بسم الله الرحمن الرحيم
)إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(/ (1-3)
هذا خطابٌ من الله لنبيه صلى الله عليه واله على وجه تعداد نعمه عليه، فالإعطاء إخراج الشيء إلى آخذ له، وهو على وجهين: إعطاء تمليك،
وإعطاء غير تمليك. فإعطاء الكوثر إعطاء تمليك، كإعطاء الأجر، وأصله التناول من عطا يعطو إذا تناول.
و(الكوثر) الشيء الذي من شأنه الكثرة، والكوثر الخير الكثير. وهو (فوعل) من الكثرة، قال عطاء: هو حوض النبي صلى الله عليه واله
الذي يكثر الناس عليه يوم القيامة.(1)
إنّ الكوثر له معنى واسع يشمل كلّ خير وهبه اللّه لنبيّه صلى الله عليه والهومصاديقه كثيرة، لكن كثيراً من علماء الشيعة ذهبوا إلى
أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام من أوضح مصاديق الكوثر، لأنّ رواية سبب النزول تقول: إنّ المشركين وصموا النّبي بالأبتر، أي بالشخص
المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: )إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(.
ومن هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها السلام؛ لأن نسل الرسول صلى الله عليه واله انتشر في
العالم بواسطة هذه البنت الكريمة.. وذرية الرسول من فاطمة عليهما السلام لم يكونوا امتداداً جسمياً له فحسب،
بل كانوا امتداداً رسالياً صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه، وكان منهم أئمّة الدين الاثنا عشر بعد النّبي
كما أخبر عنهم رسول اللّه صلى الله عليه واله في الأحاديث المتواترة بين السنة والشيعة، وكان منهم أيضاً الآلاف المؤلفة
من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسّرين وقادة الأمة.
والفخر الرازي في استعراضه لتفاسير معنى الكوثر يقول: القول الثّالث (الْكَوْثَرَ) أولاده. قالوا لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً
على من عابه صلى الله عليه واله بعدم الأولاد، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت عليهم السلام
والعالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم
والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم.(2)
هذه السّورة تتضمّن في الواقع ثلاثة من أنباء الغيب والحديث عن المستقبل. فهي أوّلاً تتحدث عن إعطاء الخير الكثير للنّبي (أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)
وهذا الفعل وإن جاء بصيغة الماضي، قد يعني المستقبل الحتمي الوقوع. وهذا الخير الكثير يشمل كلّ الانتصارات والنجاحات التي
أحرزتها الدعوة الإسلامية فيما بعد. وهي ما كانت متوقعة عند نزول السّورة في مكّة.
من جهة أخرى، السّورة تخبر النّبي بأنّه سوف لا يبقى من دون عقب، بل إنّ ذريته ستنتشر في الآفاق.
وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه صلى الله عليه واله بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله، وبذلك يندفع ما قيل:
إن مراد الشانئ بقوله: "أبتر" المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير.
ولما في قوله: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ) من الامتنان عليه صلى الله عليه واله جيء بلفظ المتكلم مع غير الدال على العظمة، ولما فيه من تطييب نفسه
الشريفة، والجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة عليها السلام ذريته صلى الله عليه واله وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم
فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.(3)
..................................
(1) تفسير التبيان في تفسير القرآن (الطوسي)/ ج10ص410.
(2) تفسير الفخر الرازي، ج32، ص124.
(3) تفسير الأمثل، ج20، ص499.
سحر كريم الموسوي
جامعة بغداد /علوم حياة
تم نشره في مجلة رياض الزهراء العدد57
تعليق