مثل كلّ يوم حينما تشفق فيهِ الشمس الواعدة على البسيطة ويتنهّد الصباح ضاحكاً بوجهِ طيفٍ أبديّ ، اِستلّتهُ السَماء من طوائف الأرض العريقة التي حفّتها السَكينة وَ البركات ، بعدَ أن لهجت بهِا حناجر شتّى قد آمنت بالله رباً ، وَسلكت سبلهِ راضيةً بما أنعمَ عليها من خصبٍ وَزاد ، تلكَ هيَ أرض الرافدين المعهودة ، أرض النبؤات والأساطير التي رأتها الطوائف جنّة أورثها الله اِليها بغير حساب ، فَتناسلَت حكاياتها على مرّ الأزمان ترويها بقاع الأرض ، حتّى نَمَتْ منها المواعظ والعبر ، فَتناقلتها الكراريس وَ الكتبِ وَالمقاهي والدواوين ، فأثمرت أُكُلها في نفوسٍ ضَحَّت وَأخلصت لهذهِ الأرض المباركة ، وَ كانت اِحداها هيَ نفسُ رحيم ، ذلكَ الشاب اليافع ذو العشرين ربيعاً الذي ترعرعَ في كنفِ قريةٍ من قرى ذي قار ، حينما تعلّمَ منها التضحية والإباء وَحبّهِ للأرض وَالتمسكِ بها لآخر رمق فيه ، تطوّع رحيم في الجيش حديثاً وَرضيَ بمشيئة الأقدار حينَ رمته في قلبِ الموصل ، التي لَم يسبق لَه زيارتها من قبل ، سوى تلكَ القصص التي كانَ يرويها لَه أباهُ حينَ كانَ عسكرياً سابقاً في الموصل .
وأخيراً تلكَ هيَ الموصل !!.. التي حكى لي والدي عنها كثيراً حينما كانَ في الجيش ، الله !! كم هيَ جميلة هذهِ الأرض ياعلي !! أنظر ياعلي كم هوائها عليل وَصباحها مشرقٌ وَ جميل .
نعم يارحيم فهيَ أمُّ الربيعين كما تكنّى !! اِنّها مدينة الخصبِ وَ الجمال .
أتدري يارحيم !! لَم أرى مثل تلكَ الطبيعة الخلّابة في الأنبار رغمَ اِنّها مدينتي التي ولدت فيها وحبّي الشديد لها .
لاعليكَ ياعلي .. فعدالة السماء أعطَتْ لأرضٍ دون سواها بما يميزها عن الأخريات ..
نعم ياصديقي .. فاِنّها مشيئة الله في خلقه .. ولذا كانوا أهلنا يقولون (بيدر الذهب احتاج اِلى بيدر الدخن) .
ههههه .. أضحكتني ياعلي .. وَ أنتَ تعلم أنّ الضحك يعقبه حزن كما سمعنا من أهلنا .
أراكَ اليوم متوتّرأً على غير عادتك ياصديقي ؟
أقسم لكَ يارحيم بأنَّ مايقلقني هيَ نفوس أهل هذهِ المدينة التي تغيّرت كثيراً عن السابق ، فأنّي أرى ذلكَ الخوف الذي يسكن بينَ أفئدتها حتّى بانَ جليّاً على وجوههم .
لاتقلق ياصديقي فلكلِّ مشكلة اِلّا وَلها حلّ ..
آه .. ذلكَ ماأتمنّاه يارحيم ..
هل نسيتَ ياعلي ؟ ..
ماذا ؟ !!
اِنَّ غداً هوَ موعد اِجازتنا الدوريّة ..
لم أنسى بالطبع !! وَقد اِشتَقتُ اِلى أهلي واِلى أمّي بالذات .
وأنا كذلك ياعلي .. فقد اشتقتُ اِلى أطفالي كثيراً بعَد غيابي عنهم لأكثر من شهر
علي .. علي .. أتَسمَع !! ؟
ماذا هناكَ يارحيم ؟ ..
اِنّهُ صوت الآمر..!! يَهتف للوحدة منادياً ..
هيا هيا بسرعة .. لنذهب وَنرى ماهوَ الأمر .
وَما اِن وَصلا اِلى ساحة العرضات حتّى شاهدا الآمر وَقد بانَ الشحوب والارتباك جليين على وجهه ، وبعدَ ان حضرَ الجميع استرسلَ قائلاً ..
اِخواني الأبطال .. أنتم تعرفون مايمرّ بهِ البلد من أوضاع خطيرة تحاول المساس بالوطن وخاصةً نينوى وهذهِ المرّة من قبل تنظيم ارهابي اِسمه داعش.. ولذا أوعزَت قيادة العمليات أن تدخل الوحدة في اِنذار ج َحتى اِشعار آخر ..
سمعاً وطاعة يا سيدي ..
تمتمَ بها الجنود على عجالة ثمَّ انصرفَ كلّ منهم متوجهاً اِلى عمله ، وَبعدَ حلول المساء وما اِن أسدلَ الليل ستاره على المدينة وأطرافها ، بدا كلّ شيء مرتَبكاً فيها ، وَأنباء تَتحدّث عن سقوط الجانب الأيسر من المدينة ،حتّى تفاجئ الجميع بالخبر ، وبعدَ أن ساءت الأمور أكثر وَ بدأت تتأزّم ، بدأ الجيش بالانسحاب من المدينة حسب الأوامر على شكلِ أرتالٍ طويلة ومتعاقبة باِتجاه مدينة أربيل ، وَفي هذهِ الأثناء كانَ رحيم برفقة علي يحثّان جنود الثكنة بالصمود وعدم الانسحاب وَ التمسّك في مواضعهم وَ السيطرة على الموقف ..
أخواني .. أرجوكم أن تصمدوا فاليوم يومكم .. أخواني الابطال لاتبرحوا الثكنة .
أيّ يوم هذا الذي تراه يارحيم .. ألم ترى اِنَّ الدنيا قامت وَ لم تقعد .. قالها أحد الفارّين على عجالة قبل أن يقفزَ داخل العجلة العسكرية المكتظّة بالجنود وأمتعتهم مخلّفين ورائهم أكداساً كبيرة من الأسلحة والأعتدة والدبابات وناقلات الأشخاص المختلفة ، وقد اِنهارَ كلِّ شيء بظرفِ ساعاتٍ قليلة .
صلاح .. صلاح !! .. تمتمَ بها رحيم لأحد الفارّين من أرض المعركة وكانَ أمين المشجب .. طيّب ياأخي انقل معكَ مشجب الأسلحة لعلّها تخدمكم أثناء طريق الانسحاب وَ حتى لاتُحاسب فيما بعد .
ماذا دهاكَ يا رحيم .. اِنّها ( مبيوعة و داعتك ) .. تمتمَ بها صلاح مستهزئاً وَقد رُسِمتْ على وجهه اِبتسامة فارغة من أيّ دعابة .
هيا يارحيم .. اصعد داخل الشاحنة قبل ان يأتوا الدواعش وَ يذبحوكَ كالبعير ..
لَم يعر رحيم لحديث صلاح أهمية سوى انّهُ اِلتفتَ نحوَ عليّ وَبانت عليهِ ملامح الاستغراب وقالَ له ..
علي .. !!
نعم يارحيم ..
هيا ياصديقي .. اِصعد داخل الشاحنة معَ الباقين ..
تنفسَ علي بشدة ثمَّ التفتَ اليه قائلاً ..
لايارحيم .. لانامت أعين الجبناء ..
اِذهب ياصديقي فاِنَّ أهلكَ بانتظارك ..
اهلي ؟ !! .. أي أهل الذينَ تتحدّث عنهم يارحيم !! هل سيبقى لي أهل والأعداء داخل البلد
( علي .. بالعباس أنتَ بطل ) !! هل تعلم انّكَ تكبر في عيني يوماً بعد يوم ..
ولكن هل تُعاهدني ياصاحبي ؟ ..
أنتَ تعرف يارحيم اِنّكَ في معزّةِ أخوتي وَ أكثر
اِذن علينا أن نبقى داخل الثكنة ونقاتل بشرف حتى الموت ..
نعم ياعلي .. (الراس ماياخذه غير اللي ركبه ) .. (يريدوها حرب عصابات .. اِحنه عصابات) .. (يريدوها مال شقاوات اِحنه شقاوات) ...
ههههه .. دعني أكمل ماتبقّى يارحيم ( يريدوها عشاير اِحنه عشاير) ..
هههههه ، لاتقلق ياصديقي ( يحلهه الحلال) ..
ونعمَ بالله يااخي ..
هيي هيي .. أنتما .. هيا تعالا .. اِنسَحبا .. كانَ ذلكَ صوت أحد العرفاء وهو ينادي عليهما من بعيد للّحاق بركبٍ طويل مكوّن من عجلات الهامفي والماك وهوَ يحاول توّاً للانسحاب من داخل الثكنة .
أجابه رحيم ( انته كل عقلك راح ننسحب .. بأي وجه راح نباوع عل عالم ) صدحَ بها صوته وهوَ يشير اليه باحدى يديه. وَبعدَ أن خرجَ الرتل من الثكنة لم يبقى فيها غيرهما .
اذن هيا ياعلي .. فالفجر قرُبَ ان يشفق علينا .. دعنا نتمركز في نقاط الحراسة المطلّة على الشارع ونملئها بالاسلحة والذخيرة .. ( اليوم يومنه ياصديقي .. اليوم نريد انشوفهم الامهات اشجابن ) ..
( والنعم منك ومن أصلك ياابن ذي قار) غرغرت عينا رحيم بعدَ أن شاهدَ علي وهوَ يشدّ على عزيمته بفخرٍ وَ اِباء ..وما ان أتمَّ علي حديثه حتى سمعا دويّ عجلات قادمة باتجاه الثكنة .. تسلّق علي نقطة الحراسة الأولى فيما جرى رحيم باتجاه النقطة الثانية ، وبعدَ ان أخذَ كلٍ منهما موقعه بدأت عجلات العدو تقترب أكثر اِلى ان وصلت في مرمى نيرانهما .. اِتّفقا علي ورحيم مسبقاً على تحديد ساعة الصفر ورسم الخطّة للانقضاض على العدو وإيقاع أكبر الخسائر في صفوفه .. وفي هذهِ الأثناء قامَ رحيم باطلاق صاروخ قاذفة آر بي جي باتجاه العجلة الأولى من رتل العدو وتمَّ احراقها بمن فيها فيما قامَ علي باطلاق الصاروخ الآخر باتجاه العجلة الأخيرة وأيضاً أصابها وأحرقَ من فيها .. وما ان رأى العدو انَّ عجلاته بدأت تحترق .. اضطَربَ رتلهِ وتشتّتَ وكانَ العدو يظنّ بأنَّ هنالكَ قوّة لازالت تتمركز في الثكنة فقامَ رحيم وعلي رشقَهُم برشاشات البي كي سي حتى انقضّوا على آخر من فيهم .
تعليق