ذكر الباحثون والمحقّقون ثلاثة أقسام للنسخ، هي:
أ- نسخ الحكم والتلاوة معاً: وهو زوال آية من القرآن ذات حكم تشريعي، تداولها المسلمون الأوائل وقرأوها وعملوا بحكمها، ثمّ نُسِخَت وتعطّل حكمها وزالت من القرآن. ومن الأمثلة التي أوردوها على وقوع هذا القسم من النسخ: ما روي عن عائشة أنّها قالت: كان في ما أُنزِلَ من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرّمن)، ثمّ نسخنَ بخمس معلومات، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهنّ في ما يُقرأ من القرآن1.
وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية2:
- إجماع المسلمين على عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد.
- ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضعف والإرسال.
- القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.
- استلزام هذا القسم من النسخ للتحريف بالنقيصة.
ب- نسْخ التلاوة دون الحُكم: وهو زوال آية من القرآن قرأها المسلمون الأوائل
305 |
وهذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن للأمور التالية4:
- منافاة هذا النسخ لمصلحة نزول الآية, إذ لو كانت المصلحة الّتي كانت تقتضي نزولها هي اشتمالها على حكم تشريعيّ ثابت، فلماذا تُرفَع الآية وحدها، مع كونها سنداً للحكم الشرعي المذكور؟
- ابتلاء أغلب هذه الأخبار التي تتحدّث عن وقوعه بالضعف والإرسال.
- القرآن الكريم لا يثبت بأخبار الآحاد.
- استلزام هذا القسم من النسخ للتحريف بالنقيصة.
ج- نسْخ الحُكم دون التلاوة: وهو بقاء الآية ثابتة في القرآن يقرأها المسلمون عِبر العصور، مع زوال حكمها بعد أن عمل بها المسلمون فترة من الزمن, بفعل مجيء الناسخ القاطع لحُكمها.
وهذا القسم من النسْخ هو المعروف بين العلماء والمفسّرين، واتّفق الجميع على جوازه إمكاناً، وإن اختلفوا في وقوعه فعلاً، حيث ذهب البعض إلى أنّ في القرآن آيات ناسخة وآيات منسوخة5.
306 |
اختُلِفَ في أنحاء نسخ القرآن على أقوال متعدّدة، يمكن إيجازها ضمن التالي:
أ- نسخ القرآن بالقرآن: وقد اتّفق الباحثون والمحقّقون في إمكانية وقوع هذا النحو من النسخ، واختلفوا في فعلية وقوعه على أقوال6، يمكن إيجازها بالتالي:
- نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، مع كون الثانية ناظرة إلى الأُولى ورافعة لحُكمها بالتنصيص، ولولا ذلك لم يكن موقع لنزول الثانية وكانت لغواً. مثال: آية النجوى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ...﴾7 التي أوجبت التصدّق بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ونَسخَتها آية الإشفاق: ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ﴾8. وهذا النحو لم يختلف فيه أحد.
- نسخ مفاد آية بمفاد آية أخرى، من دون أن تكون إحداهما ناظرة إلى الأخرى، مع وجود تنافٍ بينهما، بحيث لم يمكن الجمْع بينهما تشريعياً, فتكون الآية الثانية المتأخّرة نزولاً ناسخة للأُولى. ويشترط في صحّة هذا الوجه من النسخ9:
- وجود نصٍّ صحيح وأثر قطعيّ صريح يدعمه الإجماع, إذ من الصعب جدّاً الوقوف على تاريخ نزول آية في تقدّمها وتأخّرها.
- وجود تنافٍ على وجه التباين الكلّي بين مفاد الآيتين. وهذا لا يمكن القطع به بين آيتين قرآنيّتين سوى عن نصّ معصوم, لأنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومحكَماً ومتشابهاً، وليس من السهل الوقوف على كُنه آية مهما كانت محكَمة.
307 |
وقد اختلف القائلون بإمكانية وقوع هذا النحو من النسخ، في فعليّة وقوعه, فذهب بعضهم إلى عدم وقوعه فعلاً14، وذهب آخرون إلى وقوعه فعلاً، من قبيل: آية الإمتاع إلى الحَول بشأن المتوفّى عنها زوجها, فإنّها ـ بظاهرها ـ لا تتنافى وآية العِدَد والمواريث، غير أنّ السُنّة القطعية وإجماع المسلمين أثبتا نسخها بآية العِدَد والمواريث15. نعم إنّ نسخ مفاد آية بآخبار آحاد غير ممكن في نفسه, لأنّ من شروط الدليل الناسخ أن يكون بمستوى الدليل المنسوخ16.
3- شُبهات في النسخ:
أ- الشبهة الأولى: إنّ وجود آية منسوخة في القرآن ربّما يسبّب اشتباه المكلّفين، فيظنّونها آية محكَمة يعملون بها أو يلتزمون بمفادها، الأمر الذي يكون إغراءً بالجهْل, وهو قبيح.
الجواب عنها: إنّ مضاعفات جهل كلّ إنسان تعود إلى نفسه، ولم يكن الجهل
308 |
ب- الشبهة الثانية: إنّ الالتزام بوجود آيات ناسخة ومنسوخة في القرآن يستدعي وجود تنافٍ بين آياته الكريمة, الأمر الذي يناقضه قوله تعالى:﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾18.
الجواب عنها: إنّ الاختلاف الذي تنفيه الآية هو الاختلاف الواقعي، لا الظاهري الشكلي, الذي يرتفع في مورد الناسخ والمنسوخ، بعد ملاحظة زمن نزولهما والمناسبات والمصالح المستدعية لنزول الأولى ثمّ الثانية19.
ج- الشبهة الثالثة: ما هي الحكمة وراء ثبت آية في المصحف هي منسوخة الحكم, لتبقى مجرّد ألفاظ مقرؤة؟
الجواب عنها: إنّ الحكمة وراء وجود آيات منسوخة تكمن في الوقوف على مرونة الشريعة ومجاراتها للبيئة الاجتماعية، على اختلاف الزمان والمكان، في تدرّج تصاعدي, حتى يتسنّى للناس الالتزام بها والسير مع تدرّجها سيراً يسيراً غير طفروي.
أضف إلى ذلك أنّ الاستفادة من الآية المنسوخة ليست محصورة في خصوص كونها دليلاً على الحكم الشرعي فقط، بل لها حقائق عظيمة وبواطن جليلة خافية علينا لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم20.
309 |
اختُلِفَ في عدد الآيات الناسخة والمنسوخة, تبعاً لاختلاف الأقوال في إمكانية وقوع النسخ وفعليّة وقوعه وشروطه وأقسامه وأنحائه, على أقوال هي:
أ- عدم وجود آيات ناسخة أو منسوخة في القرآن21.
ب- وجود عدد قليل من الآيات الناسخة والمنسوخة، من هذه الأقوال:
- آية النجوى فقط22.
- 10 آيات، هي: آية النجوى، وآية عدد المقاتلين، وآية الإمتاع، وآية جزاء الفحشاء، وآية التوارث بالإيمان، وآيات الصفح، وآيات المعاهدة، وآيات تدريجية تشريع القتال23.
- 21 آية، منها: الآيات المتقدّم ذِكْرُها24.
ج- وجود عدد كبير من الآيات الناسخة والمنسوخة في القرآن25.
|