بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[1].
للزمن في المفهوم الإسلامي معناه الطبيعي في الكون، فليس للزمن ميزة في نفسه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[2]، فالزمن في طبيعته هو ظاهرة في النظام الكوني، وليس هناك خصوصيّة ليوم دون يوم، فالشّمس تشرق في كلّ يوم كما تشرق في بقيّة الأيام، وتغرب في هذا اليوم كما تغرب في بقية الأيام، فما الّذي يعطي للزمن خصوصيّته، بحيث يصبح مقدساً، ويتحول إلى عنوان يفرض الاهتمام والاحترام؟ إنَّه الحدث الذي يقع في الزمن فيعطيه معناه في وجدان الإنسان، بمعنى أن نحتضن الزمن أو أن نحترمه ونقدسه، من خلال احترامنا للحدث، سلبياً، إذا كان في دائرة السلب، أو إيجابياً إذا كان الحدث في دائرة الإيجاب! ومن هنا، ورد عندنا حديث عن الاعتبار السلبي للزمن: "لا تعادوا الأيام فتعاديكم"[3]، أي لا تحمّل الزمن مسؤوليّة النتائج السلبيّة الّتي تحدث فيه، لتلعن الزمن هنا وتسبّ الزمن هناك.
زمـن الهـدى
وفي ضوء ذلك، فإننا عندما ندرس هذه الآية التي تتحدَّث عن شهر رمضان، نرى أنها تتحدث عن الزمن من حيث إنزال القرآن فيه، كما تتحدث عن القرآن أنه: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فكأنها تقول إنَّ قيمة شهر رمضان هو من خلال قيمة القرآن الذي أنزل فيه، وبذلك، لا بدَّ من أن يتحول الزمن إلى زمن هدى ينفتح فيه النّاس على هدى القرآن، قراءةً وفكراً وحركة. وهكذا، يأخذ الزمن معنى الأسلوب أو معنى القوّة للحجّة الّتي ينفتح فيها الإنسان على تأكيد إيمانه ومواجهة الإيمان الآخر المضاد، فالقرآن هو بيّنات من الهدى، ولذلك، لا بدّ من أن نجعل من حركتنا في هذا الشهر حركة تأكيد الحجّة للهدى ضد الضلال، وتأكيد الحجة التي تفرّق بين الحق والباطل من خلال قوله تعالى: {وَالْفُرْقَانِ}. ولذلك، يأخذ شهر رمضان معنىً روحياً في العنوان الذي يمثله القرآن، كما يأخذ معنىً ثقافياً في ما يختزنه من ثقافة المعرفة، ولما يشتمل عليه من أبعاد وأفكار تتحرك فيه، وشرائع تتمثل فيه.
ولذلك، فإنَّ شهر رمضان أصبح منسوباً إلى الله، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه كتابه الخاتم الذي قال عنه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[4]، فكان خلاصة الرسالات، وبذلك، كان تاريخ الإسلام هو تاريخ الرسالات كلها، لأنه احتضن الرسل كلهم، وقال: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[5].
الانفتاح على القـرآن
ومن هنا، تأتي ـ أيها الأحبة ـ أهمية قراءة القرآن في شهر رمضان، فهي ليست مسألة تدخل في التقليد الديني كأيّ عادة من العادات التي يعتادها الناس، لتبدأ مليئة بالحياة ثم تموت بعد ذلك، كالكثير من العادات التي تنطلق من فكرة ثم تتحول إلى شيء جامد، كمثل الحجارة التي لا تعطي أية نبضة حياة.
إنّ هذا الحثّ على قراءة القرآن في شهر رمضان، يؤكد ضرورة أن يمتلئ الزمن عندنا بالقرآن، بحيث يُقرأ صباحاً ومساءً، إلى أن يتحول إلى حياة تحكم مفردات الزّمن كلّه، فلا يغيب القرآن عن نهارنا وعن ليلنا، حتى يضجّ الزمن كلّه بالقرآن. وبذلك، يدخل كتاب الله المجيد في هذا الموسم إلى عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ليمتدّ إلى حياتنا كلّها، وإذا عرفنا أنّ الله لا يريد لنا أن نقرأ القرآن بطريقة عادية، بل يريد لنا أن نتدبّره: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[6]، وذلك بأن تفتح قلبك للقرآن، والقلب في المصطلح القرآني هو منطقة الوعي الداخلي برمتها، والَّتي تشمل العقل والقلب والشعور والإحساس، أي أن لا تقفل قلبك، بل عليك أن تكسر كلّ الأقفال التي يمكن أن تحجب عن قلبك ثقافة القرآن وروحانيته وحركيّته وامتداداته، بحيث يمتدّ إلى حياتك كلّها.. كسّر أقفال التخلّف التي تجعل القرآن ميتاً حتى في تفسيره، وذلك عندما يفسّره التخلّف بطريقته الخاصة، أو عندما تتحرك الأهواء لينطلق كلّ هوى في توظيف القرآن بكلّ ما يختزنه من خلفيات تقعد بالقرآن بدلاً من أن تتحرك به.
وقبل أن تقرأ القرآن، افتح عقلك وقلبك وأحاسيسك ومشاعرك. والإمام علي(ع) يحدثنا في بعض خطبه عن المتقين، فيصفهم بالقول: "إذا قرأوا القرآن ومرت بهم آيات النار أحسوا بلهيب النار في وجوههم، وإذا مرت بهم آيات الجنة فكأنهم فيها منعمون"، فعلينا أن نعيش القرآن حياةً وحركةً تدخل في الصَّميم من حركة الحياة، وهذا هو الهدف الذي استهدفه الإسلام من إطلاق القرآن في حياة الناس، ليكون الإنسان قرآنياً، وليكون المجتمع قرآنياً، ولتكون الحياة قرآنية، وليدخل القرآن في حياتنا كلّها.
الخـط القرآني للتوحيـد
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ أريد لهذا الشّهر أن يعيش الخطوط القرآنية، وفي العنوان الكبير للخط القرآني يقف التوحيد، لأن توحيد الله هو رسالة كل الأنبياء(ع)، وقد اختصر الله سبحانه وتعالى الرسالة كلّها بكلمتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[7]، لأنّ كلمة {رَبُّنَا اللَّهُ} تلخّص كلّ معنى الرسالة والرسول واليوم الآخر وحركية الإنسان في الحياة، فالله تبارك وتعالى واحد، ولذلك، لا تتوجّه العقول والقلوب والأجساد وكل شيء، إلا إليه. لذلك قل: ربي الله، ولا تنظر يميناً ولا يساراً، بل حدّق بالله في عقلك وقلبك وشعورك، واستقم في هذا الخط: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[8]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[9]. إنكم لن تنظروني كما ينظر أحدكم إلى غيره من البشر: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[10]. لكنّني أريد أن تنظروا إليّ بعقولكم وقلوبكم ومشاعركم، وأن تتحدّثوا إليّ، وأن تحسّوا بحضوري، لأنّ كيانكم يمثّل حضوري من حيث إنه يمثّل سرّ خلقي لكم.
الدّعاء مظهر العبادة
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وجعل الدعاء مظهر العبادة: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[11]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[12]. فقد يكون الدّعاء مظهر العبادة في ما يغني معنى العبوديّة في نفوسكم، ولكنّه حاجة من حاجات الحياة الأساسية في ما تفتقرون فيه إلى ربكم، بحيث يدعو الله عباده إلى أن لا يبتعدوا عنه، وهو القريب منهم، وقد خلقهم بيده: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[13]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[14]. فالله تعالى ليس بعيداً عن الناس وعن أحلامهم وآلامهم وحاجاتهم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}، لندائي: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[15]، فسيجدون الرشاد في ما يبتعد بهم عن الغي كلّه.
وكان الحثّ على الدّعاء في شهر رمضان، إضافةً إلى سائر شهور السنة، استجابة لنداء القرآن في ذلك، وقد علَّمنا القرآن كيف كان الأنبياء(ع) يدعون، فرأينا أنَّ موسى(ع) بعد أن طال به السير وهو خائف من الملاحقة، وصل إلى موضع يشعر فيه بالأمن: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[16]، وعندما شعر بالأمن والطمأنينة، قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}[17]. وهكذا علّم الله تعالى رسوله(ص) أن يدعو: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[18]، {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[19].
وكان هذا هو خطّ الدّعاء الّذي انفتح عليه النّبي(ص) في أدعيته، وانفتح عليه أهل البيت(ع) في أدعيتهم، ولقد رأينا كيف تحوّل الدعاء إلى مدرسة ثقافيّة ندعو بها، ونتعرف من خلالها على صفات الله سبحانه، بحيث ندعو فتنفتح علينا حياة الرسول(ص) في دعائنا، وتنفتح علينا قضايا الحياة في خط الاستقامة والانحراف، وندعو فتتجمّع في أدعيتنا حاجاتنا كلّها وآلامنا كلّها وأحلامنا كلّها، فالدعاء يختزن في داخله مفردات القرآن، ويوسّعها من حيث ما تمتلكه من السّعة في ذاتها ودلالاتها وإشعاعاتها، وينفتح بها على كلّ ما يغني إنسانيّة الإنسان في حياته كلّها، ليكون الإنسان إنسان الله الّذي يحلّق في مواقع العبوديّة لله عزّ وجلّ، ويعيش القرب منه، ويتحرك في خطّ رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
التّدريب على التقوى
ومن هنا، فقد دخل الدّعاء في شهر رمضان من باب القرآن، ودخل الصّيام في شهر رمضان من باب القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[20]، فالله سبحانه وتعالى قال لكم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}[21]. والله قال لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[22].
وهكذا، فقد امتلأ القرآن بالدعوة إلى التقوى، ولا بدّ للإنسان من أن يتدرّب على التقوى، فالقرآن أعطاك الإيمان فكراً وروحاً، ودعاك إلى الالتزام عملاً، ولكنَّ الفكر لا يمكن أن يجسّد نفسه في الواقع إلا إذا انضمّت إليه الإرادة، فقد تتحرّك نفسك الأمارة بالسوء لتربطك بالجانب السيّئ من غريزتك، لأنَّ الغريزة ليست سوءاً كلّها، فإذا ارتبطت بالجانب السيئ منها، ولعب الشيطان لعبته في وسوسته وتسولاته وتزييناته، وفي وسائله الاستدراجية، فلا بدَّ من أن تملك قوّة رادعة تستطيع فيها أن تقول: لا للنَّفس الأمارة بالسوء، وأن تقول: لا للشيطان الخبيث المخبث، وأن تقول: نعم لله.
فالإرادة هي أن تريد أو لا تريد، أن تريد عندما يريد الله منك أن تريد، وأن تمانع عندما يريد الشيطان منك شيئاً، فكيف تقوي إرادتك؟ إن عليك أن تدخل في عملية تمرينية، والصوم هو إحدى الوسائل الترويضية، وذلك بأن تتمرَّد عندما تدعوك نفسك إلى أن تستمر في عاداتك اليوميّة التي تضعف إرادتك وتوهن مقاومتك، سواء في صباحك عندما تفطر، أو في منتصف نهارك عندما تتغدى، أو في شرابك عندما تشعر بالعطش، وفي شهواتك عندما تتحرك غرائزك.
ففي رمضان، تقول لنفسك عندما تدعوك إلى أن تشرب قهوة الصباح أو شاي الصباح: إنَّ الله يريدني أن لا أشرب قهوتي وشايي، ولا أتناول فطوري، وعندما تلحّ عليك نفسك بحكم العادة الدّارجة، وتتطلع إلى الله، فإنَّك تشعر بأنّك عندما تطيع نفسك في عادتك، فإنك تبتعد بها عن الله، ولذا، فإنك وأنت صائم تصرّ على أن تضغط على حاجاتك وعلى عاداتك، وبذلك، تبدأ التحرر من عبوديّتك لعادتك، لأنّ العادة تقول لك: هيا اخضع لي، والله يقول لك: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وتنطلق لتعبد الله، وتتحرّر من عبودية عادتك.
تنمية التّقوى في الذّات
وهكذا تتحرك إرادتك في خطّ التحرّر من الداخل في مفردات يومك وحاجتك، لتنجح تجربة التمرين الروحي، ويأتي الغروب فتشعر بأنك أخذت شيئاً من الحرية، فأنت حر ما دمت استطعت أن ترفض ما تحبه نفسك مما يبغضه ربك، فأن تكون حراً أمام نفسك، يعني أن تكون عبداً أمام ربك، وكلّما كان الإنسان عبداً لله أكثر، كان حراً أمام الناس أكثر: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ـ وتخشعون لهم وتطيعونهم ـ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[23]. فلماذا تستعبدون أنفسكم للعبد، ولا تستعبدون أنفسكم لله؟!
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ فإنّ قصَّة أن تصوم هي قصَّة أن تتقي الله سبحانه وتعالى، ولذا ورد في الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر"، لأنَّ الصّوم ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو وسيلة من وسائل تنمية التّقوى في داخل نفسك، وللتّقوى ساحتها في العقل، فتقوى العقل هو أن لا يتحرك عقلك في غير الحق وفي غير الخير وغير العدل، وتقوى القلب هو أن لا تحب إلا ما أحبه الله، ولا تبغض إلا ما أبغضه الله: "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أعهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب"[24]. أن تكون لقلبك بوصلة تهديك في معرفة من تحبّ ومن تبغض، وتقوى الجوارح أي الأعضاء هي تقوى الجسد، بأن تجعل جسدك في طاعة الله، وأن لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا.
الصـوم المـادي
وفي ضوء هذا، فإن للصوم عدة عناوين، فهناك مثلاً الصوم المادي في دائرة الجسد: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[25]. هذا هو الصَّوم الجسدي، أو قل هو جسد الصَّوم، وذلك بأن تكفّ نفسك عن طعامك وشرابك ولذتك، مما أراد الله أن تتركه. وهذا اللّون من الصَّوم يصومه التقي ويصومه غير التقي، ولكن النيّة هي الّتي تعطي صوم الجسد معنىً وروحاً، وذلك بأن تترك طعامك وشرابك قربةً إلى الله تعالى، وقد ترى بعض الناس يصومون عن الطّعام والشّراب، احتجاجاً على موقف، أو من أجل إيجاد حالة جسديّة صحيّة وما إلى ذلك، ولكنّك عندما تقول: أصوم قربة إلى الله تعالى، فإنّك تجعل الصّوم يصعد إلى الله، لتصعد معه، ولتجعله قربة له من خلال نية القرب إلى الله عز وجل. ولذلك، أعطى الله الإنسان معنى الصوم الذي يرتبط به في روحه لا في ذاتياته: "الصوم لي وأنا أجزي به"[26]، لأنَّ الصوم ليس حركة ماديَّة، بل هو يختصر معنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى في كل هذا الجوع والعطش والامتناع عن المفطرات مما أحله الله في غير أيام الصيام، فالنية هي التي تمنح هذا الصوم المادي نبض الروح، وبدونها، لا يكون في الصوم نبضة روح.
الصّـوم الرّوحـي
وهناك الصَّوم الاجتماعي، فللمجتمع تقواه وضوابطه وقضاياه، ولكلّ هذه الضّوابط والقضايا مسؤوليات، وذلك بأن لا تحدث أية فتنة تخلّ بوحدة المجتمع المسلم، فقد تدعوك نفسك إلى أن تقول كلمة تثير فتنة، وتقول أخرى تثير حرباً وحقداً وعداوة، وبذلك، فإنك تفطر اجتماعياً على معصية من معاصي الله. فأن تصوم الصوم الاجتماعي هو أن تبتعد عن كل ما يضر الناس: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[27].
أي أن تصوم عن إفساد المجتمع في كل ما يؤدي إلى فقدان سلامته، وأن لا تتعصب، لأنَّ التعصّب ليس خيراً، ولذا، إذا كنت تخلص لفكرك، فإن ذلك لا يعني أن تتعصَّب له، بل أن تلتزمه، وهناك فرق كبير بين الالتزام والتعصب، فالتعصّب انغلاق، والالتزام ثبات وانفتاح. وقد ورد في هذا الحديث عن علي(ع): "الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب"[28].
وإذا عرفنا أنَّ المحارم، ولا سيَّما الاجتماعيّة، هي الّتي تضرّ وتفسد المجتمع كما تفسد الفرد، عرفنا السّبب في الدّعوة إلى الصّوم الاجتماعي. وقد ورد في الحديث: "ما يصنع الصّائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"[29]. وقد ورد عن رسول الله(ص) في قوله لجابر بن عبد الله: "يا جابر! هذا شهر رمضان، من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث! فقال رسول الله:يا جابر ما أشد هذه الشروط!"[30].
الحديث جميل، ولكن كيف تطبقونه؟! وفي الحديث عن الباقر(ع): "إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي ـ أي الكلام الذي لا منفعة له ـ وأذى الخادم ـ وبالطبع فإن ذلك يشمل أذى الزوجة والأولاد والعامل ـ وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة ـ والمقصود هنا الجنس ـ والقبل والقهقهة بالضحك، فإن الله مقت ذلك"[31].
وفي الحديث عن الباقر(ع) والصادق(ع): "سمع رسول الله(ص) امرأة تساب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله بطعام، فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول الله! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع!"[32]. وكان من دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا دخل شهر رمضان: "وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور ـ أي محرم ـ ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور"[33]، أي ما حجرته علينا من المحرمات، وإلى غير ذلك مما يتّصل بإرباك الواقع الاجتماعي، كالغيبة، والإشاعات الكاذبة، والقول بغير علم، والحكم بالباطل، وإثارة الحقد والفتنة، وإيجاد الأجواء القلقة في المجتمع، فإن ذلك كله يفطر الصائم روحياً، وإن كان لا يفطره مادياً.
وهناك حديث عن علي(ع) في صيام القلب، والمراد به صيام العقل، يقول: "صيام القلب عن الفكر في الآثام ـ ومنها التخطيط للمعصية والإضرار بالناس وإسقاط كراماتهم ـ أفضل من صيام البطن عن الطعام"[34].
وعنه(ع): "صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن"[35]. أي أننا بصومنا المعروف وهو الامتناع عن الأكل والشرب إنما نفعل الأقل من الصيام. وعنه(ع): "صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار، خوفاً من العقاب، ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر"[36].
الصـوم السياسـي
وأما الصوم السياسي، فهو أن تمتنع من الركون إلى الظالم وعن مساعدته، والدفاع عنه، والتخذيل عن العادل، وهو أيضاً أن تصوم عن كلّ حالات التجسّس على الأبرياء لمصلحة الظلمة والمستكبرين، وهو أن تقاطع المستكبرين في كلّ ما يمكن أن يكون قوة لهم، بأن تقاطع بضائعهم وأوضاعهم ما أمكن ذلك.
وقد ورد في حديث الإمام الكاظم(ع) مع صاحبه صفوان الجمال عندما نهاه عن أن يؤجر جماله لهارون الرشيد، فقال له: "أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قال: بلى، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم"[37]، حتى إنَّ الإسلام يحاسب على نبضات القلب الإيجابيّة مع الظّالم.
لذلك، علينا أن نتعلَّم الصّوم السياسيّ، والصّوم الاجتماعيّ، والصّوم العقليّ، والصّوم العاطفيّ، كما نتعلم الصَّوم الجسديّ، وأن نتعلّم الصَّوم العائليّ، أن لا يستغلّ ربّ العائلة قوته في ظلم أفراد عائلته، وأن لا يستغل أفراد العائلة عاطفة المسؤول عنها ليعيثوا فيها فساداً، وأن يصوم المسؤولون، سواء كانوا سياسيين، أو دينيين، أو اجتماعيين، عن الحسد والحقد وما يدمّر إنسانيّة الإنسان.
موسـم الرحمـة
أيها الأحبة، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فأن تبدأ صومك يتطلّب أن تبدأ أول خطوة في طريق التقوى، لتكبر تقواك وتعظم وتمتدّ في حياتك، حتى يأتيك العيد، ليكون عيدك عيد القمّة في التقوى والقرب إلى الله والحصول على رضوانه، وقد قالها علي(ع) إمام المتقين، وإمام الصائمين والمصلين بعد رسول الله(ص): "إنما هو عيد لمن قبل الله من صيامه وشكر وقيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"[38]، أن تكون أعيادنا أعياد القرب من الله. وقال الإمام الحسن(ع) ـ وتروى عن الإمام الحسين(ع) ـ وقد رأى قوماً يلعبون في عيد الفطر: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون"[39].
أيّها الأحبّة، سوف ندخل في الموسم؛ موسم الرّحمة والمغفرة والبركة، وعلينا أن لا نخسر الموسم، لأنّ من يخسر الموسم يخسر السنة كلّها: "فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"[40].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا لصيامه وقيامه والإخلاص له، والتوبة من كلّ ذنوبنا، وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصّالحين على أنفسهم، إنّه أرحم الراحمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[1].
للزمن في المفهوم الإسلامي معناه الطبيعي في الكون، فليس للزمن ميزة في نفسه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[2]، فالزمن في طبيعته هو ظاهرة في النظام الكوني، وليس هناك خصوصيّة ليوم دون يوم، فالشّمس تشرق في كلّ يوم كما تشرق في بقيّة الأيام، وتغرب في هذا اليوم كما تغرب في بقية الأيام، فما الّذي يعطي للزمن خصوصيّته، بحيث يصبح مقدساً، ويتحول إلى عنوان يفرض الاهتمام والاحترام؟ إنَّه الحدث الذي يقع في الزمن فيعطيه معناه في وجدان الإنسان، بمعنى أن نحتضن الزمن أو أن نحترمه ونقدسه، من خلال احترامنا للحدث، سلبياً، إذا كان في دائرة السلب، أو إيجابياً إذا كان الحدث في دائرة الإيجاب! ومن هنا، ورد عندنا حديث عن الاعتبار السلبي للزمن: "لا تعادوا الأيام فتعاديكم"[3]، أي لا تحمّل الزمن مسؤوليّة النتائج السلبيّة الّتي تحدث فيه، لتلعن الزمن هنا وتسبّ الزمن هناك.
زمـن الهـدى
وفي ضوء ذلك، فإننا عندما ندرس هذه الآية التي تتحدَّث عن شهر رمضان، نرى أنها تتحدث عن الزمن من حيث إنزال القرآن فيه، كما تتحدث عن القرآن أنه: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، فكأنها تقول إنَّ قيمة شهر رمضان هو من خلال قيمة القرآن الذي أنزل فيه، وبذلك، لا بدَّ من أن يتحول الزمن إلى زمن هدى ينفتح فيه النّاس على هدى القرآن، قراءةً وفكراً وحركة. وهكذا، يأخذ الزمن معنى الأسلوب أو معنى القوّة للحجّة الّتي ينفتح فيها الإنسان على تأكيد إيمانه ومواجهة الإيمان الآخر المضاد، فالقرآن هو بيّنات من الهدى، ولذلك، لا بدّ من أن نجعل من حركتنا في هذا الشهر حركة تأكيد الحجّة للهدى ضد الضلال، وتأكيد الحجة التي تفرّق بين الحق والباطل من خلال قوله تعالى: {وَالْفُرْقَانِ}. ولذلك، يأخذ شهر رمضان معنىً روحياً في العنوان الذي يمثله القرآن، كما يأخذ معنىً ثقافياً في ما يختزنه من ثقافة المعرفة، ولما يشتمل عليه من أبعاد وأفكار تتحرك فيه، وشرائع تتمثل فيه.
ولذلك، فإنَّ شهر رمضان أصبح منسوباً إلى الله، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل فيه كتابه الخاتم الذي قال عنه: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}[4]، فكان خلاصة الرسالات، وبذلك، كان تاريخ الإسلام هو تاريخ الرسالات كلها، لأنه احتضن الرسل كلهم، وقال: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ}[5].
الانفتاح على القـرآن
ومن هنا، تأتي ـ أيها الأحبة ـ أهمية قراءة القرآن في شهر رمضان، فهي ليست مسألة تدخل في التقليد الديني كأيّ عادة من العادات التي يعتادها الناس، لتبدأ مليئة بالحياة ثم تموت بعد ذلك، كالكثير من العادات التي تنطلق من فكرة ثم تتحول إلى شيء جامد، كمثل الحجارة التي لا تعطي أية نبضة حياة.
إنّ هذا الحثّ على قراءة القرآن في شهر رمضان، يؤكد ضرورة أن يمتلئ الزمن عندنا بالقرآن، بحيث يُقرأ صباحاً ومساءً، إلى أن يتحول إلى حياة تحكم مفردات الزّمن كلّه، فلا يغيب القرآن عن نهارنا وعن ليلنا، حتى يضجّ الزمن كلّه بالقرآن. وبذلك، يدخل كتاب الله المجيد في هذا الموسم إلى عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ليمتدّ إلى حياتنا كلّها، وإذا عرفنا أنّ الله لا يريد لنا أن نقرأ القرآن بطريقة عادية، بل يريد لنا أن نتدبّره: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[6]، وذلك بأن تفتح قلبك للقرآن، والقلب في المصطلح القرآني هو منطقة الوعي الداخلي برمتها، والَّتي تشمل العقل والقلب والشعور والإحساس، أي أن لا تقفل قلبك، بل عليك أن تكسر كلّ الأقفال التي يمكن أن تحجب عن قلبك ثقافة القرآن وروحانيته وحركيّته وامتداداته، بحيث يمتدّ إلى حياتك كلّها.. كسّر أقفال التخلّف التي تجعل القرآن ميتاً حتى في تفسيره، وذلك عندما يفسّره التخلّف بطريقته الخاصة، أو عندما تتحرك الأهواء لينطلق كلّ هوى في توظيف القرآن بكلّ ما يختزنه من خلفيات تقعد بالقرآن بدلاً من أن تتحرك به.
وقبل أن تقرأ القرآن، افتح عقلك وقلبك وأحاسيسك ومشاعرك. والإمام علي(ع) يحدثنا في بعض خطبه عن المتقين، فيصفهم بالقول: "إذا قرأوا القرآن ومرت بهم آيات النار أحسوا بلهيب النار في وجوههم، وإذا مرت بهم آيات الجنة فكأنهم فيها منعمون"، فعلينا أن نعيش القرآن حياةً وحركةً تدخل في الصَّميم من حركة الحياة، وهذا هو الهدف الذي استهدفه الإسلام من إطلاق القرآن في حياة الناس، ليكون الإنسان قرآنياً، وليكون المجتمع قرآنياً، ولتكون الحياة قرآنية، وليدخل القرآن في حياتنا كلّها.
الخـط القرآني للتوحيـد
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ أريد لهذا الشّهر أن يعيش الخطوط القرآنية، وفي العنوان الكبير للخط القرآني يقف التوحيد، لأن توحيد الله هو رسالة كل الأنبياء(ع)، وقد اختصر الله سبحانه وتعالى الرسالة كلّها بكلمتين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}[7]، لأنّ كلمة {رَبُّنَا اللَّهُ} تلخّص كلّ معنى الرسالة والرسول واليوم الآخر وحركية الإنسان في الحياة، فالله تبارك وتعالى واحد، ولذلك، لا تتوجّه العقول والقلوب والأجساد وكل شيء، إلا إليه. لذلك قل: ربي الله، ولا تنظر يميناً ولا يساراً، بل حدّق بالله في عقلك وقلبك وشعورك، واستقم في هذا الخط: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[8]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[9]. إنكم لن تنظروني كما ينظر أحدكم إلى غيره من البشر: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[10]. لكنّني أريد أن تنظروا إليّ بعقولكم وقلوبكم ومشاعركم، وأن تتحدّثوا إليّ، وأن تحسّوا بحضوري، لأنّ كيانكم يمثّل حضوري من حيث إنه يمثّل سرّ خلقي لكم.
الدّعاء مظهر العبادة
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وجعل الدعاء مظهر العبادة: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}[11]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}[12]. فقد يكون الدّعاء مظهر العبادة في ما يغني معنى العبوديّة في نفوسكم، ولكنّه حاجة من حاجات الحياة الأساسية في ما تفتقرون فيه إلى ربكم، بحيث يدعو الله عباده إلى أن لا يبتعدوا عنه، وهو القريب منهم، وقد خلقهم بيده: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[13]، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[14]. فالله تعالى ليس بعيداً عن الناس وعن أحلامهم وآلامهم وحاجاتهم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي}، لندائي: {وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}[15]، فسيجدون الرشاد في ما يبتعد بهم عن الغي كلّه.
وكان الحثّ على الدّعاء في شهر رمضان، إضافةً إلى سائر شهور السنة، استجابة لنداء القرآن في ذلك، وقد علَّمنا القرآن كيف كان الأنبياء(ع) يدعون، فرأينا أنَّ موسى(ع) بعد أن طال به السير وهو خائف من الملاحقة، وصل إلى موضع يشعر فيه بالأمن: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}[16]، وعندما شعر بالأمن والطمأنينة، قال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ}[17]. وهكذا علّم الله تعالى رسوله(ص) أن يدعو: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[18]، {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[19].
وكان هذا هو خطّ الدّعاء الّذي انفتح عليه النّبي(ص) في أدعيته، وانفتح عليه أهل البيت(ع) في أدعيتهم، ولقد رأينا كيف تحوّل الدعاء إلى مدرسة ثقافيّة ندعو بها، ونتعرف من خلالها على صفات الله سبحانه، بحيث ندعو فتنفتح علينا حياة الرسول(ص) في دعائنا، وتنفتح علينا قضايا الحياة في خط الاستقامة والانحراف، وندعو فتتجمّع في أدعيتنا حاجاتنا كلّها وآلامنا كلّها وأحلامنا كلّها، فالدعاء يختزن في داخله مفردات القرآن، ويوسّعها من حيث ما تمتلكه من السّعة في ذاتها ودلالاتها وإشعاعاتها، وينفتح بها على كلّ ما يغني إنسانيّة الإنسان في حياته كلّها، ليكون الإنسان إنسان الله الّذي يحلّق في مواقع العبوديّة لله عزّ وجلّ، ويعيش القرب منه، ويتحرك في خطّ رضاه، ولا شيء إلا رضاه.
التّدريب على التقوى
ومن هنا، فقد دخل الدّعاء في شهر رمضان من باب القرآن، ودخل الصّيام في شهر رمضان من باب القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[20]، فالله سبحانه وتعالى قال لكم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}[21]. والله قال لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[22].
وهكذا، فقد امتلأ القرآن بالدعوة إلى التقوى، ولا بدّ للإنسان من أن يتدرّب على التقوى، فالقرآن أعطاك الإيمان فكراً وروحاً، ودعاك إلى الالتزام عملاً، ولكنَّ الفكر لا يمكن أن يجسّد نفسه في الواقع إلا إذا انضمّت إليه الإرادة، فقد تتحرّك نفسك الأمارة بالسوء لتربطك بالجانب السيّئ من غريزتك، لأنَّ الغريزة ليست سوءاً كلّها، فإذا ارتبطت بالجانب السيئ منها، ولعب الشيطان لعبته في وسوسته وتسولاته وتزييناته، وفي وسائله الاستدراجية، فلا بدَّ من أن تملك قوّة رادعة تستطيع فيها أن تقول: لا للنَّفس الأمارة بالسوء، وأن تقول: لا للشيطان الخبيث المخبث، وأن تقول: نعم لله.
فالإرادة هي أن تريد أو لا تريد، أن تريد عندما يريد الله منك أن تريد، وأن تمانع عندما يريد الشيطان منك شيئاً، فكيف تقوي إرادتك؟ إن عليك أن تدخل في عملية تمرينية، والصوم هو إحدى الوسائل الترويضية، وذلك بأن تتمرَّد عندما تدعوك نفسك إلى أن تستمر في عاداتك اليوميّة التي تضعف إرادتك وتوهن مقاومتك، سواء في صباحك عندما تفطر، أو في منتصف نهارك عندما تتغدى، أو في شرابك عندما تشعر بالعطش، وفي شهواتك عندما تتحرك غرائزك.
ففي رمضان، تقول لنفسك عندما تدعوك إلى أن تشرب قهوة الصباح أو شاي الصباح: إنَّ الله يريدني أن لا أشرب قهوتي وشايي، ولا أتناول فطوري، وعندما تلحّ عليك نفسك بحكم العادة الدّارجة، وتتطلع إلى الله، فإنَّك تشعر بأنّك عندما تطيع نفسك في عادتك، فإنك تبتعد بها عن الله، ولذا، فإنك وأنت صائم تصرّ على أن تضغط على حاجاتك وعلى عاداتك، وبذلك، تبدأ التحرر من عبوديّتك لعادتك، لأنّ العادة تقول لك: هيا اخضع لي، والله يقول لك: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وتنطلق لتعبد الله، وتتحرّر من عبودية عادتك.
تنمية التّقوى في الذّات
وهكذا تتحرك إرادتك في خطّ التحرّر من الداخل في مفردات يومك وحاجتك، لتنجح تجربة التمرين الروحي، ويأتي الغروب فتشعر بأنك أخذت شيئاً من الحرية، فأنت حر ما دمت استطعت أن ترفض ما تحبه نفسك مما يبغضه ربك، فأن تكون حراً أمام نفسك، يعني أن تكون عبداً أمام ربك، وكلّما كان الإنسان عبداً لله أكثر، كان حراً أمام الناس أكثر: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ـ وتخشعون لهم وتطيعونهم ـ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[23]. فلماذا تستعبدون أنفسكم للعبد، ولا تستعبدون أنفسكم لله؟!
وهكذا ـ أيها الأحبة ـ فإنّ قصَّة أن تصوم هي قصَّة أن تتقي الله سبحانه وتعالى، ولذا ورد في الحديث: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر"، لأنَّ الصّوم ليس مطلوباً لذاته، وإنما هو وسيلة من وسائل تنمية التّقوى في داخل نفسك، وللتّقوى ساحتها في العقل، فتقوى العقل هو أن لا يتحرك عقلك في غير الحق وفي غير الخير وغير العدل، وتقوى القلب هو أن لا تحب إلا ما أحبه الله، ولا تبغض إلا ما أبغضه الله: "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان يحبّ أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أعهل معصيته، فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع من أحب"[24]. أن تكون لقلبك بوصلة تهديك في معرفة من تحبّ ومن تبغض، وتقوى الجوارح أي الأعضاء هي تقوى الجسد، بأن تجعل جسدك في طاعة الله، وأن لا تقدّم رجلاً ولا تؤخّر أخرى حتى تعلم أنَّ في ذلك لله رضا.
الصـوم المـادي
وفي ضوء هذا، فإن للصوم عدة عناوين، فهناك مثلاً الصوم المادي في دائرة الجسد: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}[25]. هذا هو الصَّوم الجسدي، أو قل هو جسد الصَّوم، وذلك بأن تكفّ نفسك عن طعامك وشرابك ولذتك، مما أراد الله أن تتركه. وهذا اللّون من الصَّوم يصومه التقي ويصومه غير التقي، ولكن النيّة هي الّتي تعطي صوم الجسد معنىً وروحاً، وذلك بأن تترك طعامك وشرابك قربةً إلى الله تعالى، وقد ترى بعض الناس يصومون عن الطّعام والشّراب، احتجاجاً على موقف، أو من أجل إيجاد حالة جسديّة صحيّة وما إلى ذلك، ولكنّك عندما تقول: أصوم قربة إلى الله تعالى، فإنّك تجعل الصّوم يصعد إلى الله، لتصعد معه، ولتجعله قربة له من خلال نية القرب إلى الله عز وجل. ولذلك، أعطى الله الإنسان معنى الصوم الذي يرتبط به في روحه لا في ذاتياته: "الصوم لي وأنا أجزي به"[26]، لأنَّ الصوم ليس حركة ماديَّة، بل هو يختصر معنى الإخلاص لله سبحانه وتعالى في كل هذا الجوع والعطش والامتناع عن المفطرات مما أحله الله في غير أيام الصيام، فالنية هي التي تمنح هذا الصوم المادي نبض الروح، وبدونها، لا يكون في الصوم نبضة روح.
الصّـوم الرّوحـي
وهناك الصَّوم الاجتماعي، فللمجتمع تقواه وضوابطه وقضاياه، ولكلّ هذه الضّوابط والقضايا مسؤوليات، وذلك بأن لا تحدث أية فتنة تخلّ بوحدة المجتمع المسلم، فقد تدعوك نفسك إلى أن تقول كلمة تثير فتنة، وتقول أخرى تثير حرباً وحقداً وعداوة، وبذلك، فإنك تفطر اجتماعياً على معصية من معاصي الله. فأن تصوم الصوم الاجتماعي هو أن تبتعد عن كل ما يضر الناس: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}[27].
أي أن تصوم عن إفساد المجتمع في كل ما يؤدي إلى فقدان سلامته، وأن لا تتعصب، لأنَّ التعصّب ليس خيراً، ولذا، إذا كنت تخلص لفكرك، فإن ذلك لا يعني أن تتعصَّب له، بل أن تلتزمه، وهناك فرق كبير بين الالتزام والتعصب، فالتعصّب انغلاق، والالتزام ثبات وانفتاح. وقد ورد في هذا الحديث عن علي(ع): "الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب"[28].
وإذا عرفنا أنَّ المحارم، ولا سيَّما الاجتماعيّة، هي الّتي تضرّ وتفسد المجتمع كما تفسد الفرد، عرفنا السّبب في الدّعوة إلى الصّوم الاجتماعي. وقد ورد في الحديث: "ما يصنع الصّائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"[29]. وقد ورد عن رسول الله(ص) في قوله لجابر بن عبد الله: "يا جابر! هذا شهر رمضان، من صام نهاره وقام ورداً من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله، ما أحسن هذا الحديث! فقال رسول الله:يا جابر ما أشد هذه الشروط!"[30].
الحديث جميل، ولكن كيف تطبقونه؟! وفي الحديث عن الباقر(ع): "إذا أصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك عن الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي ـ أي الكلام الذي لا منفعة له ـ وأذى الخادم ـ وبالطبع فإن ذلك يشمل أذى الزوجة والأولاد والعامل ـ وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة ـ والمقصود هنا الجنس ـ والقبل والقهقهة بالضحك، فإن الله مقت ذلك"[31].
وفي الحديث عن الباقر(ع) والصادق(ع): "سمع رسول الله(ص) امرأة تساب جارية لها وهي صائمة، فدعا رسول الله بطعام، فقال لها: كلي! فقالت: أنا صائمة يا رسول الله! فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع!"[32]. وكان من دعاء الإمام زين العابدين(ع) إذا دخل شهر رمضان: "وأعنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور ـ أي محرم ـ ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور"[33]، أي ما حجرته علينا من المحرمات، وإلى غير ذلك مما يتّصل بإرباك الواقع الاجتماعي، كالغيبة، والإشاعات الكاذبة، والقول بغير علم، والحكم بالباطل، وإثارة الحقد والفتنة، وإيجاد الأجواء القلقة في المجتمع، فإن ذلك كله يفطر الصائم روحياً، وإن كان لا يفطره مادياً.
وهناك حديث عن علي(ع) في صيام القلب، والمراد به صيام العقل، يقول: "صيام القلب عن الفكر في الآثام ـ ومنها التخطيط للمعصية والإضرار بالناس وإسقاط كراماتهم ـ أفضل من صيام البطن عن الطعام"[34].
وعنه(ع): "صوم القلب خير من صيام اللسان، وصيام اللسان خير من صيام البطن"[35]. أي أننا بصومنا المعروف وهو الامتناع عن الأكل والشرب إنما نفعل الأقل من الصيام. وعنه(ع): "صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار، خوفاً من العقاب، ورغبة في الثواب والأجر، وصوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر"[36].
الصـوم السياسـي
وأما الصوم السياسي، فهو أن تمتنع من الركون إلى الظالم وعن مساعدته، والدفاع عنه، والتخذيل عن العادل، وهو أيضاً أن تصوم عن كلّ حالات التجسّس على الأبرياء لمصلحة الظلمة والمستكبرين، وهو أن تقاطع المستكبرين في كلّ ما يمكن أن يكون قوة لهم، بأن تقاطع بضائعهم وأوضاعهم ما أمكن ذلك.
وقد ورد في حديث الإمام الكاظم(ع) مع صاحبه صفوان الجمال عندما نهاه عن أن يؤجر جماله لهارون الرشيد، فقال له: "أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراؤك؟ قال: بلى، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم"[37]، حتى إنَّ الإسلام يحاسب على نبضات القلب الإيجابيّة مع الظّالم.
لذلك، علينا أن نتعلَّم الصّوم السياسيّ، والصّوم الاجتماعيّ، والصّوم العقليّ، والصّوم العاطفيّ، كما نتعلم الصَّوم الجسديّ، وأن نتعلّم الصَّوم العائليّ، أن لا يستغلّ ربّ العائلة قوته في ظلم أفراد عائلته، وأن لا يستغل أفراد العائلة عاطفة المسؤول عنها ليعيثوا فيها فساداً، وأن يصوم المسؤولون، سواء كانوا سياسيين، أو دينيين، أو اجتماعيين، عن الحسد والحقد وما يدمّر إنسانيّة الإنسان.
موسـم الرحمـة
أيها الأحبة، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فأن تبدأ صومك يتطلّب أن تبدأ أول خطوة في طريق التقوى، لتكبر تقواك وتعظم وتمتدّ في حياتك، حتى يأتيك العيد، ليكون عيدك عيد القمّة في التقوى والقرب إلى الله والحصول على رضوانه، وقد قالها علي(ع) إمام المتقين، وإمام الصائمين والمصلين بعد رسول الله(ص): "إنما هو عيد لمن قبل الله من صيامه وشكر وقيامه، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد"[38]، أن تكون أعيادنا أعياد القرب من الله. وقال الإمام الحسن(ع) ـ وتروى عن الإمام الحسين(ع) ـ وقد رأى قوماً يلعبون في عيد الفطر: "إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، فيستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وقصر آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب من ضاحك لاعب في اليوم الذي يثاب فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون"[39].
أيّها الأحبّة، سوف ندخل في الموسم؛ موسم الرّحمة والمغفرة والبركة، وعلينا أن لا نخسر الموسم، لأنّ من يخسر الموسم يخسر السنة كلّها: "فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم"[40].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفّقنا لصيامه وقيامه والإخلاص له، والتوبة من كلّ ذنوبنا، وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصّالحين على أنفسهم، إنّه أرحم الراحمين.
---------------------------------
[1] [البقرة: 185].
[2] [التوبة: 36].
[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 24، ص 239.
[4] [آل عمران: 3].
[5] [البقرة: 285].
[6] [النساء: 82].
[7] [فصلت: 30].
[8] [الأنعام: 153].
[9] [غافر: 60].
[10] [الأنعام: 103].
[11] [غافر: 60].
[12] [البقرة: 186].
[13] [ق: 16].
[14] [غافر: 19].
[15] [البقرة: 186].
[16] [القصص: 24].
[17] [القصص: 17].
[18] [طه: 114].
[19] [المؤمنون: 97].
[20] [البقرة: 183].
[21] [النساء: 1].
[22] [الحشر: 18].
[23] [الأعراف: 194].
[24] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 16، ص 184.
[25] [البقرة: 187].
[26] وسائل الشيعة، ج 10، ص 401.
[27] [القصص: 77].
[28] بحار الأنوار، ج 93، ص 294.
[29] المصدر نفسه، ج 93، ص 295.
[30] وسائل الشيعة، ج 10، ص 162.
[31] بحار الأنوار، ج 93، ص 292.
[32] المصدر نفسه، ج 93، ص 293.
[33] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين(ع)، إذا دخل شهر رمضان.
[34] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 2، ص 1687.
[35] المصدر نفسه، ج 2، ص 1687.
[36] المصدر نفسه، ج 2، ص 1687.
[37] وسائل الشيعة، ج 12، ص 132.
[38] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 4، ص 100.
[39] بحار الأنوار، ج 75، ص 110.
[40] وسائل الشيعة، ج 10، ص 314.
تعليق