موقف القرآن الكريم من المشاكل والهموم التي تعانيها طبقة الفقراء والمستضعفين
عني القرآن الكريم عناية كبيرة بهذه الطبقة التي تمثل الكثرة من الناس وأظهر مشاكلها وهمومها في دقة متناهية وهي لا تعد ولا تحصى ويهمنا هنا في هذا المقال الموجز أن نبين اثنين من هذه المشاكل التي يعاني منها الفقراء التي وقف عندها القرآن الكريم وأطال كثيراً :
الأولى : الاستغلال المعيشي لهذه الفئة ، ويمتثل ذلك في جشع التجار واستغلالهم لها ، والآخر: يمتثل في ضياع أو في ضعف الشخصية الذاتية لفقراء أمام الشخصية الذاتية القوية للأغنياء في المجتمعات التي تعتبر أن قيمة الإنسان هي بمقدار ما يملك من الأموال والثروة .
والأمر الأول أي الاستغلال المعيشي مثل له القرآن الكريم بعمليات الغش التجاري التي يقوم بها التجار ويستغلون فيها الناس استغلالاً بشعاً عن طريق التلاعب بأدوات ووسائل التجارة التي يقومون بها والتي مثلها القرآن الكريم بالتلاعب في المكاييل والموازين في البيع والشراء فيحصلون أكثر مما يستحقون حين يشترون ويبخسون الناس الفقراء حقوقهم حين يبيعون لهم ما يحتاجونه .
وقف القرآن الكريم من هؤلاء موقفاً صارماً وتوعدهم بقوله تعالى : ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) وقال تعالى : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وقال : (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) .
أما الأمر الخاص بضياع وهدر شخصية الفقراء فمثل له بموقف القرآن الكريم في أمرين :
بالسيادة والتبعية للأغنياء حيث لا يملكون من أمرهم شيئاً وليس عليهم إلا الخضوع والطاعة لهؤلاء الأغنياء الأسياد .
وحثّ القرآن الكريم على تغيير هذه الحالة الاجتماعية غير المتوازنة بين الأغنياء والفقراء بأن يكون لكل إنسان شخصيته وآدميته التي يتساوى بها مع غيره ويتمتع بحرية الإرادة وتحمل المسؤولية ، واتبع القرآن الكريم لتحقيق مثل هذا التوازن الاجتماعي أسلوبين أولهما : بيان مدى شذوذ وفساد هذه العلاقة القائمة بين السادة الأغنياء وبين الأتباع الفقراء .
وثانيهما: تقييم الإنسان على أساس ومعيار جديد يتمثل بالعمل الصالح المجزي وليس بكثرة الأموال والثروة والأولاد.
وفيما يخص الأسلوب الأول قال تعالى : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا) وقال : ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) -سورة غافر - وقال تعالى ايضاً : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
وهكذا نجد أن القرآن الكريم أطال في إظهار فساد العلاقة القائمة بين الفقراء والأغنياء في دقة متناهية لينفرهم منها ويعيد لهم كيانهم وعزتهم وكرامتهم وإرادتهم الحرة.
أما المعيار الأخر الذي جاء به القرآن الكريم لتقييم الإنسان هو العمل الذي يصلح به حاله ومعيشته وحال المجتمع الذي يعيش فيه بعد أن كان المعيار هو المال والثروة ،ويقول الذين يملكون ذلك كما ورد في القرآن الكريم : ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) -35 سبأ-وقد رد عليهم سبحانه وتعالى بقوله : ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى) و ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)-10 آل عمران- وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ )-التوبة- وبخصوص أهمية العمل في حياة الإنسان قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وقد ساوى القرآن الكريم في ذلك بين الذكر والأنثى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وفيه ربط بين الإيمان والعمل الصالح وهذا تأكيد على أهمية العمل عند الله سبحانه وتعالى ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)- التوبة آية 105 - .
تعليق