بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾1.
الدنيا لا تكون دنيا إذا لم يكن فيها موت ومرض وفقر وخسارة وآلام وأحزان وفراق للأحبّة و... وإن كان أيضاً لجود الله وكرمه وحكمته، فيها حياة وصحّة وغنىً وربح ووصال ولذّة وسعادة وفرح وسرور... بل لا يمكن - بحسب عالم المادّة الّذي يحكم قوانين الدنيا - إلّا أن يكون فيها من الصنفين. فلا غنى إلّا بفقر، ولا ربح إلّا بخسارة، ولا مساكن وقصور فاخرة إلّا بعمّال فقراء يكدحون أكثر وقت يومهم بالعمل الشاقّ المضني، ولا زواج إلّا بفراق البنت لأهلها والولد لوالديه، ولا أولاد إلّا بجهدٍ وعناء وألم. والأمثلة على هذا من حياتنا فوق حدّ الإحصاء.
فليس في الدنيا خير مطلق وسعادة بلا شقاء، كذلك ليس فيها شرّ مطلق وشقاء بلا سعادة. وفي هذه الدار خلق الله تعالى الإنسان واقتضت حكمته أن يمتحنه ويختبره، أيشكر على النعم ويستعملها في الخير ورضا الله تعالى، أم يغرق في شهوات الدنيا ولذائذها ويسير خلف رغباته وميوله ولو كانت في سخط الله تعالى؟
وإن عرضت عليه مصيبة وبلاء هل يصبر ويستعين بالله تعالى حتّى يرفع عنه مصيبته ويخرجه من شدّته، أم يكفر ويتّهم الله في عدله ورحمته ويطغى على سيّده ومولاه؟.
وبعبارة أخرى هل يختار الدنيا على الآخرة والعاجلة على الآجلة ومتاعاً فانياً على سعادة باقية؟ أم يختار جنان الله خالداً فيها وعطاءً غير مجذوذ ونعمة لا تزول؟
إذاً: المهمّ هو كيف نتعاطى مع المصيبة والبلاء؟ وكيف نتصرّف عند الفتنة والاختبار؟ ولا ينبغي أن نتوقّع في هذه الدار أن نبقى فيها ونخلد، وأن تُرفع عنّا كلّ مِحَنها ومصائبها. فهذا لن يكون في الدنيا أبداً.
يُروى عن الإمام الصادق عليه السلام : "أنّ قوماً فيما مضى قالوا لنبيّ لهم ادعُ لنا ربّك يرفع عنّا الموت، فدعا لهم فرُفِع عنهم بدعوة نبيّهم. ثمّ كثروا حتّى ضاقت عليهم المنازل وكثر النسل، وأصبح الرجل يطعم أباه وجدّه وجدّ جدّه وهكذا من طرف أمّه ثمّ يوضبهم ويتعاهدهم في كلّ شؤونهم
وحوائجهم حتّى شغلوا عن طلب المعاش. فقالوا لنبيّهم بعد ذلك سل لنا ربّك أن يردّنا إلى حالنا الّتي كنّا فيها"2.
وإن أردت داراً لا شقاء فيها ولاتعب ولا نصب، ولا حزن ولا ألم، ولا خسارة ولا موت فقد وعد الله تعالى بها الّذين آمنوا وعملوا الصالحات واجتازوا الاختبار وامتازوا عن الأشرار.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾3.
وقال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾4.
وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾5.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"6.
أنت أحبّ الخلق لله
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال فيما أوحى الله تعالى لموسى بن عمران عليه السلام : "يا موسى ما خلقت خلقاً أحبَّ إليّ من عبدي المؤمن، وإنّما أبتليه لما هو خير له وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرضَ بقضائي أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري"7.
فالله يحبّ عبده المؤمن، بل لم يخلق أحداً أحبّ إليه منه فإذا ما ابتلاه - والبلاء حتم لا بدّ منه في الحياة الدنيا - فلا يبتليه إلّا بما هو خير وصلاح له، ولا يزوي عنه ما يحبّه ويريده إلّا لصلاح دينه أو دنياه بدفعه عنه وحرمانه منه. فإذا عرف العبد أنّ الله لم يبتلِه إلّا لما هو خير له وصلاحه يسهل عليه الصبر حينئذٍ، بل يستوجب ذلك منه الشكر والرضا. وهذه هي الغاية من خلق الإنسان في الدنيا.
أسرار البلاء وأسبابه
إنَّ معرفة أسرار وأسباب البلاء تسهِّل على المؤمن الصبر وتقوّي العزيمة لديه. ولهذه الغاية نذكر خلاصة هذه الوجوه مع ذكر بعض الروايات، ثمّ نذكر بعد هذا فوائد الصبر وثوابه عند الله تعالى وما ذُكِر فيه عن طريق رسول الله وأهل بيته عليهم السلام.
1- البلاء عقوبة:
عندما يعرض لك بلاء ومصيبة تَفكَّر في أنّه قد تكون أنت السبب فيكون هذا البلاء عقاباً لك على بعض المعاصي الّتي اقترفتها. قال تعالى:﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾8.
ومع هذا فالله تعالى يعفو عن كثير ولا يأخذنا بكلّ ذنوبنا لكرمه وجوده ورحمته. قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾9.
2- امتحان وابتلاء:
إنّ الهدف من خلق الإنسان في الحياة الدنيا هو الامتحان والاختبار، وهذا لا يتمّ إلّا بالبلاء والفتنة ليميز الله المؤمن من
الكافر والصابر من الجازع والخبيث من الطيّب، ليلتحق كلٌّ بالعالم الّذي يناسبه. قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾10.
3- لعلّه خير:
لا بدّ أن تعلم أنّه ليس كلّ بلاء في الدنيا هو شرّ ونقمة عليك، بل قد يكون خيراً لك ولكن لعدم إحاطتك بكّل شيء لا سيّما في مستقبل الأمور قد تظنّ أنّه شرّ لك وفي الواقع هو خير. قال تعالى:﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾11 ، لا سيّما إن كنت متوكّلاً في كلّ أمورك وشؤونك على الله، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾12.
4- إيقاظ وتنبيه:
لعلّ الله تعالى وجدك غافلاً عن آخرتك وغارقاً في الدنيا وملهياتها، فأراد لحبّه لك أن يوقظك من غفلتك ويذكّرك به تعالى، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد شرّاً فأذنب ذنباً تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى به..."13.
ونسيان ذكر الله والإخلاد للدنيا أعظم بلاء على ابن آدم، لأنّه يوجب حرمان الجنّة وحرمان رضوان الله وجوار رسوله وأهل بيته عليهم السلام. ولذلك روي عن الإمام عليّ عليه السلام : "ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له"14 أي الإهمال والاستدراج للمعصية.
5- تطهير من الذنب:
لعلّ الله تعالى ابتلاك ليعاقبك على ما اقترفت في الدنيا. ولحبّه تعالى لك يريد أن يطهّرك قبل رحيلك من الذنوب الّتي لا تستطيع تحمّل عقابها في الآخرة مهما قلَّ وقصرت مدّته.
ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال ليونس: "يا يونس إنّ المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يمرّ عليه أربعون يوماً لا يمحّص فيها من ذنوبه ولو بغمّ يصيبه لا يدري ما وجهه... فيكون ذلك حطّاً لبعض ذنوبه"15.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : "صداع ليلة يحطّ كلّ خطيئة إلّا الكبائر"16.
وعن الامام الباقر عليه السلام "إنّ الله عزَّ وجلَّ إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل به ذلك شدَّد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، قال: وإذا كان من أمره أن يهين عبداً وله عنده حسنة
صحّح بدنه، فإن لم يفعل به ذلك وسّع عليه في رزقه، فإن هو لم يفعل ذلك به هوَّن عليه الموت ليكافيه بتلك الحسنة"17.
وعنه عليه السلام أيضاً: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة عليها السلام لمَّا مات ابنها القاسم فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الله تعالى أحكَم وأكرم من أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثمّ يعذّبه بعدها أبداً"18.
6- أجر وثواب:
إذا ما عُرِّض ابن آدم للبلاء ولم يكن عقوبة له على معاصيه أو تمحيصاً له من ذنوبه أو تذكيراً له بربّه، أو لمصلحة له في الدنيا، هل يعوِّض له الله يوم القيامة بالأجر والثواب عمّا عاناه في الدنيا، أم إنّ الأجر والثواب لا يكون إلّا على الأفعال الاختيارية والعبادية؟
لو نظرنا إلى صفات الله وأسمائه الحسنى وغضضنا النظر عن الآيات والروايات، لجزمنا بهذا العطاء والتعويض يوم القيامة. فهو الجواد الكريم الرحيم المتفضِّل الّذي ابتدأنا بالنعم من دون طلب أو سؤال، الّذي لا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً. ومع هذا فقد صرَّحت روايات المعصومين عليهم السلام بهذه الحقيقة.
ففي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام : "يا عليّ أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل..."19.
وفي رواية: كتب رجل إلى الإمام الجواد عليه السلام يشكو إليه مصابه بولده وشدّة ما دخله، فكتب له عليه السلام : "أما علمت أنّ الله عزَّ وجلَّ يختار من مال المؤمن ومن ولده أنفسه ليأجره على ذلك؟"20.
فإن كنت مصاباً بهذا المصاب ودخلك ما دخل هذا الرجل، فأرِح نفسك وأسعدها بما ادَّخر الله لك من الثواب العظيم. وارجُ - ثقة منك بالله تعالى - لعزيزك وفقيدك أعظمَ أجرٍ، وأهنأ دارٍ ومقامٍ عند ربّك وفي جوار رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الميامين الأطهار، والله عندَ حسن ظنّ عبده المؤمن.
7- يحبّب لقاء الله:
البلاء في بعض الروايات يحبِّب لقاء الله تعالى؛ لأنّ الدنيا إن صفت للإنسان ولم تتكدّر عليه قد لا يحبّ مفارقتها أبداً فيبغض لقاء الله تعالى الّذي ينتزعه من أحضان من أحبَّ وعشِق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هبط جبريل عليه السلام في أحسن صورة فقال: يا محمّد: الحقّ يقرئك السلام ويقول لك: "إنّي أوحيت إلى الدنيا أن تمرّري وتكدّري وتضيّقي وتشدّدي على أوليائي حتّى يحبّوا لقائي، وتيسّري وتسهّلي وتطيّبي لأعدائي حتّى يبغضوا لقائي، فإنّي جعلت الدنيا سجناً لأوليائي وجنّة لأعدائي"21.
الخير ما اختاره لك
فبعد كلّ هذا نعرف أنّ المؤمن الّذي أحبه الله تعالى بل هو أحبُّ خلقه إليه قد تكفَّل ربّه أن يتولّى أمره ويدبّر شؤونه. ومن كان الله وليّه ووكيله فلا يمكن أن يختار له إلّا ما هو خير له.
فلا تغترّ بالنعمة فتظنّها خيراً لك، ولا تيأس من المصيبة والبلاء فتظنّه شرّاً لك، وضَعْ أمرك عندالله تعالى وتوكّل عليه، ولن يختار لك إلّا ما هو خير لك ولصالحك في الدنيا والآخرة أو في الآخرة، والآخرة خير وأبقى وهي همّك ومبتغاك.
البلاءات مِنَح الله
إعلم أنّ البلاء - إن كنت مؤمناً صالحاً - لا أنّه يستوجب الصبر فقط، بل هو نعمة لا بدّ أن تحمد الله عليها وتشكره.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تكون مؤمناً حتّى تعدّ البلاء نعمة والرخاء محنة؛ لأنّ بلاء الدنيا نعمة في الآخرة ورخاء الدنيا محنة في الآخرة"22.
ومن هنا تعرف سرّ الروايات الّتي تذكر أنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه.
بل في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: "إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتَّه بالبلاء غتّاً، وإنّا وإيّاكم لنصبح به ونمسي"23.
فالبلاء خير لك ولصالحك ومنحة وهديّة من الله تعالى. البلاء حبّ وعناية ولطف وكرم منه تعالى؛ وهل يرفض عاقل مؤمن عطايا الله تعالى؟! وهل من الإنصاف المرور على هذه النعمة واللطف الإلهيّ من دون عظيم الحمد والشكر؟!.
هذه بعض أسرار البلاء ووجوه المصائب الّتي تُصَبُّ على المؤمن.
آخر الدواء الصبر
فإن كانت نفسك مع كلّ هذا لا ترى - بعين اليقين - الرحمةَ والخيرَ والصلاح في بواطن المصائب والبلاءات حتّى تحبّ ما أحبّ الله لك، إذاً: لا بدّ أن تعلم أنّ الإنسان ما لم يتجاوز المحن والامتحانات الإلهيّة بالصبر وعدم الجزعِ والشكوى والتأففِ لن يكتب له النجاة يوم القيامة، ولن يكون من أهل الجنّة والرضوان، والباقياتِ الصالحات، بل هو ممَّن أخلد إلى الأرض ومتاع الدنيا وغرورها، وناله من نصيبها ما ناله، وحُرِم بل حَرَم نفسه من نعيم الآخرة وسرورها، وما ربّك بظلّام للعبيد.
بالصبر يفوز ابن آدم ولن يحرمه ربّه منه. ومن استزاده زاده الله وثبّته ولو كانت النوائب والمصائب لا تتحمّلها الجبال الّتي ترسي دعائمها الأرض وما فيها.
ويكفي لمن أراد أن يستمدّ الصبر من الله تعالى أن يتفكّر في بشارة الصابرين من أصدق القائلين في كتابه الكريم:﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾24.
مصابهم عليهم السلام يهوِّن كلّ مُصاب
فليذكر المؤمن المحبّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصابه به كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام لعمر بي سعيد الثقفيّ: "إن أُصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك فاذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قطّ"25.
وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "من عظمت عنده مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها ستَهُون عليه"26.
فليذكر المؤمن مصيبته بالإمام عليّ عليه السلام ، والسيّدة الزهراء عليها السلام ، والإمام الحسن عليه السلام ، وما جرى في كربلاء مع ريحانة رسول الله وأهل بيته وأصحابه. فليذكر مصابه بالعترة الطاهرة من ولد الإمام الحسين عليه السلام لا سيّما مصيبته بغيبة إمام زمانه عجل الله فرجه الشريف وتألّمه وحزنه على شيعته والجور عليهم، وعلى انتشار الشرك والإلحاد ومحاربة الدين والمذهب، والترويج للفساد والبدع، فإنّ كلّ هذا يهوّن عليه ويخفّف عنه مصابه وما ألمَّ به.
البكاء على الميت
قد يسأل سائل: هل يتنافى البكاء مع الصبر؟ وهل هو من علامات الجزع الّذي يتنافى وحقيقة الإيمان والتسليم لله تعالى أم لا؟
إنّ البكاء الّذي لا يخرج عن حدّ الاعتدال خلقه الله تعالى منحة منه لعبده ليريحه ويسكّن ألمه؛ ولذلك لا يمكن أن ينهى الله تعالى عنه ويُحرِّمه على عبده ما لم يفرط فيه ويوصله إلى الجزع الّذي ينافي الصبر والتسليم لأمر الله تعالى وحُكمه وقضائه.
ولذلك قد ورد حصوله حتّى من رسول الله لمّا مات ابنه إبراهيم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : "حَزِنَّا عليك يا إبراهيم، وإنّا لصابرون. يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الربّ"27.
وهذا هو المهمّ الّذي لا ينبغي - مهما عظم المصاب - أن يغفل عنه الإنسان المؤمن، أي أن يصبر ولا يقول ما يسخط الربّ لا بلسانه ولا بجنانه وقلبه، فضلاً عن أفعاله وتصرّفاته.
وفي بعض الروايات عن منصور الصيقل قال: "شكوت إلى الصادق عليه السلام حزناً على ابن لي مات، حتّى خِفْتُ على عقلي، فقال عليه السلام : إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك فإنّه يسكن عنك"28.
إذاً ليس النهي عن أصل البكاء، بل البكاء الّذي يُفقِد
الإنسان صبره، أو الّذي يظهر صاحبه بمظهر الجازع الشاكي غير الراضي بقضاء الله. ولذلك ورد النهي في رواياتهم عليه السلام عن لطم الوجه والصدر وشقّ الثوب. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله جابر بن يزيد الجعفيّ عن الجزع، فقال عليه السلام : "أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر..."29.
وفي رواية عن عمرو بن أبي المقدام قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "تدرون ما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾؟ قلت: لا، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لفاطمة عليها السلام : إذا أنا مِتُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تنشري عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة، قال: ثمّ قال: هذا المعروف الّذي قال الله عزَّ وجلَّ"30.
وهذا يدلّ على أنّ من وظيفة الرجل أن يأمر أهله بالمعروف ويساعدهم على عدم الخروج عن طورهنّ بالصراخ والعويل ولطم الصدور... ولذلك يُروى أنّه لمّا ورد الإمام عليّ عليه السلام الكوفة قادماً من صفّين مرَّ بالشاميِّين فسمع بكاءً على قتلى صفّين، فقال عليه السلام لشرحبيل الشاميّ: "تغلبكم نساؤكم على ما أسمع؟ ألا تنهونهنّ عن هذا الرنين (أي الصياح والصراخ)؟"31.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾1.
الدنيا لا تكون دنيا إذا لم يكن فيها موت ومرض وفقر وخسارة وآلام وأحزان وفراق للأحبّة و... وإن كان أيضاً لجود الله وكرمه وحكمته، فيها حياة وصحّة وغنىً وربح ووصال ولذّة وسعادة وفرح وسرور... بل لا يمكن - بحسب عالم المادّة الّذي يحكم قوانين الدنيا - إلّا أن يكون فيها من الصنفين. فلا غنى إلّا بفقر، ولا ربح إلّا بخسارة، ولا مساكن وقصور فاخرة إلّا بعمّال فقراء يكدحون أكثر وقت يومهم بالعمل الشاقّ المضني، ولا زواج إلّا بفراق البنت لأهلها والولد لوالديه، ولا أولاد إلّا بجهدٍ وعناء وألم. والأمثلة على هذا من حياتنا فوق حدّ الإحصاء.
فليس في الدنيا خير مطلق وسعادة بلا شقاء، كذلك ليس فيها شرّ مطلق وشقاء بلا سعادة. وفي هذه الدار خلق الله تعالى الإنسان واقتضت حكمته أن يمتحنه ويختبره، أيشكر على النعم ويستعملها في الخير ورضا الله تعالى، أم يغرق في شهوات الدنيا ولذائذها ويسير خلف رغباته وميوله ولو كانت في سخط الله تعالى؟
وإن عرضت عليه مصيبة وبلاء هل يصبر ويستعين بالله تعالى حتّى يرفع عنه مصيبته ويخرجه من شدّته، أم يكفر ويتّهم الله في عدله ورحمته ويطغى على سيّده ومولاه؟.
وبعبارة أخرى هل يختار الدنيا على الآخرة والعاجلة على الآجلة ومتاعاً فانياً على سعادة باقية؟ أم يختار جنان الله خالداً فيها وعطاءً غير مجذوذ ونعمة لا تزول؟
إذاً: المهمّ هو كيف نتعاطى مع المصيبة والبلاء؟ وكيف نتصرّف عند الفتنة والاختبار؟ ولا ينبغي أن نتوقّع في هذه الدار أن نبقى فيها ونخلد، وأن تُرفع عنّا كلّ مِحَنها ومصائبها. فهذا لن يكون في الدنيا أبداً.
يُروى عن الإمام الصادق عليه السلام : "أنّ قوماً فيما مضى قالوا لنبيّ لهم ادعُ لنا ربّك يرفع عنّا الموت، فدعا لهم فرُفِع عنهم بدعوة نبيّهم. ثمّ كثروا حتّى ضاقت عليهم المنازل وكثر النسل، وأصبح الرجل يطعم أباه وجدّه وجدّ جدّه وهكذا من طرف أمّه ثمّ يوضبهم ويتعاهدهم في كلّ شؤونهم
وحوائجهم حتّى شغلوا عن طلب المعاش. فقالوا لنبيّهم بعد ذلك سل لنا ربّك أن يردّنا إلى حالنا الّتي كنّا فيها"2.
وإن أردت داراً لا شقاء فيها ولاتعب ولا نصب، ولا حزن ولا ألم، ولا خسارة ولا موت فقد وعد الله تعالى بها الّذين آمنوا وعملوا الصالحات واجتازوا الاختبار وامتازوا عن الأشرار.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾3.
وقال تعالى: ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾4.
وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾5.
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"6.
أنت أحبّ الخلق لله
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال فيما أوحى الله تعالى لموسى بن عمران عليه السلام : "يا موسى ما خلقت خلقاً أحبَّ إليّ من عبدي المؤمن، وإنّما أبتليه لما هو خير له وأزوي عنه لما هو خير له، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي، فليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي، وليرضَ بقضائي أكتبه في الصدّيقين عندي إذا عمل برضائي وأطاع أمري"7.
فالله يحبّ عبده المؤمن، بل لم يخلق أحداً أحبّ إليه منه فإذا ما ابتلاه - والبلاء حتم لا بدّ منه في الحياة الدنيا - فلا يبتليه إلّا بما هو خير وصلاح له، ولا يزوي عنه ما يحبّه ويريده إلّا لصلاح دينه أو دنياه بدفعه عنه وحرمانه منه. فإذا عرف العبد أنّ الله لم يبتلِه إلّا لما هو خير له وصلاحه يسهل عليه الصبر حينئذٍ، بل يستوجب ذلك منه الشكر والرضا. وهذه هي الغاية من خلق الإنسان في الدنيا.
أسرار البلاء وأسبابه
إنَّ معرفة أسرار وأسباب البلاء تسهِّل على المؤمن الصبر وتقوّي العزيمة لديه. ولهذه الغاية نذكر خلاصة هذه الوجوه مع ذكر بعض الروايات، ثمّ نذكر بعد هذا فوائد الصبر وثوابه عند الله تعالى وما ذُكِر فيه عن طريق رسول الله وأهل بيته عليهم السلام.
1- البلاء عقوبة:
عندما يعرض لك بلاء ومصيبة تَفكَّر في أنّه قد تكون أنت السبب فيكون هذا البلاء عقاباً لك على بعض المعاصي الّتي اقترفتها. قال تعالى:﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾8.
ومع هذا فالله تعالى يعفو عن كثير ولا يأخذنا بكلّ ذنوبنا لكرمه وجوده ورحمته. قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾9.
2- امتحان وابتلاء:
إنّ الهدف من خلق الإنسان في الحياة الدنيا هو الامتحان والاختبار، وهذا لا يتمّ إلّا بالبلاء والفتنة ليميز الله المؤمن من
الكافر والصابر من الجازع والخبيث من الطيّب، ليلتحق كلٌّ بالعالم الّذي يناسبه. قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾10.
3- لعلّه خير:
لا بدّ أن تعلم أنّه ليس كلّ بلاء في الدنيا هو شرّ ونقمة عليك، بل قد يكون خيراً لك ولكن لعدم إحاطتك بكّل شيء لا سيّما في مستقبل الأمور قد تظنّ أنّه شرّ لك وفي الواقع هو خير. قال تعالى:﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ﴾11 ، لا سيّما إن كنت متوكّلاً في كلّ أمورك وشؤونك على الله، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾12.
4- إيقاظ وتنبيه:
لعلّ الله تعالى وجدك غافلاً عن آخرتك وغارقاً في الدنيا وملهياتها، فأراد لحبّه لك أن يوقظك من غفلتك ويذكّرك به تعالى، كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "إذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد شرّاً فأذنب ذنباً تبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى به..."13.
ونسيان ذكر الله والإخلاد للدنيا أعظم بلاء على ابن آدم، لأنّه يوجب حرمان الجنّة وحرمان رضوان الله وجوار رسوله وأهل بيته عليهم السلام. ولذلك روي عن الإمام عليّ عليه السلام : "ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له"14 أي الإهمال والاستدراج للمعصية.
5- تطهير من الذنب:
لعلّ الله تعالى ابتلاك ليعاقبك على ما اقترفت في الدنيا. ولحبّه تعالى لك يريد أن يطهّرك قبل رحيلك من الذنوب الّتي لا تستطيع تحمّل عقابها في الآخرة مهما قلَّ وقصرت مدّته.
ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال ليونس: "يا يونس إنّ المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يمرّ عليه أربعون يوماً لا يمحّص فيها من ذنوبه ولو بغمّ يصيبه لا يدري ما وجهه... فيكون ذلك حطّاً لبعض ذنوبه"15.
وفي رواية أخرى عنه عليه السلام : "صداع ليلة يحطّ كلّ خطيئة إلّا الكبائر"16.
وعن الامام الباقر عليه السلام "إنّ الله عزَّ وجلَّ إذا كان من أمره أن يكرم عبداً وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك له ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل به ذلك شدَّد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب، قال: وإذا كان من أمره أن يهين عبداً وله عنده حسنة
صحّح بدنه، فإن لم يفعل به ذلك وسّع عليه في رزقه، فإن هو لم يفعل ذلك به هوَّن عليه الموت ليكافيه بتلك الحسنة"17.
وعنه عليه السلام أيضاً: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة عليها السلام لمَّا مات ابنها القاسم فقال صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الله تعالى أحكَم وأكرم من أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثمّ يعذّبه بعدها أبداً"18.
6- أجر وثواب:
إذا ما عُرِّض ابن آدم للبلاء ولم يكن عقوبة له على معاصيه أو تمحيصاً له من ذنوبه أو تذكيراً له بربّه، أو لمصلحة له في الدنيا، هل يعوِّض له الله يوم القيامة بالأجر والثواب عمّا عاناه في الدنيا، أم إنّ الأجر والثواب لا يكون إلّا على الأفعال الاختيارية والعبادية؟
لو نظرنا إلى صفات الله وأسمائه الحسنى وغضضنا النظر عن الآيات والروايات، لجزمنا بهذا العطاء والتعويض يوم القيامة. فهو الجواد الكريم الرحيم المتفضِّل الّذي ابتدأنا بالنعم من دون طلب أو سؤال، الّذي لا تزيده كثرة العطاء إلّا جوداً وكرماً. ومع هذا فقد صرَّحت روايات المعصومين عليهم السلام بهذه الحقيقة.
ففي وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم للإمام عليّ عليه السلام : "يا عليّ أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل..."19.
وفي رواية: كتب رجل إلى الإمام الجواد عليه السلام يشكو إليه مصابه بولده وشدّة ما دخله، فكتب له عليه السلام : "أما علمت أنّ الله عزَّ وجلَّ يختار من مال المؤمن ومن ولده أنفسه ليأجره على ذلك؟"20.
فإن كنت مصاباً بهذا المصاب ودخلك ما دخل هذا الرجل، فأرِح نفسك وأسعدها بما ادَّخر الله لك من الثواب العظيم. وارجُ - ثقة منك بالله تعالى - لعزيزك وفقيدك أعظمَ أجرٍ، وأهنأ دارٍ ومقامٍ عند ربّك وفي جوار رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الميامين الأطهار، والله عندَ حسن ظنّ عبده المؤمن.
7- يحبّب لقاء الله:
البلاء في بعض الروايات يحبِّب لقاء الله تعالى؛ لأنّ الدنيا إن صفت للإنسان ولم تتكدّر عليه قد لا يحبّ مفارقتها أبداً فيبغض لقاء الله تعالى الّذي ينتزعه من أحضان من أحبَّ وعشِق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هبط جبريل عليه السلام في أحسن صورة فقال: يا محمّد: الحقّ يقرئك السلام ويقول لك: "إنّي أوحيت إلى الدنيا أن تمرّري وتكدّري وتضيّقي وتشدّدي على أوليائي حتّى يحبّوا لقائي، وتيسّري وتسهّلي وتطيّبي لأعدائي حتّى يبغضوا لقائي، فإنّي جعلت الدنيا سجناً لأوليائي وجنّة لأعدائي"21.
الخير ما اختاره لك
فبعد كلّ هذا نعرف أنّ المؤمن الّذي أحبه الله تعالى بل هو أحبُّ خلقه إليه قد تكفَّل ربّه أن يتولّى أمره ويدبّر شؤونه. ومن كان الله وليّه ووكيله فلا يمكن أن يختار له إلّا ما هو خير له.
فلا تغترّ بالنعمة فتظنّها خيراً لك، ولا تيأس من المصيبة والبلاء فتظنّه شرّاً لك، وضَعْ أمرك عندالله تعالى وتوكّل عليه، ولن يختار لك إلّا ما هو خير لك ولصالحك في الدنيا والآخرة أو في الآخرة، والآخرة خير وأبقى وهي همّك ومبتغاك.
البلاءات مِنَح الله
إعلم أنّ البلاء - إن كنت مؤمناً صالحاً - لا أنّه يستوجب الصبر فقط، بل هو نعمة لا بدّ أن تحمد الله عليها وتشكره.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "لا تكون مؤمناً حتّى تعدّ البلاء نعمة والرخاء محنة؛ لأنّ بلاء الدنيا نعمة في الآخرة ورخاء الدنيا محنة في الآخرة"22.
ومن هنا تعرف سرّ الروايات الّتي تذكر أنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه.
بل في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام لأحد أصحابه: "إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتَّه بالبلاء غتّاً، وإنّا وإيّاكم لنصبح به ونمسي"23.
فالبلاء خير لك ولصالحك ومنحة وهديّة من الله تعالى. البلاء حبّ وعناية ولطف وكرم منه تعالى؛ وهل يرفض عاقل مؤمن عطايا الله تعالى؟! وهل من الإنصاف المرور على هذه النعمة واللطف الإلهيّ من دون عظيم الحمد والشكر؟!.
هذه بعض أسرار البلاء ووجوه المصائب الّتي تُصَبُّ على المؤمن.
آخر الدواء الصبر
فإن كانت نفسك مع كلّ هذا لا ترى - بعين اليقين - الرحمةَ والخيرَ والصلاح في بواطن المصائب والبلاءات حتّى تحبّ ما أحبّ الله لك، إذاً: لا بدّ أن تعلم أنّ الإنسان ما لم يتجاوز المحن والامتحانات الإلهيّة بالصبر وعدم الجزعِ والشكوى والتأففِ لن يكتب له النجاة يوم القيامة، ولن يكون من أهل الجنّة والرضوان، والباقياتِ الصالحات، بل هو ممَّن أخلد إلى الأرض ومتاع الدنيا وغرورها، وناله من نصيبها ما ناله، وحُرِم بل حَرَم نفسه من نعيم الآخرة وسرورها، وما ربّك بظلّام للعبيد.
بالصبر يفوز ابن آدم ولن يحرمه ربّه منه. ومن استزاده زاده الله وثبّته ولو كانت النوائب والمصائب لا تتحمّلها الجبال الّتي ترسي دعائمها الأرض وما فيها.
ويكفي لمن أراد أن يستمدّ الصبر من الله تعالى أن يتفكّر في بشارة الصابرين من أصدق القائلين في كتابه الكريم:﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾24.
مصابهم عليهم السلام يهوِّن كلّ مُصاب
فليذكر المؤمن المحبّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصابه به كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام لعمر بي سعيد الثقفيّ: "إن أُصبت بمصيبة في نفسك أو في مالك أو في ولدك فاذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ الخلائق لم يصابوا بمثله قطّ"25.
وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : "من عظمت عنده مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها ستَهُون عليه"26.
فليذكر المؤمن مصيبته بالإمام عليّ عليه السلام ، والسيّدة الزهراء عليها السلام ، والإمام الحسن عليه السلام ، وما جرى في كربلاء مع ريحانة رسول الله وأهل بيته وأصحابه. فليذكر مصابه بالعترة الطاهرة من ولد الإمام الحسين عليه السلام لا سيّما مصيبته بغيبة إمام زمانه عجل الله فرجه الشريف وتألّمه وحزنه على شيعته والجور عليهم، وعلى انتشار الشرك والإلحاد ومحاربة الدين والمذهب، والترويج للفساد والبدع، فإنّ كلّ هذا يهوّن عليه ويخفّف عنه مصابه وما ألمَّ به.
البكاء على الميت
قد يسأل سائل: هل يتنافى البكاء مع الصبر؟ وهل هو من علامات الجزع الّذي يتنافى وحقيقة الإيمان والتسليم لله تعالى أم لا؟
إنّ البكاء الّذي لا يخرج عن حدّ الاعتدال خلقه الله تعالى منحة منه لعبده ليريحه ويسكّن ألمه؛ ولذلك لا يمكن أن ينهى الله تعالى عنه ويُحرِّمه على عبده ما لم يفرط فيه ويوصله إلى الجزع الّذي ينافي الصبر والتسليم لأمر الله تعالى وحُكمه وقضائه.
ولذلك قد ورد حصوله حتّى من رسول الله لمّا مات ابنه إبراهيم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم : "حَزِنَّا عليك يا إبراهيم، وإنّا لصابرون. يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الربّ"27.
وهذا هو المهمّ الّذي لا ينبغي - مهما عظم المصاب - أن يغفل عنه الإنسان المؤمن، أي أن يصبر ولا يقول ما يسخط الربّ لا بلسانه ولا بجنانه وقلبه، فضلاً عن أفعاله وتصرّفاته.
وفي بعض الروايات عن منصور الصيقل قال: "شكوت إلى الصادق عليه السلام حزناً على ابن لي مات، حتّى خِفْتُ على عقلي، فقال عليه السلام : إذا أصابك من هذا شيء فأفض من دموعك فإنّه يسكن عنك"28.
إذاً ليس النهي عن أصل البكاء، بل البكاء الّذي يُفقِد
الإنسان صبره، أو الّذي يظهر صاحبه بمظهر الجازع الشاكي غير الراضي بقضاء الله. ولذلك ورد النهي في رواياتهم عليه السلام عن لطم الوجه والصدر وشقّ الثوب. وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله جابر بن يزيد الجعفيّ عن الجزع، فقال عليه السلام : "أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر..."29.
وفي رواية عن عمرو بن أبي المقدام قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "تدرون ما قوله تعالى: ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾؟ قلت: لا، قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لفاطمة عليها السلام : إذا أنا مِتُّ فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تنشري عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليَّ نائحة، قال: ثمّ قال: هذا المعروف الّذي قال الله عزَّ وجلَّ"30.
وهذا يدلّ على أنّ من وظيفة الرجل أن يأمر أهله بالمعروف ويساعدهم على عدم الخروج عن طورهنّ بالصراخ والعويل ولطم الصدور... ولذلك يُروى أنّه لمّا ورد الإمام عليّ عليه السلام الكوفة قادماً من صفّين مرَّ بالشاميِّين فسمع بكاءً على قتلى صفّين، فقال عليه السلام لشرحبيل الشاميّ: "تغلبكم نساؤكم على ما أسمع؟ ألا تنهونهنّ عن هذا الرنين (أي الصياح والصراخ)؟"31.
ومن هنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ المؤمن الواعي لا بدّ أن يلتفت لدقائق الأمور حتّى في عظيم المصائب، وليتأدّب بهذا الأدب وليؤدّب أهل بيته بهذا. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾32.
--------------------
هوامش
1-البقرة:155- 157.
2-الكافي، ج3، ص260.
3-الحجر:45-48.
4-الزخرف:71.
5-فاطر: 34-35.
6-الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 281.
7-الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص62.
8-آل عمران:165.
9-الشورى:30.
10-آل عمران:142.
11-البقرة:216.
12-الطلاق:3.
13-بحار الأنوار، ج70، ص 387.
14-نهج البلاغة، ج4، ص28.
15-مستدرك الوسائل، ج2،ص60.
16-ثواب الأعمال، 193.
17-الكافي، ج2، ص444.
18-م. ن، ج3، ص318.
19-الوسائل، ج2، ص400.
20-الكافي، ج3، ص218.
21-البحار، ج78، ص194.
22-البحار، ج64، ص237.
23-الكافي، ج2، ص253.
24-البقرة:155-157.
25-الكافي، ج3، ص220.
26-م.ن.
27-الوسائل، ج3، ص280.
28-الكافي، ج3، ص250.
29-الكافي، ج3، ص 222.
30-م. ن، ج5، ص 527.
31-نهج البلاغة، ج4، ص 77.
32-التحريم:6.
--------------------
هوامش
1-البقرة:155- 157.
2-الكافي، ج3، ص260.
3-الحجر:45-48.
4-الزخرف:71.
5-فاطر: 34-35.
6-الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 281.
7-الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص62.
8-آل عمران:165.
9-الشورى:30.
10-آل عمران:142.
11-البقرة:216.
12-الطلاق:3.
13-بحار الأنوار، ج70، ص 387.
14-نهج البلاغة، ج4، ص28.
15-مستدرك الوسائل، ج2،ص60.
16-ثواب الأعمال، 193.
17-الكافي، ج2، ص444.
18-م. ن، ج3، ص318.
19-الوسائل، ج2، ص400.
20-الكافي، ج3، ص218.
21-البحار، ج78، ص194.
22-البحار، ج64، ص237.
23-الكافي، ج2، ص253.
24-البقرة:155-157.
25-الكافي، ج3، ص220.
26-م.ن.
27-الوسائل، ج3، ص280.
28-الكافي، ج3، ص250.
29-الكافي، ج3، ص 222.
30-م. ن، ج5، ص 527.
31-نهج البلاغة، ج4، ص 77.
32-التحريم:6.