زرع بذرة الصمود كي يجني فاكهة الانتصار، لينير سراج دينه، فضّل أن تحترق شمعة حياته ليخلد نور الحرية، فهمه الوحيد نيل فضل الله
لأنه وعده في كتابه: )..فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ
أَجْرًا عَظِيمًا q دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(/ (التوبة:95، 96)، فمنذ أن سمع فتوى المرجعية حفظها الله لم يتردّد
أو يتوانَ أو يتخلّف، ظلّت روحه معلقة بواقعة الطف ليردّد لسانه مقولة الإمام الحسينعليه السلام: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل،
ولا أفر فرار العبيد، ثم نادى: "يا عباد الله أنى عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبر لا يؤمن بيوم الحساب"(1)،
واستلهمت عائلته المواقف العظيمة لأهل بيت النبوةعليهم السلامفلم تمنعه أمّه أو أخته أو زوجته أو ابنته من نيل وسام الشرف المقدّس
للامتثال بفتوى الجهاد في الدفاع عن الوطن ومقدّساته، فعلى العكس من ذلك استمدت المرأة العراقية قوتها وصبرها من مواقف
السيّدة الزهراء والسيّدة زينب عليهما السلام في شخصيتهما وصلابتهما ودورهما الشامل في الإصلاح وزرع المثل الدينية ليُنشر الوعي
السياسي والديني، فكانتا شعلتي النور الوضاءة التي أمدّت المرأة والعالم الإسلامي بالقيم الأصيلة للدين، وهذا ما وجدناه في نسائنا
الفاضلات عن طريق تقديمهنّ الدعم النفسي والمعنوي للرجل، فلم تشعره بما تعانيه من وحشة غيابه، وظلت ابتسامتها ترافقها
حين ذهابه وعودته، ولنعرف مكامن هذه الابتسامة وما تخفيه عايشنا نساء المقاتلين الأبطال مستمدين منهنّ الصبر والإيمان الخالص
لله تعالى، فتوجهت مجلة رياض الزهراءعليها السلامإلى بيوت الحشد الشعبي المبارك. وكانت أولى زياراتنا في بيت المقاتل (أبو ميثم)
وكانت كلمات زوجته تسودها العزّة والفخر، فقالت:
شرف لنا أن يقاتل زوجي ليكون من أنصار الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومسعانا الوحيد التقرب إلى الله تعالى،
ولم يغلب خوفنا وألمنا عليه أملنا في النصر، حتى بعد إصابته في أثناء القتال، مضيفةً، أتمنى أن يكون أولادي في عمر يسمح لهم بالجهاد،
ليكونوا غيارى كوالدهم.
ثم توجهنا نحو ابنة المقاتل البطل لنسألها عن مشاعرها المكبوتة في غياب والدها، فقالت بكلّ ثقة ومن دون تردّد:
ذهب أبي الشجاع للالتحاق بالجيش ليدافع عن وطننا وعن مقدّساتنا، وسأظل أفتخر به حتى لو استشهد في سبيل الله تعالى.
ووصلنا إلى بيت (أبو علي)، وحدّثتنا زوجته عن صدى الفتوى وتأثيرها فيها وفي زوجها، وتحدّثت معبرة عن مشاعرها:
تأسّيت بتوجيهات خطبة الجمعة في حثّ النّساء الرجال للتوجه إلى ساحات القتال، تردّدت لكني تيقّنت أننا سنصبح لقمة سهلة المنال
في يد العدو لو تقاعس كلّ رجل عن الذهاب للدفاع عن الوطن، وحينما أعرف الانتصارات التي تتحقق في ساحات القتال تزيد عزيمتي
في دعم زوجي بصورة أكبر، حتى بعد أن علمت بإصابته لم أتراجع في تشجيعه هو وأخي ليذهبا مرة أخرى، وأحاول أن أطمئن أولادي
عليه وأصبّرهم حين ذهابه، والحمد لله لم نظلّ وحدنا في مدّة غيابه، فيتناوب زوجي مع أخي في العمل وقت الإجازة ليكفلا عائلتينا.
وعلى الرغم من بساطة السيّدة (أم مهدي) أثارتنا بجواب يثير الضمائر النائمة عن طريق زيارتنا لبيتها، حيث أجابت حينما سألناها
عن السبب الذي دعاها إلى أن تدفع وتنصر زوجها ليلبي نداء المرجعية؟
كيف أعمل واجبات ديني من صلاة وصوم وغيرهما، وكيف أزور الأئمة الأطهارعليهم السلاموأرضى أن تهتك ولاية أمير المؤمنين عليه السلام،
وفي الوقت نفسه أمنع زوجي من الذهاب ليدافع عن أرضنا وشعبنا، فقرر أبو مهدي تلبية الفتوى المباركة حين سماعها، ولم يتوانَ في الالتحاق
بالحشد الشعبي، وعملت على دعمه منذ بداية ذهابه وإلى الآن.
وبقيَ صدى كلمات (أم محمد) يتردّد في آذاننا حين قالت:
أنا مرفوعة الرأس بين أقاربي وعشيرتي لأن زوجي منتمٍ إلى الحشد الشعبي، وأطفالي فخورون بوالدهم بخاصة حينما يخرجونهم في وقت
الاصطفاف ليصفق لهم الطلاب في المدرسة تكريماً لهم، ولا أخفي خوفي وقلقي عليه، لكنه يصبرني ويقول لي أعمارنا بيد الله تعالى،
وكلّ إنسان يأتي أجله كما هو مقدّر له حتى لو كان جالس في بيته، وحينما يتحدّث لي عن المنافسة الكبيرة فيما بينهم للذهاب إلى القتال
وحرصهم الشديد الذي يصل إلى عدم أخذ الإجازة الممنوحة لهم يزيدني هذا العزم والصبر في مدّة غيابه.
ولم يكن الوضع الاقتصادي البسيط جداً لعائلة (أبو أمير) سبباً لجعله يتهاون في خدمة وطنه، فسلامة عقيدته تحتم عليه تلبية نداء الوطن
والمرجعية، ولتقدم عائلته الدعم المعنوي له، فحدثتنا طفلته الصغيرة هديل عن مشاعرها قائلة:
أنا لا أمنع أبي من الذهاب للقتال، صحيح أني أخاف عليه لكن الواجب يأمرنا بذلك، حتى أخي الصغير لا يقول له لا تذهب،
فقط يوصيه بأن لا يخرج رأسه حين مجابهة العدو كي لا يُصاب،
وحكت لنا زوجته عن موقفها قائلة: كيف نقرأ في زيارة الإمام الحسين عليه السلام عبارة يا ليتنا كنّا معكم فنفوز معكم، ونحن لا نعمل بذلك،
فمن أئمتناعليهم السلامنأخذ الدروس والعبر لنقتدي بها في أفعالنا.
وفي بداية خطواتنا الأخيرة التقينا بمواطن الرحمة للغوص في مشاعرهنّ فوجدنا سعادتهنّ في البذل والعطاء ليهدينَ بذرة أرواحهنَّ بمنتهى
السخاء والنقاء، ففي البداية التقينا بالوالدة (أم قاسم) التي أخبرتنا عن مشاعرها حينما تطوّع ابنها في الحشد الشعبي:
أنا أدعو الله للجيش بأكمله بالأمن والنصر والتقدّم، فالجيش والحشد الشعبي هم أبناء جميع الأمهات.
لم تمنعه والدته من الذهاب للدفاع عن شرف وطنه على الرغم من صغر عمره، فمنذ بداية الفتوى وهو في عمر السبعة عشر ربيعاً اتخذ
قراره الحاسم بحسب ما قالت والدته (أم كاظم) حيث عبّرت عن شعورها لنا:
ابني والمقاتلون الشرفاء هم وديعة أهل البيت عليهم السلام، وأضافت أخته: ندعو بالنصر لجميع أبطالنا وبإذن الله تعالى النصر قريب.
وعبّرت عن موقفها وموقف ابنها المتطوّع في الحشد الشعبي السيّدة (أم زين العابدين) متحدثة:
حين اجتاحت بلدنا العزيز العراق رياح سوداء تأكل الأخضر واليابس متسترة بغطاء الدين لتبرر أعمالها الدنيئة متمثلة بـ (داعش)
لابدّ من وجود يد تمسح هذه الجراح تمثلت بفتوى المرجعية الرشيدة، لتكون صمام الأمان الذي من خلاله استرجع العراق أنفاسه وبدأت جراحه
بالاندمال بفضل الدماء الطاهرة للشهداء وللمقاتلين الأبطال الذين لبّوا نداء المرجعية المباركة، فكان موقف ابني أن التحق منذ البداية،
فكلما رأى عزيمة المقاتلين وما يفعله أعداء الإنسانية بأرضنا وشعبنا تحركت غيرته على أرضه وعرضه، وقرر أن يلتحق بقوات
الحشد الشعبي وفاتحنا بالأمر، ووجدت الأمر في بدايته صعباً عليّ لكني فضلت مصلحة البلد على حبّ الذات، لذلك باركت له
هذه الخطوة الحسنة، وجعلت مباركتي له بموقفه أنني أواسي سيّدتي الزهراءعليها السلامبنصرة ولدها الحسينعليه السلام، حتى لو رزق
ولدي الشهادة سأكون فخورة ومعتزة بهذا الوسام.
نحن نفتخر بهذه الكنوز المكنونة التي ظهرت تلبية لنداء الفتوى النيّرة، التي أشعلت مصابيح الحرية لتطفئ نار الحرب بدمائها الزكية الطاهرة.
.............................
(1) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: ج19، ص169.
دعاء جمال الحسيني
تم نشره في العدد98
تعليق