وشين .وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ انّ السيدة فاطمة الزهراء (ع) آية إلهية كبرى على قدرة الله البالغة وإبداعه العجيب، إذ أعطى للزهراء فاطمة أوفر حظ من العظمة وأوفى نصيب من الجلالة والبهاء.
لقد شاركت الزهراء (س) أباها وبعلها صلوات الله عليهما في أحرج اللحظات وفي أصعب الأزمات الكثيرة، فنصرت الإسلام بجهودها وجهادها وبيانها وتربيتها لأهل بيت الرسالة الذين استودعهم الرسول (ص) مهمة نصرة الإسلام بعد وفاته، فكانت أوّل أهل بيته لحوقاً به بعد جهاد مرير، توزّع في تكوين أُسرة نموذجية واُمومة مثالية ومشاركة فاعلة في سوح الجهاد مع المشركين والقضاء على خُططِ ومؤامراتِ المنافقين، وتجلّى في تثقيف نساء المسلمين كما تجلّى في الوقوف أمام المنحرفين ، فكانت بحقّ رمزَ الطهر والاُنوثة والاُمومة ورمز الإخلاص والبطولة والجهاد والصبر والشهادة والتضحية والإيثار ، حتى فاقت في كلّ هذه المعاني سادات الأوّلين والآخرين في أقصر فترة زمنية يمكن أن يقطعها الإنسان نحو أعلى قمم الكمال الشاهقة.
نشأة السيدة فاطمة الزهراء(س)
1 ـ الأمر الإلهي في خلق فاطمة (س) :
لقد هيّأ الله سبحانه وتعالى البيئة الصالحة لتكوين شخصية الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(س) التي قدّر لها أن تكون ملتقى النبوّة والإمامة الراشدة الضامنة لسلامة المسيرة الرسالية الخاتمة من خلال ذرّيتها الطاهرة من كل زيغ وشين .
والروايات تحدثنا عن مزيد من الاهتمام الربّاني والعناية الإلهية في تكوين وخلق الزهراء البتول، وقد أشار المصطفى(ص) إلى هذه الحقيقة في مواطن عديدة .
فقد روي أنّ النبيّ (ص) بينما كان جالساً بالأبطح إذ هبط عليه جبرئيل(ع) فناداه : « يا محمّد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً » فبعث عماراً بن ياسر إلى خديجة ليخبرها بالأمر الإلهي. وأقام النبيّ (ص) أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، فلمّا كان تمام الأربعين هبط جبرئيل (ع) فقال : « يا محمّد! العليّ الأعلى يقرئك السلام ، وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيته وتحفته». فبينما النبيّ (ص) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس ، فوضعه بين يدي النبيّ (ص) وأقبل جبرئيل (ع) وقال: « يا محمّد! يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام ». فأكل النبيّ (ص) شبعاً وشرب من الماء ريّاً ، ثم قام ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال : « الصلاة محرمة [1] عليك في وقتك حتى تأتي منزل خديجة، فإنّ الله ـ عزّوجلّ ـ آلى على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة » . فوثب رسول الله (ص) إلى منزل خديجة رضي الله عنها .
قالت خديجة رضي الله عنها : وكنت قد ألفت الوحدة ، فكان إذا جنّني الليل غطيت رأسي ، وأسجفت ستري وغلقت بابي ، وصلّيت وردي ، وأطفأت مصباحي ، وآويت إلى فراشي ، فلمّا كان تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة ، إذ جاء النبيّ فقرع الباب فناديت : « من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمّد؟ .. قالت خديجة : فنادى رسول الله (ص) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه : « افتحي يا خديجة ، فإنّي محمّد » وفتحت الباب ودخل النبيّ المنزل ، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبيّ (ص) حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني [2].
2 ـ اُنس خديجة بفاطمة(س):
لمّا تزوّجت خديجة بنت خويلد رسول الله (ص) هجرها نسوة مكّة وكنّ لا يكلّمنها ولا يدخلن عليها، فلمّا حملت بالزهراء فاطمة (س) كانت إذا خرج رسول الله (ص) من منزلها تكلّمها فاطمة الزهراء في بطنها من ظلمة الأحشاء ، وتحدّثها وتؤانسها ، فدخل يوماً رسول الله (ص) وسمع خديجة تحدّث فاطمة فقال لها : «يا خديجة! من تكلّمين ؟ قالت : يا رسول الله إنّ الجنين الذي أنا حامل به إذا أنا خلوت به في منزلي كلّمني وحدّثني من ظلمة الأحشاء، فتبسّم رسول الله (ص) ثم قال : «يا خديجة! هذا أخي جبرئيل(ع) يخبرني أنّها ابنتي، وأنّها النسمة الطاهرة المطهّرة، وأنّ الله تعالى أمرني أن اُسمّيها « فاطمة» وسيجعل الله تعالى من ذرّيتها أئمة يهتدي بهم المؤمنون» [3].
وروي أنّه لمّا سأل الكفار رسول الله (ص) أنّه يريهم انشقاق القمر ـ وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر ـ قالت خديجة : واخيبة من كذَّب محمّداً وهو خير رسول ونبيّ، فنادت فاطمة من بطنها : يا اُمّاه! لا تحزني ولا ترهبي فإنّ الله مع أبي [4].
إنّ خديجة التي وقفت مع رسول الله في أيام محنته الاُولى وتعرّضت لهجران النساء عوّضها الله على صبرها وبذلها الغالي والنفيس من أجل نشر الدعوة الإسلامية كما عوّضها بالبشرى بحملها بهذه البنت التي سيكون لها ولذريّتها شأن عظيم .
3 ـ فاطمة الوليدة :
لمّا انقضت أيام الحمل واقترب موعد الولادة وخديجة لم تزل تأنس بجنينها وتعيش الأمل على الفرحة بالولادة، حضرتها الولادة فأرسلت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم أن يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء في مثل هذا الظرف الخاص، فأرسلن إليها : عصيتنا ولم تقبلي قولنا ، وتزوّجت محمّداً يتيم أبي طالب ، فقيراً لا مال له ، فلسنا نجيء ولا نلي من أمركِ شيئاً ، فاغتمّت خديجة لذلك، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنّهن من نساء بني هاشم ، ففزعت منهنّ ، فقالت إحداهن : لا تحزني يا خديجة ، فإنّا رسل ربّكِ إليكِ ، ونحن أخواتك ، أنا سارة وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة ، وهذه مريم بنت عمران وهذه كلثم اُخت موسى بن عمران ، بعثنا الله تعالى إليكِ لنلي من أمركِ ما تلي النساء من النساء فجلست واحدة عن يمينها والاُخرى عن يسارها والثالثة من بين يديها والرابعة من خلفها ، فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة ، فلمّا سقطت إلى الارض أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكّة، فتناولتها المرأة التي بين يديها فغسلتها بماء الكوثر وأخرجت خرقتين بيضاوين فلفّتها بواحدة وقنعتها بالثانية ، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (س) بالشهادتين ثم سلّمت عليهنّ وسمّت كلّ واحدة منهن باسمها ، وأقبلن يضحكن إليها ، وقالت النسوة : خذيها يا خديجة طاهرة مطهّرة زكية ميمونة ، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها وهي فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها فدرّ عليها [5].
وكانت السيّدة خديجة حين تلد تدفع مولودها لمن يرضعه، ولكنّها لمّا ولدت فاطمة(س) لم يرضعها أحدٌ غير خديجة [6].
4 ـ تاريخ الولادة :
اختلف المؤرّخون في تاريخ ولادتها (س) إلاّ أنّ المشهور بين مؤرّخي الإمامية أنّه كان في يوم الجمعة في العشرين من شهر جمادى الآخرة في السنة الخامسة من البعثة [7]، بينما قال غيرهم : إنّها ولدت قبل البعثة بخمس سنين [8].
روى أبو بصير عن الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق(ع)أنّه قال: « ولدت فاطمة في جمادى الآخرة يوم العشرين سنة خمس وأربعين من مولد النبيّ (ص) ، فأقامت بمكّة ثمان سنين وبالمدينة عشر سنين ، وبعد وفاة أبيها خمسة وسبعين يوماً ، وقُبضت في جمادى الآخرة يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشرة من الهجرة» [9].
ومن أسمائها : الصدّيقة وهي الكثيرة التصديق، فإنّها قد كانت سلام الله عليها مصدِّقة لأبيها صادقة في أقوالها صدوقة في أفعالها ووفائها ، فهي الصدّيقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون كما ورد عن حفيدها الصادق(ع) [10].
والمباركة باعتبار الخير الكثير الذي يأتي من قِبَلِها، وقد وصفها القرآن الكريم بالكوثر باعتبار أنّ النبيّ (ص) قد انقطع نسله إلاّ منها، فهي اُمّ الأئمة الأطهار واُمّ الذريّة الطاهرة لرسول الله (ص) ، وكثرة الذرّية ـ التي دافعت عن رسالة محمّد (ص) وتحمّلت أعباء الوقوف أمام الظالمين والمنحرفين عنها ـ هي الخير الكثير أو أهمّ مصاديقه فهي عطيّة الله لرسوله المصطفى كما نصّت سورة الكوثر على هذا العطاء الإلهي الخالد الخاص برسوله(ص).
وعن سائر أسمائها قال ابن عباس أنّ الرسول (ص) قال : «ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث ، وإنّما سمّاها فاطمة لأنّ الله فطمها ومحبيها عن النار» [11].
وعنه (ص) : «أن فاطمة حوراء إنسيّة، كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتُها» [12].
وقالت اُمّ أنس بن مالك في وصف شمائلها: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفر غماماً إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشدّ الناس برسول الله (ص) شبهاً [13].
ولقّبت بالطاهرة لطهارتها من كلّ دنس وكلّ رفث، فأنّها ما رأت قطّ يوماً حمرةً ولا نفاساً [14] كما جاء عن الإمام الباقر(ع) ذلك، وقد شهد القرآن الكريم ـ سلفاً ـ بطهارتها من الدنس في آية التطهير المباركة الأحزاب:33.
وكانت سلام الله عليها راضية بما قدّر لها من مرارة الدنيا ومشاقّها ومصائبها وثوابها، مرضية عند ربها كما أخبر بذلك القرآن الكريم عنها في سورة الدهر، إذ ارتضى ربّها سعيها وآمنها من الفزع الأكبر ، وهي ممّن رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [15] وخشي ربّه دون شك كما نلاحظ ذلك في سيرتها وتاريخ حياتها.
والمحدَّثة هي التي كانت تحدّثها الملائكة ، كما حدّثت الملائكة مريم ابنة عمران واُمّ موسى وسارة امرأة إبراهيم إذ بشّرتها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [16] .
وكنّاها رسول الله (ص) باُمّ أبيها تعظيماً لشأنها، إذ لم يكن أحد يوازيها في محبّته لها ورفعة مكانتها لديه ، وكان يعاملها معاملة الولد لاُمّه كما كانت تعامله معاملة الاُم لولدها، إذ كانت تحتضنه وتضمّد جروحه وتخفّف من آلامه .
كما كُنيت باُمّ الأ ئمة، إذ أخبر الرسول المصطفى(ص) أنّ الأئمة من ولدها وأنّ المهديّ المنتظر من نسلها [17] .
انطباعات عن شخصيّة الزهراء (س)
الزهراء فاطمة ابنة أعظم نبيّ وزوجة أوّل إمام وبطل، واُم أينع بزغتين في تاريخ الإمامة، إنّها الوجه المشرق الوضّاء للرسالة الخاتمة، وإنّها سيّدة نساء العالمين، وهي الوعاء الطاهر للسلالة الطاهرة والمنبت الطيّب لعترة رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.
لقد اقترن تأريخها بتأريخ الرسالة، إذ ولدت قبل الهجرة بثمان سنوات وتوفّيت بعد الرسول (ص) بعدّة أشهر.
وقد أشاد النبيّ الكريم بعظيم منزلة الزهراء الطاهرة ، وبما بلغته من موقع رياديّ في خطّ الرسالة محتذياً خُطى القرآن الكريم فيما صرّح به من فضائل ومكرمات لأهل بيت الوحي(ع) بشكل عام وللزهراء (س) بشكل خاص.
الزهراء(س) في آيات الذكر الحكيم
لقد مدح القرآن الكريم اُناساً خلّدهم بآيات تتلى أناء الليل وأطراف النهار، إكباراً لمواقفهم السامية ولتفانيهم بإخلاص في سبيل الحقّ.
وممّن خصّهم الله تعالى بالذكر الجليّ وأشاد بمواقفهم وفضائلهم أهل بيت الرسالة وأهل بيت النبيّ الخاتم (ص)، وقد روى المؤرّخون والمفسّرون نزول آيات كثيرة في مدحهم، كما خصّهم بالثناء في سور شتّى تقريراً لسلامة خطّهم واعترافاً بحُسن سَمتِهم ودعوةً للاقتداء بهم.
1 ـ الزهراء (س) كوثر الرسالة :
إنّ الكوثر هو الخير الكثير ، وهو يتناول بظاهره جميع نعم الله على النبيّ محمّد (ص) ولكن ما ذكروه في أسباب النزول بالإضافة إلى الآية الأخيرة من سورة الكوثر يشيران بوضوح إلى أنّ هذا الخير يرتبط بقيم الرسالة كما يرتبط بكثرة النسل ودوامه، وقد عرف العالم كلّه أنّ نسل رسول الله (ص) قد استمرّ في الأجيال وكثرُ عطاؤه المبارك من خلال ابنته الزهراء البتول كما صرّحت بذلك جملة من أحاديث الرسول (ص) [18].
وممّا رواه المفسّرون في هذا الصدد أنّ العاص بن وائل كان يقول لصناديد قريش: إنّ محمّداً أبتر لا ابن له [19] يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحتم منه. وهذا قول ابن عباس وعامة أهل التفسير [20]، وبالرغم ممّا ذكره الفخر الرازي من اختلاف المفسّرين في معنى الكوثر هنا فإنّه قد صرّح قائلاً : « والقول الثّالث : الكوثر أولاده .. لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه (ع) بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان ثم قال: فانظرْ ، كم قُتل من أهل البيت ؟! ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني اُمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا(ع) والنفس الزكية وأمثالهم» [21].
وتدلّ آية المباهلة ـ الآتي ذكرها [22] ـ على أنّ الحسن والحسين ابنا رسول الله (ص) كما دلّت النصوص المتضافرة عن الرسول (ص) على أنّ الله تعالى جعل ذريّة كلّ نبيّ في صلبه وجعل ذريّة الرسول الخاتم (ص) في صلب عليّ بن أبي طالب(ع) [23] وروت الصحاح عن النبيّ (ص) أنّه قال للحسن بن عليّ(ع) : «إنّ ابني هذا سيّد، ولعلّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين» [24].
2 ـ الزهراء (س) في سورة الدهر :
حين مرض الحسن والحسين عادهما رسول الله (ص) في ناس معه فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر عليّ وفاطمة وفضّة ـ وهي جارية لهما ـ إن برئا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليّ (ع) من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة (س) صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ عليّ رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (ص) فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم ! وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبرئيل ثم قال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة [25].
فالزهراء ممّن شهد الله لها بأنّها من الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً، وممّن يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً، وممّن يطعمون الطعام على حبّه، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وأنّهم إنّما يطعمون لوجه الله لا يريدون منهم جزاءً ولا شكوراً، وأنّهم ممّن صبروا في ذات الله .. وأنّهم ممّن وقاهم الله شرّ ذلك اليوم العبوس القمطرير .. ولقّاهم نضرةً وسروراً، وجزاهم بما صبروا جنةً وحريراً [26].
3 ـ الزهراء (س) في آية التطهير :
لقد نزل الوحي بآية التطهير على رسول الله (ص) وهو في بيت اُم سلمة ـ رضي الله عنها ـ وذلك حينما كان قد ضمّ سبطيه ـ الحسن والحسين ـ وأباهما واُمّهما إليه ثمّ غشّاهم ونفسه بالكساء تمييزاً لهم عن الآخرين ولا سيّما النساء، فنزلت الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [27] وهم على تلك الحال، ولم يقتصر على هذا المقدار من توضيح اختصاص الآية بهم حتى أخرج يده من تحت الكساء فألوى بها الى السماء فقال: «اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، يكرّر ذلك واُم سلمة تسمع وترى ، وقد جاءت لتدخل تحت الكساء وهي تقول: وأنا معكم يا رسول الله، فجذبها من يدها وقال: لا، إنّك على خير [28].
وكان رسول الله (ص) بعد نزول الآية كلّما خرج إلى صلاة الفجر يمرّ ببيت فاطمة فيقول: الصلاة يا أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، مستمراً على هذه السيرة ستة أو ثمانية أشهر [29].
ودلّت الآية المباركة على عصمة أهل البيت من الذنوب فإنّ الرجس هو الذنب، وقد صُدِّرت الآية بأداة الحصر فأفادت أنّ إرادة الله في أمرهم مقصورة على إذهاب الذنوب عنهم وتطهيرهم منها، وهذا هو كُنه العصمة وحقيقتها، وقد أورد النبهاني عن تفسير الطبري هذا المعنى بشكل صريح [30].
4 ـ مودّة الزهراء (س) أجر الرسالة :
وروى جابر رضي الله عنه أنّ أعرابياً جاء إلى النبيّ (ص) فقال: يا محمّد! أعرض عليّ الإسلام، فقال: تشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، قال: تسألني عليه أجراً ؟
قال: لا، إلاّ المودّة في القُربى، قال: قُرباي أو قرباك ؟ قال: قرباي، قال: هاتِ اُبايعك، فعلى مَن لا يحبّك ولا يحبّ قرباك لعنه الله، قال (ص) : آمين [31].
وفسّر مجاهد هذه المودّة بالاتّباع والتصديق لرسول الله وصلة رحمه [32]، وفسّرها ابن عباس بحفظه في قرابته [33].
وذكر الزمخشري أنّ هذه الآية لمّا نزلت قيل: يا رسول الله مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وابناهما» [35][34].
5 ـ الزهراء (س) في آية المباهلة :
أجمع أهل القبلة حتى الخوارج منهم على أنّ النبيّ (ص) لم يَدْعُ للمباهلة من النساء سوى بضعته الزهراء ومن الأبناء سوى سبطيه وريحانتيه الحسن والحسين(ع) ومن الأنفس إلاّ أخاه عليّاً (ع)، الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى، فهؤلاء أصحاب هذه الآية بحكم الضرورة التي لا يمكن جحودها لم يشاركهم فيها أحد من العالمين، كما هو بديهيّ لكل من ألمّ بتاريخ المسلمين، وبهم خاصّة نزلت لا بسواهم [36].
لقد باهل النبيّ (ص) بهم خصومه من أهل نجران فانتصر عليهم ، واُمّهاتُ المؤمنين كنّ حينئذ في حجراته (ص) فلم يدعُ واحدةً منهنّ، ولم يدع صفيّة وهي شقيقة أبيه، ولا اُمّ هاني وهي كريمة عمّه، ولا واحدةً من نساء الخلفاء الثلاثة وغيرهم من المهاجرين والأنصار.
كما أ نّه لم يدعُ مع سيديّ شباب أهل الجنة أحداً من أبناء الهاشميين ولا أحداً من أبناء الصحابة، وكذلك لم يدع مع عليّ أحداً من عشيرته الأقربين ولا واحداً من السابقين الأوّلين [37]، وإنّما خرج وعليه مرط من شعر أسود ـ كما يقول الرازي في تفسيره ـ وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمِّنوا، فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها، فلا تباهلوهم فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ الى يوم القيامة.
قال الرازي بعد نقل هذا الحدث: هذه الآية دالّة على أنّ الحسن والحسين(ع) كانا ابني رسول الله وَعَدَ أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين(ع)فوجب أن يكونا ابنيه [38].
الزهراء (س) عند سيّد المرسلين (ص)
«إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها» [39].
«فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني ومن أحبّها فقد أحبّني» [40].
«فاطمة قلبي وروحي التي بين جنبيَّ» [41].
«فاطمة سيّدة نساء العالمين» [42].
لقد تواترت هذه الشهادات وأمثالها في كتب الحديث والسيرة عن رسول الله محمّد (ص) الذي لا ينطق عن الهوى [43] ولا يتأثّر بنسب أو سبب، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
إنّ الرسول الذي ذاب في دعوته وكان للناس فيه اُسوة فأصبحت خفقات قلبه ونظرات عينيه ولمسات يديه وخطوات سعيه وإشعاعات فكره المتجليّة في قوله وفعله وتقريره ـ وهي سنّته ـ بل وجوده كلّه مَعْلَماً من معالم الدين ومصدراً للتشريع ومصباحاً للهداية وسبيلاً للنجاة.
إنّها أوسمة من خاتم الرسل على صدر فاطمة الزهراء، تزداد تألقاً كلّما مرّ الزمن، وكلّما تطوّرت المجتمعات، وكلّما لاحظنا المبدأ الأساس في الإسلام في كلامه(ص) لها: يا فاطمة اعملي لنفسك فإنّي لا أغني عنكِ من الله شيئاً» [44].
وفي قوله(ص): «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد» [45].
وفي قوله (ص): «إنّما فاطمة شجنة [46] منّي، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها [47] وإنّ الأنساب يوم القيامة تنقطع غير نسبي وسببي وصهري [48] ...».
وخرج رسول الله (ص) ذات يوم وقد أخذ بيد فاطمة (س) وقال: «من عرف هذه فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمّد وهي بضعة منّي، وهي قلبي الذي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله» [49].
وقال (ص): «فاطمة أعزّ البريّة عليّ» [50].
ولا يصعب علينا تفسير هذه النصوص بعد معرفة عصمتها (س)، بل هذه النصوص هي شاهدة على عصمتها بشهادة أنّها لا تغضب إلاّ لله ولا ترضى إلاّ له.
الزهراء (س) عند الأئمة والصحابة والمؤرّخين
عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع): «لم يولد لرسول الله (ص) من خديجة على فطرة الإسلام إلاّ فاطمة» [51].
وعن الإمام أبي جعفر الباقر (ع): «والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم» [52].
وعن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع): «إنّما سُمّيت فاطمة لأنّ الخلق فطموا عن معرفتها» [53].
وعن الصحابي ابن عباس: أنّ رسول الله (ص) كان جالساً ذات يوم وعنده عليّ وفاطمة والحسن والحسين فقال: «اللهمّ إنّك تعلم أنّ هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس عليّ فأحبب من أحبّهم وأبغض من أبغضهم ووالِ من والاهم وعادِ من عاداهم، وأعن من أعانهم واجعلهم مطهّرين من كلّ رجس معصومين من كلّ ذنب وأيّدهم بروح القدس منك» [54].
وعن اُمّ المؤمنين اُمّ سلمة أنّها قالت: كانت فاطمة بنت رسول الله (ص) أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله (ص) [55].
وعن اُم المؤمنين عائشة أنّها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً من فاطمة إلاّ أن يكون الذي ولّدها [56] وكانت إذا دخلت على رسول الله (ص) قام فقبّلها ورحّب بها وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ (ص) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبّلته وأخذت بيده وأجلسته في مجلسها، وكان الرسول دائماً يختصّها بسرّه ويرجع إليها في أمره [57].
وعن الحسن البصري : أنّه ما كان في هذه الاُمة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورّم قدماها [58].
ودخل عبدالله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السنّ، وله وقرة [59]، فرفع مجلسه وأقبل
عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عكنة [60] من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال له: اذكرها عند الشفاعة.
فلما خرج لامَهُ أهله وقالوا: فعلت هذا بغلام حديث السن، فقال: إنّ الثقة حدّثني حتى كأنّي أسمعه من في رسول الله (ص) قال: «إنّما فاطمة بضعة منّي يسرّني ما يسرّها» وأنا أعلم أنّ فاطمة (س) لو كانت حيّة لسرّها ما فعلت بابنها، قالوا: فما معنى غمزك بطنه، وقولك ما قلت؟ قال: إنّه ليس أحد من بني هاشم إلاّ وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا [61].
قال ابن الصبّاغ المالكي: ... وهي بنت من اُنزل عليه سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [62]، ثالثة الشمس والقمر، بنت خير البشر، الطاهرة الميلاد، السيّدة بإجماع أهل السداد [63].
ووصفها الحافظ أبو نعيم الإصفهاني بقوله قائلاً: «من ناسكات الأصفياء وصفيّات الأتقياء فاطمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ السيّدة البتول، البضعة الشبيهة بالرسول ... كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة [64].
وقال عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي: وأكرم رسول الله (ص) فاطمة إكراماً عظيماً أكثر مما كان الناس يظنّونه ... حتى خرج بها عن حبّ الآباء للأولاد، فقال لمحضر الخاص والعام مراراً لا مرّة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: «إنّها سيّدة نساء العالمين وإنّها عديلة مريم بنت عمران، وإنّها إذا مرّت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد»، وهذا من الأحاديث الصحيحة وليس من الأخبار المستضعفة ، وكم قال لا مرّة: «يؤذيني ما يؤذيها ويغضبني ما يغضبها، وإنّها بضعة منّي يريبني ما رابها» [65].
وقال المؤرّخ المعاصر الدكتور عليّ حسن إبراهيم: وحياة فاطمة هي صفحة فذّة من صفحات التاريخ نلمس فيها ألوان العظمة، فهي ليست كبلقيس أو كليو بطرة استمدّت كلّ منهما عظمتها من عرش كبير وثروة طائلة وجمال نادر، وهي ليست كعائشة نالت شهرتها لما اتصفت به من جرأة جعلتها تقود الجيوش وتتحدّى الرجال، ولكنّا أمام شخصية استطاعت أن تخرج إلى العالم وحولها هالة من الحكمة والجلال، حكمة ليس مرجعها الكتب والفلاسفة والعلماء، وإنّما تجارب الدهر المليء بالتقلّبات والمفاجآت، وجلال ليس مستمداً من ملك أو ثراء وإنّما من صميم النفس ... [66].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليق