منذ أن ارتفعت راية الإسلام خفاقة في دنيا الوجود، ومنذ أن ردّدت أحرف التوحيد في سماء الحياة، ولمّا انبرى صوت الأذان يمزق
أروقة الشرك والإلحاد في شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله، اجتمع المؤمنون في طوابير التوق والإيمان، وقلوبهم العطشى
تخفق صوب عذب ماء رقراق منبعه ومنهله محمد المصطفى وآله الأبرار (صلوات الله عليهم أجمعين).
وانتظمت تلك الطوابير وعلى مدى السنين ما خلت الأرض من عشّاق وموالين، والجمع المؤمن الصابر يقف كالطود الشامخ تقرباً
لرسول الله صلى الله عليه واله وعترته الهادية المهدية، بل إنهم بعد أن تذوقوا لظى الغربة ومرارة الانتظار صاروا أشد شوقاً وتعلّقاً
وهياماً بسفن النجاة.
فتمتمات الموالين في الأسحار، وتسبيحاتهم في النهار، وصدقاتهم حفظاً للإمام الموعود تُنبئ بعظيم ذلك الحبّ والهيام نحو المخلّص المغوار،
وقد اتبعوا بشغف خيوط الوصال التي تدلّهم على قرب اللقاء، ففي زمن الغيبة والانتظار تراهم يتسابقون في أعمال البر والإحسان ويتصدقون
وينشرون الطيب في الفعل والكلام لغاية مقدسة ورغبة جامحة في تعجيل الظهور المبارك لصاحب الزمان
وفي الليالي المُشرّفة التي اختصها الباري لعباده لتكون لهم سراجاً وضّاءً، تتعالى الدعوات وترتفع الزفرات وتندفع الأصوات خلف الجدران
والبيوتات، وتهاليل الدعاء في ليالي القدر المعظمة تتوسل رجاءً ورغبة وأملاً.
ففي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام يفسّر فيها قوله تعالى: (.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ + سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(/ (القدر:4، 5) فيقول: "يعني حتى يخرج القائم".(1)
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال لي أبي محمد: قرأ علي بن أبي طالب عليه السلام )إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)
وعنده الحسن والحسين عليهما السلاك ، فقال له الحسين عليه السلام: يا أبتاه كأن بها من فيك حلاوة؟ فقال له:
يا بن رسول الله وابني إني أعلم فيها ما لا تعلم إنها لما نزلت بعث إليّ جدك رسول الله صلى الله عليه واله فقرأها عليّ، ثم ضرب على كتفي
الأيمن وقال: يا أخي ووصيي وولي أمتي بعدي، وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون: هذه السورة لك من بعدي، ولولدك من بعدك،
ن جبرائيل أخي من الملائكة حدث إليّ أحداث أمتي في سنتها. وإنه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوة. ولها نور ساطع في قلبك
وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائمf".(2)
والسؤال الذي يقتضي طرحه على السطور يقول: ترى بما أنّ الموالين منذ أول بزوغ شمس الإسلام حتى قيام يوم الدين يحيون ليالي القدر
بطرقهم التي تتناغم وروح الإيمان لديهم، فكيف علينا إحياء هذه الليالي اليوم؟ وكيف علينا كعشّاق ومنتظرين لليلة فرج الإمام إحياء
قلوبنا في زمن الفتن والانحراف والضلالة؟
هل تكفي صلاتنا وتبتّلنا أناء الليل وأطراف النهار لإحياء ليلة القدر المعظمة والتوسل بواجب الوجود وعلة العلل بقرب اللقاء الميمون؟
هل تكفي زفراتنا وأنينا الموجوع؟ وهل يفي صراخنا المحموم نحو المظلومين والبراءة من الظالمين؟
هل يكفي كلّ ذلك وذاك ليخطّ عهود الولاء ويوثّق عرى الإيمان المنطلقة صوب قرب الفرج الموعود؟
الجواب نجده داخل صدورنا، نستشعره بجوارحنا، نتلمّسه بوجداننا، ليقول: إنّ علينا جميعاً تحديات خطيرة ووقفات مشرفة في ردع
سيل الانحراف الجارف والتصدّي لمشاريع شياطين الأرض في إفشاء الفساد ونشر الرذيلة والضياع.
علينا أن نكون دعاة حقّ وفضيلة في كلّ مفصل من مفاصل الحياة، علينا أن نكون لمحمد المصطفى صلى الله عليه واله وآله الأبرار
عوناً لاشيناً، علينا أن نترك اللهفة وراء زخارف دنيا الغرور، وطلاق الدنيا والتأمل في نعيم الآخرة، بعد كلّ ذلك يكون حبّ الدنيا
الذي هو رأس كلّ خطيئة قد فارقنا.
عند ذلك.. وآنذاك، تتهاوى على جموع الطوابير المنتظرة لحظات إجابة الدعاء، ويُنفّذ الوعد الحق لدولة الإمام الموعودة، لتكون ليلة القدر
المعظمة بتهاليلها ودعواتها منطلقاً متلازماً لليلة الفرج وإقامة دولة الحق المنتظرة.
...............................
(1) معجم أحاديث الإمام المهدي: ج5، ص502.
(2) معجم أحاديث الإمام المهدي: ج5، ص503.
منتهى محسن
تم نشره في المجلة العدد96
تعليق