بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
مع السيّدة زينب(ع) نريد أن نعيش معنى المرأة المسلمة في أرقى نماذجها، فهي ليست موضوعاً للبكاء، وإن كان في حياتها ما يبكي، ولكنَّها موضوع للانفتاح على أصالة المرأة المسلمة عندما تتجسّد إسلاماً ولا تبتعد عن إنسانيّتها في حركة هذا التّجسّد.
المأساة الأولى
فزينب(ع) في ولادتها، عاشت مع رسول الله(ص) في حنانه وعاطفته على أبناء عليّ وفاطمة(ع)، وكانت أنفاسه تتنفَّس في أنفاسها، كما كانت تتنفَّس في أنفاس أخويها الإمامين الحسنين(ع)، وعاشت طفولتها الأولى في أحضانه وفي أجوائه، كما عاشت في بيت هو بيت رسول الله(ص) في معنى الحبّ والرعاية والرّسالة والتّقوى، لأنّ بيت علي وفاطمة(ع) كان بيته، ولأنّه كان يعيش في عمق عقل علي وفاطمة، وفي نبضات قلبيهما، وفي تطلعات روحيهما، لأنهما صناعته، فلقد صنع لهما العقل بعقله، وصنع لهما القلب بقلبه، وصنع لهما خطّ السير بسيره، ولذلك اندمج عليّ وفاطمة برسول الله(ص).
وعاشت زينب(ع) في هذا الجوّ أوَّل مأساة في حياتها، حيث سمعت الصرخة في بيتها عندما فقدت رسول الله(ص)، وعاشت أحزان أمّها في مأساة فراقها لأبيها، وعاشت مأساة المسلمين عندما تعقّدت الأمور، واضطربت الأمّة، وابتعدت عن الخطّ المستقيم.
نعم، عاشت في ذلك البيت وفي تلك المرحلة، وسمعت صوتاً يهدّد ويتوعّد: "إن لم تخرجوا فسأحرق البيت عليكم ناراً. وقيل له: كيف ذلك وفيها فاطمة حبيبة رسول الله وعزيزته ووديعته؟ وارتفع الصوت ثانياً وقال: وإن"!! وربما تذكّرت زينب(ع) ذلك، وربما تعجّبت عندما بدأت تدرك الأشياء، وراحت تتساءل: كيف يهدّد مسلمٌ بيت الإسلام الأوَّل الذي تعيش فيه بضعة النبي وعزيزته وحبيبته، ويعيش فيه أخو النبي وصنوه؟! هل هي محاولة لحفظ النظام؟ ومن هو في مستوى علي وفاطمة في الإخلاص لنظام أمر المسلمين؟!
عاشت زينب ذلك الواقع، وكانت تجد أمها، وهي الناحلة الجسم المنهدّة، تخرج إلى المسجد وتخطب، وسمعت بـ(فدك)، وعرفت بوعيها بعد ذلك أنها كانت نحلة رسول الله لأمها، أو كانت إرث أمها من رسول الله(ص)، وكانت تلاحظ أمها تخرج، كما تقول السيرة، مع علي(ع)، لتتحدث مع المهاجرين والأنصار، كيف كانت تتحدّث عن الحقّ بقوة، وعن عليّ في دائرة الحقّ، لأنها سمعت رسول الله(ص) يقول: "علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"[1].
وكانت ترى أمّها تستقبل الشَّيخين اللذين تسلّما أمر الخلافة، وكانا يسترضيانها، وكانت قد سمعت من أمّها كلاماً شديداً.
المأساة الثّانية
وكانت المأساة الثانية، وهي أنّها فقدت أمّها وهي لا تزال بحاجة إلى حضن الأمومة ليضمّها ويرعاها، وعاشت مع أبيها وتعلّمت منه الكثير؛ تعلّمت منه في أوَّل تجربة للصّراع كانت تعيشها آنذاك، كيف جمّد حقّه من أجل حقّ الإسلام، فكانت تسمعه يقول: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة"[2].
وعرفت كيف انفتح أبوها على الإسلام وعلى المسلمين، حتى من خلال الَّذين تقدّموه في الخلافة، لأنَّ علياً لم يكن يعيش في دائرة ضيّقة، بل كان يرى نفسه مسؤولاً عن حماية الإسلام ورعاية أمور المسلمين خارج الخلافة، كما هو مسؤول عن ذلك داخل الخلافة...
وعاشت النّموّ من خلال الأحداث، فراح ينمو عقلها، ويكبر قلبها، وتتطلَّع إلى الواقع بعينين فيهما الكثير من الوعي، ورأت كيف عاش المسلمون آنذاك بين صرخاتٍ للجهاد وللفتح في الخارج، وصرخاتٍ للفتنة والانحراف في الداخل، حتى إذا جاء الأمر إلى أبيها، رأت أباها وهو يريد أن ينفّذ مشروعه في الإسلام الأصيل الذي كان أوَّل إنسان بعد رسول الله(ص) فتح عليه عينيه، وكان المجاهد في سبيله والمعلّم لكل أحكامه.. رأت كيف اجتمع الناكثون والقاسطون والمارقون ليعطّلوا خطّته، وأرادوا منه أن يلعب مع اللاعبين ويخوض مع الخائضين، وأرادوا منه أن يمارس الحيلة هنا والمكر هناك، بأن يكذب ويغدر ويفجر، ولكنه قال: "قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين"[3]، وكان يقول: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"[4]، وكان يقول للناس: "وليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم"[5].
رأت زينب(ع) ذلك كلّه، وعرفت أنَّ الذي يقود المسلمين لا بدّ من أن يفكّر في الله، وأن يربط الناس بالله وبرسالة الله وبشرع الله وبالخطط التي يحبّها الله، ورأت أباها كيف عاش المأساة في حكمه، كما عاش المأساة خارج حكمه، حتى كان يقول: "ما ترك لي الحق من صاحب"، كما كان يقول للذين معه: "لوددت والله أنَّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم"[6]، والدينار عشرة دراهم، وكان يقول: "لقد أفسدتم عليّ رأيي"[7].
عاشت زينب ذلك كلّه، واختزنت فكر عليّ(ع) في فكرها، لأنها كانت تلميذة عليّ(ع)، لم تفارقه في المدينة، ولم تفارقه في الكوفة، حتى أغمض عينيه على الشَّهادة، وبذلك نعرف أنَّ الفرصة لم تتح لزينب(ع) في أن تتعلّم الكثير شفاهاً من جدّها وأمها، حتى واتتها الفرصة لتتعلَّم الكثير من أبيها علي(ع).
كبرت في عمره وعمرها معه، ونحن نعرف ـ أيها الأحبَّة ـ كيف يكون عقل من كان تلميذ عليّ، وكيف يكون قلب من كانت نبضاته هي نبضات قلب عليّ، وكيف يمسك الحقّ بكيانه كلّه من عاش الحقّ مع علي، ورأى كيف يؤكّد عليّ الحقّ.
المأساة الثالثة
وكانت المأساة الثالثة، عندما جيء بأبيها صريعاً والدّماء تسيل من رأسه الشريف، وكانت تجتمع إلى أبيها، ويكبر أبوها في عينها أكثر مما كان كبيراً، عندما تراه وهو ينزف، والسم يسري في بدنه، والحياة تذوب من جسده شيئاً فشيئاً، يلتفت إلى من حوله قائلاً: "سلوني قبل أن تفقدوني"[8]، فما زال في العمر بقية، وقد عشت عمري من أجل أن أعطي الناس حقهم في العقيدة وفي الشريعة وفي حركة الحياة، فلا أحبّ أن ألقى ربي إلا وأنا أعلّم الناس إسلامهم قبل أن ألفظ أنفاسي، ليراني الله معلّماً وأنا على فراش الموت.
اختزنت زينب(ع) ذلك كلّه في شخصيَّتها، وعاشت المرحلة الجديدة مع أخيها الحسن، وكانت رفيقة الحسن والحسين(ع) في مسيرتهما مع أبيهما، لأنها كانت التلميذة الثالثة معهما، كانت تتعلّم مع الحسن والحسين، وكانت تسمع من جدّها أو عن جدّها قوله: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة"[9]، ولذلك عاشت معهما بكلّ محبّة واحترام واندفاع من أجل أن يكونا القدوة لها.. وعاشت مع الإمام الحسن(ع)، ورأت كيف ورث جيشاً ممزّق الاتجاهات متنوِّع الأفكار، ورأت كيف عاش الحسن مأساته مع جيشه كما عاش مأساته فيما بعد الصّلح، وقد قال لأصحابه حينما قالوا له: "ما كنت مذلّهم، بل أنا معزّ المؤمنين، وإنَّما أردت البقاء عليهم"[10]، لقد أردت مصلحة المسلمين في ذلك.
المأساة الرابعة
وعاشت المأساة الرّابعة عندما رأت أخاها الحسن(ع) وهو يتجرَّع السمّ وينتقل إلى رحاب ربّه مسموماً، وكانت ترى كيف أنّه مُنِعَ من أن يُدفن عند جدّه، بل ربما منع من زيارة قبر جدّه.
وانطلقت مع الحسين(ع)، وكان ترى فيه أباها وأمّها وأخاها، ولذلك عندما نعى الحسين نفسه ـ كما سيأتيكم في الحديث عن عاطفتها ـ قلت: " اليوم ماتت أمّي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن"[11]، فلقد اعتبرت أنَّ كلّهم كان حسيناً، ولذلك شعرت عندما فقدت الحسين، بأنها فقدت هؤلاء الكبار جميعاً.
وعاشت مع الحسين(ع)، ونحن نعرف أنَّ علاقتها به كانت فوق علاقتها مع النّاس، ولذلك عندما أطلق نداء نهضته، استأذنت زوجها وتركته، وسارت مع الحسين، وأخذت ولديها معها وهي تتحسَّس الخطر هناك.
المأساة الخامسة
وهكذا عاشت مع الحسين(ع)، وواجهت المأساة الخامسة، فإذا قلنا عنها إنها "أمّ المصائب"، فإنّنا نجد أنَّ حركة المصائب انطلقت منذ طفولتها حتى كهولتها، وكانت مصائب معقَّدة تتحرك في أجواء عاشها المسلمون بطريقةٍ فيها الكثير من أوضاع الفتنة وأوضاع الحرب، وفيها الكثير مما عاشه المسلمون في تعقيدات لا يزال تأثيرها سلبيّاً في واقع المسلمين حتى الآن.
هذه هي صورة ولادة زينب(ع) ونشأتها فيما نستوحيه من حياتها من هذا البيت الَّذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّر أهله تطهيراً.
لنرتفع إلى مستوى زينب(ع)
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125.
[3] المصدر نفسه، ج 1، ص 93.
[4] المصدر نفسه، ج 2، ص 180.
[5] المصدر نفسه، ج 2، ص 19.
[6] المصدر نفسه، ج 1، ص 189.
[7] بحار الأنوار، ج 34، ص 143.
[8] نهج البلاغة، ج 2، ص 130.
[9] بحار الأنوار، ج 22، ص 279.
[10] دلائل الإمامة، الطبري، ص 167.
[11] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 93.
تعليق