بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
كتب أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف رضوان الله عليه:«ألا وان لكل مأموم إماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوا لله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها زفرا ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا ولا حزت من أرضكم شبرا...».
يلعب البعد الشخصي أو الصفات الشخصية الواجبة التوفير أو التحقق في من يتصدى للقيادة السياسية للأمة دورًا أساسياً في نجاح القائد أو فشله وبالتالي إدخال الأمة أزمات مختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ومن هنا أكد الإسلام الحنيف على اوجبية اتصاف القائد السياسي بصفات ستتجلى للقارئ الكريم عند محاكاة النموذج الإسلامي الأكمل بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وهو أمير المؤمنين ويعسوب الدين الإمام بالتنصيب والاصطفاء الإلهي علي بن أبي طالب عليه السلام.
وما هذا التأكيد إلا لكون الحق أن القائد هو بذاته درس للشعب، ومنهاج للأجيال، ولذلك كان القائد متحملاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلمه منه، ان خيرا فخير وان شر فشرا.
والحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسكة بذلك القائد، ولهذا كان من سياسة أمير المؤمنين عليه السلام بناء حياته الشخصية على الإيمان والزهد.
لا... للدنيا وما فيها:
ما كان أهون عند علي بن أبي طالب عليه السلام من الدنيا وما فيها، فالمال والحكم والسلطة والفرش واللبس والقصور والأكل والشرب.. كلها عند علي عليه السلام لا شيء إلا بمقدار الحاجة الضرورية..
ولعل أعمق مثال للدنيا في منظار أمير المؤمنين عليه السلام ما أفصح عنه في كلمته الخالدة:
«والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم»
يا لها من كلمة عظيمة..
عراق في يد مجذوم، الخنزير لا يرغب فيه فكيف بعروقه.
والمجذوم لا يرغب فيما بيده ولو كانت الدنيا برمتها لأن الدنيا برمتها لا تعادل عدوى الجذام الأكيد فكيف بعرق خنزير وفي يد مجذوم من يرغب في مثل ذلك.
لم يضع لبنة على لبنة:
أخرج العلامة المجلسي رحمة الله في بحار الأنوار عن المناقب رواية عن الإمام محمد الباقر عليه السلام انه قال: «ولقد ولي علي عليه السلام خمس سنين فما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعة ولا أورث بيضة ولا حمراء».
ما وضع آجر على آجر يعني: ما بنى بيتاً من آجر مطبوخ.
ولا لبنة على لبنة يعني: ما بنى بيتاً من اللبن غير المطبوخة.
ولا اقطع قطيعة يعني: لم يخص أرضاً وقطعة بنفسه.
ولا اورث بيضاء ولا حمراء يعني: ما ترك ارثاً لورثته ولا فضة ولا ذهباً.
لا اهاب كبش:
أخرج العلامة الجلسي في بحار الأنوار عن المناقب أيضاً عن مسند أحمد بن حنبل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يقول: «ما كان لنا إلا أهاب كبش أبيت مع فاطمة بالليل ونعلف عليها الناضح بالنهار».
يقتدي به المؤمنون:
وأخرج أيضاً: أنه رُئي على علي عليه السلام إزار غليظ اشتراه بخمسة دراهم ورئي عليه أزار مرقوع فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: «يقتدي به المؤمنون ويخشع له القلب وتذل به النفس ويقصد به المبالغ أشبه بشعار الصالحين واجدر ان يقتدي به المسلم».
تربية للنفس وتربية للمجتمع وقدوة وأسوة وتوحيد المظهر والمخبر «أشبه بشعار الصالحين».
كلها تتجسد في إزار غليظ يلبسه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، هذا هو العمق المعنوي والبعد الروحي ونكران الذات والتفاني في الله كلها مجتمعة في شخصية القائد الإسلامي.
خرق كمه:
وأخرج ايضاً: «ان علي بن أبي طالب عليه السلام نظر الى فقير انخرق كم ثوبه فخرق كم قميصه وألقاه».
لم يغير ثيابه:
أربع سنوات أو أكثر قضاها أمير المؤمنين عليه السلام بين الكوفة والبصرة وهو الرئيس الاعلى للبلاد الإسلامية الواسعة الاطراف.
خلال هذه المدة الطويلة لم يشتر من مال المسلمين ثياباً لنفسه ولم يأخذ من أموال البصرة والكوفة شيئاً لذلك.
بل ظل على ثياب المدينة هذه المدة الطويلة إلا إذا اشترى من عطائه الخاص كأضعف مستضعف من مسلم آخر في طول البلاد الإسلامية وعرضها.
فأقرأ النصوص التالية:
أخرج في البحار, عن المناقب, عن الأصبغ ابن نباتة قال: توجه علي عليه السلام إلى أهل البصرة وقال: «يا أهل البصرة ما تنقمون مني, ان هذا لمن غزل أهلي ـ وأشار إلى قميصه ـ».
وقال: «قال صلى الله عليه وآله: دخلت بلادكم بأشمالي هذه, رحلتي وراحلتي ها هي, فان أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت فانني من الخائنين».
وأخرج في البحار عن (كشف الغمة):
قال هارون بن عنترة حدثني أبي قال: «دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام بالخورنق ـ وهي موضع بالكوفة آنذاك والآن بظاهر الحيرة ـ وهو يرعد تحت سمل قطيفة ( أي: الثوب الخلق البالي).
فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال ما يعم وأنت تصنع بنفسك ما تصنع.
فقال صلى الله عليه وآله: «والله ما أرزأكم من أموالكم شيئاً وان هذا لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي من المدينة ما عندي غيرها».
هل في هذه البلاد, وفيها مثل هذه السياسة الشخصية القائد الأعلى يصل الحيف بأحد؟
هل يعرى أحد في ظل مثل هذا النظام؟
هل يجوع أحد هكذا؟
انه الإسلام العظيم
طعام أمير المؤمنين عليه السلام:
في الوقت الذي عمت الخيرات والمأكولات بلاد الإسلام بفضل الإسلام, وكان المسلمون وغير المسلمين يرفلون في نواعم الطيبات.
وكانت الكوفة ـ عاصمة أمير المؤمنين عليه السلام ـ لاتجد بها إلا الناعم من الناس.
أخرج المجلسي رحمه الله عن فضائل أحمد: قال علي عليه السلام: «ما أصبح بالكوفة أحداً إلا ناعماً ان أدناهم منزلة ليأكل البر, ويجلس في الظل ويشرب من ماء الفرات».
في مثل هذه الظروف تجد سيد الكوفة, وسيد البلاد الإسلامية, وزعيم الإسلام: أمير المؤنين عليه السلام لا يأكل ما يأكله أدنى الناس.
فانظر إلى النصوص التالية:
قال الإمام الباقر عليه السلام في الحديث: «كان علي بن أبي طالب ليطعم الناس خبز البر واللحم, وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير, والزيت والخل».
وعن سويد بن غفلة قال:
«دخلت على علي بن أبي طالب عليه السلام العصر, فوجدته جالساً بين يدي صحيفة فيها لبن حازر أجد ريحه من شدة حموضته, وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه, وهو يكسره بيده أحياناً, فإذا غلبه كسره بركبته وطرحه فيه.
فقال عليه السلام: ادن فأصب من طعامنا هذا.
إلى أن قال: فقلت لجاريته وهي قائمة بقريب منه: ويحك يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ؟
ألا تنخلون له طعاماً.
إلى قوله: قال علي عليه السلام لي: ما قلت لها؟
قال: فأخبرته.
فقال عليه السلام: بأبي وأمي من لم ينخل له الطعام, ولم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام حتى قبضه الله عزوجل».
يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.
لا يأكل اللحم في السنة إلا مرة:
كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لا يأكل اللحم في السنة الا مرة واحدة, في يوم عيد الأضحى وذلك لأن هذا اليوم هو اليوم الذي يأكل فيه كل المسلمين اللحم, من فور لحم الأضاحي..
فلكي يواسي إمام الأمة أضعف الأمة يأكل ذلك اليوم ـ فحسب ـ اللحم.
هذا في أيام خلافته الظاهرية التي مسؤولية الأمة برمتها عليه.
وقد نقل العلامة المجلسي (قدس سره) عن القطب الراوندي في (الخرائج)
قوله صلى الله عليه وآله:
«واعلم أن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه..
يسد فورة جوعه بقرصيه..
لايطعم الفلذة في حوله إلا في سنة اضحيته».
الإمام علي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لايهمه أهل المدينة فحسب الذين يجدون غالباً اللحم يأكلونه, ولا ينظر إلى الكوفة فقط التي تتوفر فيها اللحم من كل الأنواع, من الغنم, والبقر, والإبل, والدجاج, والطيور, والأسماك.
وإنما يهمه أيضاً اقاصي بلاد الإسلام, وأهل الأرياف البعيدة, والفقراء الذين يسكنون الأخبية, فكلهم لا يجد اللحم كل يوم ليقتات به, ولابد أنه في كل يوم يوجد بعض المسلمين لا يجدون اللحم.
وما دام علي عليه السلام إمامهم جميعاً.
فكما عليهم أن يقتدوا به بأفعاله, يحتم على نفسه ان يقتر على نفسه في مطعمه وملبسه ـ بل مسكنه ـ كأضعف رعيته.
عظيم جداً هذا الإنسان.
وعظيمة جداً هذه السيرة.
وعظيم جداً جداً... الإسلام الذي يربي هكذا قائد.
صوت القلي في بيته:
من أغرب وأعجب ما حفظه التاريخ عن السيرة الشخصية لأمير المؤمنين عليه السلام أنه سمع ذات مرة صوت القلي في بيته فأنكر ذلك, لأنه لم يكن قلي لحم في بيت علي عليه السلام أيام خلافته.
أخرج الشيخ الجليل المفيد (رضوان الله عليه) عن ابن رأب ـ في حديث مطول ـ : «وسمع ـ يعني: أمير المؤمنين عليه السلام ـ مقلي في بيته فنهض وهو يقول: في ذمة علي بن أبي طالب مقلي الكراكر؟
قال: ففزع عياله وقالوا: يا أمير المؤمنين أنها امرأتك فلانة نحرت جزور في حيها فأخذ لها نصيب فأهدى أهلها إليها.
قال عليه السلام: فكلوا هنيئا ومريئا.
وإنما خاف عليه السلام أن يكون ذلك هدية من بعض الرعية وقبول الهدية لوالي المسلمين خيانة للمسلمين.
يعرف من هذا الحديث: إن وجود اللحم في بيت أمير المؤمنين عليه السلام أيام خلافته كان شيئاً يدعو إلى العجب والغرابة.
ورقابة أمير المؤمنين علي عليه السلام للتصرفات الشخصية في بيته كانت دقيقة وحذرة, بحيث يعتبر عليه السلام قلي كراكر مرة واحدة في تاريخه أمرا يكون علي عليه السلام هو المسؤول عنها إذ يقول: «في ذمة علي بن أبي طالب مقلي الكراكر».
ثم يفزع عياله لذلك: لما يعرفون من علي عليه السلام من الحزم والصرامة في الحق, ولكي يخبروه عليه السلام بأنهم لم يخالفوا إرادته ولا أخفوا في بيته عنه ما لا يرضاه.
ومع هذا كله: فلا يمانع صلة الرحم بين زوجته وأقربائه بل يشجع ذلك ويدعو لهم.. ويخصهم بدعائه لأن علياً لا يأكل من ذلك في وقت ليس كل المسلمين يجدون مثله..
هل رأى التاريخ ـ بعد النبي صلى الله عليه وآله ـ عظيماً كهذا؟ فليعرفوه لنا!
لا..لاحتكار أموال الأمة:
كان علي أمير المؤمنين عليه السلام اقتداءاًً برسول الله صلى الله عليه وآله لا يحتكر أموال المسلمين, بل يعمد إلى توزيعها فور إمكان ذلك.
وهكذا يجب أن يكون القائد الإسلامي.
أنظر إلى النص التالي: روى ابن شهر آشوب (قده) في كتاب مناقب (أل أبي طالب) عن سالم الجحدري قال:
«شهدت علي بن أبي طالب عليه السلام أتي بمال عند المساء, فقال: اقتسموا هذا المال.
فقالوا: قد أمسينا يا أمير المؤمنين فأخره إلى غد.
فقال لهم : تقبلون لي أن أعيش إلى غد؟
قالوا: ماذا بأيدينا؟
فقال: لا تؤخروه حتى تقسموه.
فأتى بشمع فقسموا ذلك المال بغير ليلتهم».
أي قائد في العالم اليوم يفعل من ذلك؟
لا أحد تجد هكذا.
إذن نعلم بحق كيف استطاع أمير المؤمنين علي عليه السلام بسيرته الوضاءة أن يحكم التاريخ اليوم وغداً بكل عظمة وإجلال.
وربما ينبرى سؤال: لماذا التقسيم في المساء ولا يستفيد المسلمون منه إلا في الغد؟
قد يجاب لأسباب:
الأول: زوال المسؤولية عن القائد المؤمن الذي يرى المسؤولية أعظم ما يثقل كاهله.
الثاني: اطمئنان بعض المحتاجين من المؤمنين إلى هذا المال فيقرروا مصير غدهم المالي به.
الثالث: التعجيل في الخير مطلقاً الذي وردت به الآيات والروايات.
مثل قوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ) آل عمران: 133.
وقوله سبحانه: (وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) آل عمران: 114.
وقوله عز من قائل: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) الأنبياء: 90.
وقوله تعالى: (أُولئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون: 61.
وقد ورد في الحديث الشريف: «عجل الخير ما ستطعت».
لا يأخذ لنفسه:
وجاء في سيرة أمير المؤمنين علي عليه السلام انه كان يقسم الاموال ولا يأخذ لنفسه شيئاً في حين أنه كان بحاجة اليها.
أخرج ابن شهر آشوب رحمه الله في المناقب: انه عليه السلام كان يأتي وقت لا يكون عنده قيمة ثلاثة دراهم يشتري بها إزارا وما يحتاج اليه ثم يقسم كل ما في بيت المال على الناس ثم يصلي فيه فيقول: «الحمد لله الذي اخرجني منه كما دخلته».
البساطة في الحياة:
البساطة في الحياة الشخصية مما عرف بها أمير المؤمنين عليه السلام فكان لا يعبأ بالتجملات إطلاقاً ولا يصرف ثواني من وقته في سبيلها.
وهكذا ينبغي ان يكون القائد الإسلامي لكي يصرف أوقاته كلها في أمور المسلمين والمستضعفين.
أورد في البحار عن المناقب عن أبي الجيش البلخي قال: «عن علي بن أبي طالب عليه السلام اجتاز بسوق الكوفة فتعلق به كرسي فتخرق قميصه, فأخذه بيده, ثم جاء إلى الخياطين فقال: خيطوا لي ذا بارك الله فيكم».
وعن الأشعت العبدي قال:
«رأيت علياً عليه السلام اغتسل في الفرات يوم جمعة, ثم ابتاع قميصاً كرابيس بثلاثة دراهم, فصلى بالناس الجمعة وما خيط جربانه بعد».
وعن الزمخشري قال:
«أن علياً عليه السلام اشترى قميصاً فقطع ما فضل عن أصابعه ثم قال للرجل حصه أي: خط كفافه».
نعم في الحديث الشريف: «ان الله جميل يحب الجمال».
لكن الجمال ليس للمادة فقط, بل للروح والمعنويات جمال أيضاً, وجمالها أجمل من جمال الماديات.
والإمام أمير المؤمنين يعرف تماماً نسبة الجمال بعضه إلى بعض ويختار الجمال الأهم على الجمال المهم..
نسبة الإرث إلى الدين:
المعظم من الناس عندما يموتون تكون تركتهم أكثر من ديونهم, فيقضى الديون,وما يفضل يكون إرثاً للورثة يوزع عليهم.
أما أمير المؤمنين عليه السلام فكان بالعكس تماماً, انه قتل وديونه أضعاف تركته.
ديونه كانت من مائة ضعف بالنسبة لتركته.
كانت تركته سبعمائة درهم فضلت عن عطائه أراد يبتاع بها لأهله خادماً.
وكانت ديونه ثمانمائة ألف درهم.
بيع سيفه للإزار:
أخرج ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) عن مجمعه عن أبي رجاء, قال: أخرج علي عليه السلام سيفاً إلى السوق فقال: من يشتري مني هذا, فو الذي نفس علي بيده لو كان عندي ثمن إزار ما بعته.
فقلت له: أنا أبيعك إزارا, وأنسئك ثمنه إلى عطائك.
فدفعت إليه إزارا إلى عطائه.
فلما قبض عطاءه دفع إلي ثمن الإزار.
ويقسم هداياه على المسلمين:
وكان من عادة أمير المؤمنين علي عليه السلام التي عرفت فأثرت عنه أنه لم يكن ليحتكر الهدايا الشخصية التي تهدى إليه, لنفسه فقط, بل كان يوزعها على المسلمين أحياناً, أو يشركهم مع نفسه فيها.
أخرج العلامة المجلسي (قده) في البحار عن (المناقب):
قال حكيم بن أوس: أتى إلى أمير المؤمنين عليه السلام بأحمال فاكهة فأمر ببيعها, وأن يطرح ثمنها في بيت المال.
وقال أيضاً: كان علي عليه السلام يبعث إلينا بزقاق العسل فيقسم فينا, ثم يأمر أن يعلقوه.
وعن العاصم بن ميثم قال: انه اهدى إلى علي عليه السلام سلال خبيص له خاصة, فدعا بسفرة, فنثره عليها ثم جلسوا حلقتين يأكلون.
وعن أبي حريز قال: ان المجوس أهدوا إلى علي عليه السلام يوم النيروز جامات من فضة فيها سكر, فقسم عليه السلام السكر بين أصحابه وحسبها من جيزتهم.
قال: وبعث دهقان إلى علي عليه السلام بثوب منسوج من ذهب, فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم إلى العطاء.
عظيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالي عليه السلام, وعظيم... وعظيم جداً.
يهدى إليه ثوب منسوج بخيوط من الذهب, يساوى أربعة آلاف درهم, فيبيعه ليجعل ثمنه في بيت المال.
ثم يشتري ثوباً غليظ بثلاثة دراهم ويلبسه ويشكر الله.
أين يوجد له مثيل؟
إنها مدرسة الإسلام, وتربية الرسول الله صلى اله عليه وآله وسياسة السماء.
يستقي ويحتطب:
وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام كأقل الفقراء مالاً, يستقي الماء من البئر بنفسه, ويحتطب بيديه الكريمتين, ليكون أسوة حسنة لعامة المسلمين عبر التاريخ الطويل, وقدوة عملاقة لزعماء المسلمين.. وكذلك كان يقوم بسائر شؤونه الشخصية بنفسه.
فقد نقل الشيخ الكليني (رضوان الله عليه) وغيره في (الكافي) وغيره بسندهم عن زيد بن الحسن عن الإمام الصادق عليه السلام قال:«كان علي عليه السلام أشبه الناس طعمة وسيرة برسول الله صلى الله عليه وآله.
كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم.
وكان عليه السلام: يستقي ويحتطب.
وكان يرقع مدرعته بنفسه.
وكان يخيط ثوبه بنفسه.
وكان يخصف نعله بنفسه».
وبكلمة: كان لا يلقي كله على أحد, وكان يزاول شؤونه الشخصية بنفسه, فلا يرتفع عن الناس في شيء, بل يعيش دون معيشة أغلب الناس, وهو الذي رفعه الله تعالى على سائر الأولياء, والأئمة, والأنبياء, ما عدا رسول الإسلام صلى الله عليهما وآلهما) الذي قال عنه: «أنا من عبيد محمد صلى الله عليه وآله».
وهكذا كانت السيرة الخالدة العملاقة لأمير المؤمنين عليه السلام تنتج النتائج التالية:
1. جعلت علياً عليه السلام في رأس قائمة العظماء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
2. حطمت طواغيت البشرية في الماضي, والحاضر, والمستقبل.
3. علَّمت طريق الإنسانية والعظمة للقادة, وللشعوب.
وهكذا تربي السياسة الإسلامية مثل علي بن أبي طالب عليه السلام.
وقد ذكر هو عليه السلام فلسفة هذا الزهد فقال:
«إن الله جعلني إماماً لخلقه, ففرض علي التقدير في نفسي, ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس
كي يقتدي الفقير بفقري
ولا يطغي الغني غناه».
لا... للهدية:
الهدية التي تهدى لأصحاب الحكم كثيراً ما يراد بها استمالة قلب الحاكم لكي يبطل بها الحق, أو يحق الباطل.
ولذا كان التأكيد شديداً في الأحاديث الشريفة على تحاشي الحكام والقضاة ومن بيدهم الحول والطول, والحل والعقد, من قبول الهدايا. قطعاً لهذه الجذور التي تدع المجتمع غير آمن من الظلم والحيف والاجحاف.
أخرج العلامة المجلسي رحمه الله في (البحار) عن علي عليه السلام في قول الله عزوجل: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْت): قال عليه السلام: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديته».
وأخرج أيضاً عن جابر بن عبد الله قال:
«هدية الأمراء غلول».
وأخرج الشيخ الأنصاري رحمه الله في (المكاسب) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال:
«وان أخذ ـ يعني الوالي ـ هدية كان غلولا».
وما ورد:
«إن هدايا العمال غلول».
وفي حديث أخر:
«هدايا العمل سحت».
والإمام أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله كان سيداً في كل الفضائل, لذلك كان لا يقبل الهدايا الشخصية لنفسه, كي لا يطمع فيه أحد, ولا يأمل أحد في إمكان استعماله عليه السلام..
وهو عليه السلام يذكر واقعة واحدة أهدى فيها إليه شخص هدية فردها عليه السلام, وهو يصيغ الموقف في هذه الصيغة الفولاذية التالية:
قال عليه السلام في بعض خطبه ـ بعد ما ذكر قصة عقيل ورده عليه السلام له ـ : «واعجب من ذلك ـ أي: من رجاء عقيل أن أعطيه زائدا على سائر المسلمين ـ طارق طرقنا بملفوفة في وعائها, ومعجونة شنئتها كانما عجنت بريق حية أو قيئها.
فقلت: أصلة, أم زكاة, أم صدقة؟ فذلك محرم علينا أهل البيت.
فقال: لا ذا, ولا ذاك, ولكنها هدية.
فقلت: هبلتك الهبول.
أعن دين الله أتيتني لتخدعني؟
أمختبط أنت؟
أم ذو جنة؟
أم تهجر؟.
والله.. لو أعطيت الأقاليم السبعة ـ بما تحت أفلاكها ـ على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته.
وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها. هكذا يعامل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام نفسه حتى لا يخافه مظلوم, ولا يطمع فيه ظالم.
وما دام الحق هو هكذا.
و«علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار».
فلا غرو إذا في مثل هذه الأساليب الشجاعة في تاريخ أمير المؤمنين عليه السلام.
فعلى الحكام, والقضاة, والرؤساء أن يطبقوا سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في حياتهم الشخصية أولاً, لكي يأمن المجتمع من الظلم والحيف, ثم يطبقوا سيرته عليه السلام في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وما إليه
تعليق