بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
علم الائمةع بآجالهم بين التهلكة والشهادة
مقدمة
من المعلوم لدى المتتبع والباحث يجد ان فرعيات اصول العثائد كثيرة جدا تكاد لا تحصى لكثرة انبراء النمو من التفكر والتعقل في كل مسألة على المستوى العقائدي فضلا عن غيره وهذا النمط من الاتساع يكشف لنا مدى عمق المهمة التي خلق من اجلها الانسان الا وهي كشف الواقع لبلوغ الكمال في المعرفة التي اهمها المعرفة اليقينية ,لكن انكشاف الواقعيات مرهون في حوزة البرهان القياسي او الاستقرائي المعلل ,ونحن نعلم انه كلما اتسعت دائرة المعارف على اي مستوى كانت تنضوي تحتها الكثير من الاشكالات او العقبات التي لا بد من زوالها ,لبروز النتائج المولدة للعلم ,وبالنتيجة يطمئن الانسان بان ماكان عقبة في طريق استدلاله قد كان اوهن من بيت العنكبوت ويشكل عليه اي خطر ,ومن هذه الفرعيات التي تتفرع على اصل الامامة هو ان يكون الامام اعلم اهل زمانه حيث لايعلوه احد في ملكة العلم فضلا عن سائر الفضائل ,او حتى يدنوه احد , وهل يعلم الامام الغيب واذا كان كذلم فهل الغيب المطلق او لا ,وهل علمه فعلي او متى ماشاء ان يعلم علم ,وفي الحقيقة نحن لسنا بصدد الاجابة عن هذه الاسئلة بل ناخذها كاصل مسلم مع قطع النظرعن كونها مسلمة في محلها ,لكن كانت الغاية من هذه المقدمة هي الكشف عن مدا جريان العقل البشري في التتبع عن كل ماورد في المنضومة الدينية بشتى انواع علومها سواء اصول او فروع ,سوف نسلط الضوء على اشكال ورد على علم الامام من حيث لو سلمنا انه يعلم الغيب فان الامام هل له ان يعلم اجله المحتوم وهذا اول الكلام في هذه الاشكالية ثم ينبري السؤال الثاني او الاشكال الثاني وهو اذا كان الامام يعلم ان مافي الكوز سم مثلاً فلماذا يقبل على تجرع السم ويموت بذلك ؟,ووجوب دفع الضرر واجب عقلي مسلم ! اذا يتمركز البحث عن الاجابة عن هذين السؤالين :الاول : هل الامام ع يعلم اجله ؟
الثاني : لماذا يقبل الامام ع على الضرر لو كان يعلم ذلك, ولزوم دفع الضررواجب عقلي ؟
هل الامام يعلم اجله ام لا ؟
تناثرت كلمات الاعلام من الامامية بين مؤيد ومفصَّل بين ذلك ,حيث ذهب الشيخ الكليني انهم عليهم السلام يعلمون اجالهم وعقد بابا لذلك تحت (ان الائمة ع يعلمون متى يموتون وانهم لا يموتون الاباختيار منهم) .
ومن تلك الروايات ماورد عن مولانا الصادق ع )):حمد بن يحيى ,عن احمد بن محمد عن ابن فضال عن ابي جميلة ,عن عبد الله بن ابي جعفر قال : حدثني اخي ,عن جعفر عن ابيه انه اتى علي بن الحسين ع ليلة قبض فيها بشراب فقال : ياابت اشرب هذا .فقال : يابني ان هذه الليلة التي اقبض فيها وهي الليلة التي قبض فيها رسول الله ص ))
ولا يسعنا في هذا البحث ان نستعرض جميع روايات هذا الباب تاركينها للقارى الكريم مطالعته اياها ,واكتفينا بذكر انموذج منها .
ينبري شخنا المفيد قدس سره الشريف لهذه المسالة التي تعرض لها في كتابه ((المسائل العكبرية)) المسالة العشرون وهو يجيب الليث بن سراج ,وما مضمون كلامه رضوان الله تعالى عليه انه يعترض على كون علمهم بكل شيء ,فلو ادعينا ان علمهم تفصيلي للزم الاشكال المذكور انفاً ,لكنا لا نسلم انهم عليهم السلام يعلمون تفصيلا فهم يعلمون سائر الاحكام وسائر ما يُسالون عنه اما تفاصيل كل شيء لم يرد به نص ابدا ,وما ادعي من ان امير المؤمنين يعلم يوم استشهاده وكذا بقية الائمة ع انما علموه على وجه الاجمال من كون الساعة والزمان والمكان ,وبعبارة انهم عليهم السلام لا يعلمون بالاعيان ,وكذا هو راي السيد المرتضى رح
اود التنبيه على مسالة مهمة في هذا المضمار ان العلم الشيخ المفيد رحمه الله لم ينفي علمهم المطلق العيني بل جعله في محض الامكان ولم يجعله من الامور المستحيلة لكن كل ماهناك كان دفعا لتوهم انهم القوا بانفسهم في التهلكة فكان الجوابه رحمه الله تعالى هو عدم التسليم بالاشكال الوارد ,وانما يرد لو سلمنا انهم يعلمون اعيان الاشياء.
مع الشيخ الطوسي رحمه الله
ممن توجه الى هذا الاشكال ايضا الشيخ الطوسي رحمه الله واجاب عنه بذكر اقوال من الاعلام :
منها : تعبدا في الصبر
ومنها :انهم لا يجوز عليهم ذلك للزوم ـ اي علمهم باجلهم ـ دفع الضرر العقلي وتأوّل ماورد على امير المؤمنين ع على سبيل الاجمال وهو قول المرتضى ...الى ان قال ولي فيه نظر .
اقول :الذي يستفاد من كلامه رحمه الله ((لي فيه نظر)) انه يذهب الى القول بالتفصيل.
وممن ذهب الى الاجمال توخي الاشكال المرفوع الشيخ ابو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب بن ابي النصر ,وخلاصة كلامه :انهم لا يعلمون الغيب دون علوم الدين فانه يجب ان يعلمونها ,واما سائر الاحداث فانه يكون اجمالا .
ومن قال : بالتفصيل ايضا العلامه الحلي وجملة قوله رحمه الله مجملا: ان تكليفهم يختلف عن تكليفنا ,وان يكلفوا مهجتهم في سبيل الله تعالى .
اقول :قد عرفت انه هذه الاشكالية مطروحة لدى علماءنا القدامى بل في زمن الائمة ع كما هو الظاهر من جملة من الروايات ,وقد عرفت مما اسلفنا بين من قال :انهم يعلمون ماكان ومايكون ,وبين من يجيز ذلك فقط العلم بدائرة الاحكام ,واما ماورد عنهم عليهم السلام يعلمون موتهم واجلهم فهو على سبيل الاجمال ,فالامر مختلف فيه.
وجاء الان دور البحث في المسالة الثانية من هذا البحث والسؤال الذي سالناه في طليعة البحث وهو ((لماذا يقبل الامام ع على الضرر لو كان يعلم ذلك, ولزوم دفع الضررواجب عقلي)) ؟
هذا السؤال على فرض انهم ع يعلمون اجلهم الذي جعله فريق من الامامية تحت عنوان (انهم يعلمون ماكان وما يكون) قبل الاجابة اود الاشارة الى امر قد يكون بغاية الاهمية ,وهو ان من سلم انهم يعلمون على التفصيل قال بعلمهم المطلق ,وهو قول لا يدّعى معه انهم يعلمون على سبيل الاستقلال بل من ذهب الى هذا الراي يسلم انهم لا يعلمون الغيب المطلق ,واما الفريق الذي توخى الاشكال ايضا لا يدعي انهم لا يعلمون كل شيء ما عدا الاحكام بل لا يعلمون تفصيلا ماهو قد يعد قبيحا ما لو اقبل عليه الامام ومنه علمهم عليهم السلام بآجالهم لو عدة ذلك الاقبال قبيحا عقلا وشرعاً .
الجواب على السؤال الثاني :
اولا : انهم عليهم السلام لديهم تكليفا خاصا كما افاده العلامة الحلي رحمه الله تعالى
الثاني : انه على فرض الاقدام على اجلهم ,فانه لايترك لهم الاختيار بين البقاء وبين الموت ,وهذا الامر قد يحتاج نوع من التوضيح نامل من الله تعالى ان يوفقنا في مجال اخر للوقوف عليه مفصلا انما الذي نقوله على عجالة ان الامام من سماته لا يهرم ولا يموت ابدا ,والله تعالى يخيرهم بين الموت وبين البقاء فهم يختارون الاجال سواء بالسيف او السم لما فيه من لقاء المحبوب وجزاء الامامة التي لا يدانيها حتى مقام النبوة .
الثالث : ان الاقدام يكون قبيحا مالو هو اقبل على القبيح دون ما يقع عليه ,ومن المعلوم ان الاجل هو الذي ياتي للانسان بشكل او باخر فيدركم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ,وهو ليس بقبيح لان فعل القبيح يكون من فعل الفاعل لا على من وقع عليه الفعل .
الرابع :وهو المهم انَّا لم نحرر محل النزاع ,وهو هل ان الامام ع اقبل على مصيره المحتوم ام لا ,مع قطع النظر عن كونه ع عالما بذلك او لايعلم , فان كان الاول فهو مما لابد منه ,ولو كان الثاني لكان قبيحا عقلا وشرعا ,وهذا مما لابد ان يعلم في المقام وسوف تعرف عما سوف ننقله من كلام العلامة صاحب الميزان لما له اهمية في تحرير محل النزاع بل الاجابة عن هذه الاشكالية ,وقبل ان ننقل كلام العلامة رحمه الله تعالى اود التنبيه ان الكلام الذي سوف ننقله عن العلامة لم يكن بصدد التعرض لهذه الاشكالية من الرغم انه تعرض اليها في الميزان ,وانما سوف نذكر كلام له غاية في الاهمية في كتابة الميزان ونستشفي مرادنا عن السؤال الثاني الذي نحن بصدده .
نقل العلامة في الميزان في تفسير القران تحت عنوان معنى الاجل مستعرضا قوله تعالى ((هو الذي خلقكم من طين ثم قضى اجلا واجل مسمى عنده ثم انتم تمترون))[1]... قال فتبين بذلك أن الأجل أجلان: الأجل على إبهامه، و الأجل المسمى عند الله تعالى و هذا هو الذي لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله "عنده" و قد قال تعالى: "و ما عند الله باق": النحل: - 96 و هو الأجل المحتوم الذي لا يتغير و لا يتبدل قال تعالى: "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.
و التدبر في الآيات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: "لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب": الرعد: 39 يفيد أن الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب، و غير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو و الإثبات، و سيأتي إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب العامة التي لا تتخلف عن تأثيرها، و لوح المحو و الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تاثيرها و اعتبر ما ذكر من أمر السبب التام و الناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات و تطلع علينا الشمس فتضيء وجه الأرض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمر أو أي مانع آخر فتمنع من الإضاءة، و أما إذا كانت الشمس فوق الأفق و لم يتحقق أي مانع مفروض بين الأرض و بينها فإنها تضيئ وجه الارض لا محالة
فطلوع الشمس وحده بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة لوح المحو و الإثبات، و طلوعها مع حلول وقته و عدم أي حائل مفروض بينها و بين الأرض بالنسبة إلى الإضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ.
فالتركيب الخاص الذي لبنية هذا الشخص الإنساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضي أن يعمر العمر الطبيعي الذي ربما حددوه بمائة أو بمائة و عشرين سنة و هذا هو المكتوب في لوح المحو و الإثبات مثلا غير أن لجميع أجزاء الكون ارتباطا و تأثيرا في الوجود الإنساني فربما تفاعلت الأسباب و الموانع التي لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأمد الطبيعي، و هو المسمى بالموت الاخترامي.
و بهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الأجل المسمى و غير المسمى جميعا، و أن الإبهام الذي بحسب الأجل غير المسمى لا ينافي التعين بحسب الأجل المسمى، و أن الأجل غير المسمى و المسمى ربما توافقا و ربما تخالفا و الواقع حينئذ هو الأجل المسمى البتة. ن هـ
والذي يعلم من كلامه رحمه الله ان الاجل المحتوم لا يتغير فهم ثابت في اللوح المحفوظ انما التهلكة التي نشهدها هي من سبيل الانتحار فانا نجد فرقا كبيرا بين من اراد اغراق نفسه في نهرٍ وبين من يعلم ان مصيره ان يغرق في نهرٍ جار على سبيل الاجل المحتوم , والله اعلم .
والحمد لله رب العالمين
معتذرا فيه عن خطا والنسيان والعصمة لاهلها
كتبه العماري
[1] الانعام ,الاية 2
تعليق