السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وال محمد
********************
إسلام أبي طالب وإيمانه
لقد حاول الكثيرون إثبات إسلام أبي طالب وإيمانه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدة وسائل وكان من بينها اختيار أقوال وأبيات من الشعر منسوبة إليه في مواقف عديدة تثبت هذا القول بالبرهان . كيف لا وإقرار العقلاء على أنفسهم حجّة ؟! وجرياً على سيرتهم نحاول اقتباس بعض الأقوال ثمّ الأبيات الشعرية مع ذكر مناسباتها لنكشف مع هؤلاء حقيقة ليست بحاجة إلى اكتشاف
(من أقواله)
عندما أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) إعلان الدعوة وإظهار أمر الإسلام جاء إلى العباس يطلب منه النصرة والشّدة فنصحه بأبي طالب فذهبا إليه وكان ردّه : اخرج فإنك الرفيع كعباً والمنيع حزباً والأعلى أباً . والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسن حداد واجتذبته سيوف حداد والله لتذلّن لك العرب البهم لحاضنها ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ولقد قال : إنّ من صلبي لنبيّاً ، لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به .
وعند الإعلان وأمام الملأ قال للنبي (صلّى الله عليه وآله)قم يا سيدي وتكلّم بما تحب بلّغ رسالة ربّك فأنت الصادق الصدّيق
في جوابه لابنه الإمام علي (عليه السّلام) حين قال له( يا أبتِ آمنت بالله وبرسول الله وصدّقته بما جاء به وصلّيت معه واتّبعته ) قال أبو طالب (عليه السّلام)أما إنّه لا يدعوك إلاّ إلى خيرٍ فالزمه.
ولعلّ أهم مقالة تدلّ على اهتمامه بحماية النبي (صلّى الله عليه وآله) والإسلام بل على إسلامه وإيمانه ما ورد في وصيته حين قال : يا معشر قريش وإني اُوصيكم بتعظيم هذه البنية (الكعبة)فإنّ فيها مرضاةً للرب وقواماً للمعاش وثباتاً للوطأة صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد .
واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون من قبلكم وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإنّ فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام وإنّي اُوصيكم بمحمّد خيراً فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب وهو الجامع لكلِّ ما أوصيتكم به وقد جاءنا بأمرٍ قبِله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن .
وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس وقد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ودورها خراباً وضعفاؤها أرباباً وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها ...
دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة . والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد . ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي.
فهل أصرح من هذا إقراراً بالتوحيد والنبوّة ؟ خصوصاً في قوله (لا يسلك سبيله أحد إلاّ رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد)وإن كان هو لم يظهر كل ذلك علناً في حياته فقد ذكر في هذه الوصية أن أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) قد (قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن)
(ومن شعره)
فمن ذلك قوله عن ولديه :
إنّ عليّاً وجعفراً ثقتي **عنـد ملمّ الـزمـانِ والنـوبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمّكمـا***أخي لاُمّي من بينـهم وأبـي
والله لا أخـذل النبـيّ ولا***يخـذلـه مـن بنيّ ذو حسب
وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أبا طالب قد ذكر علياً وجعفراً فقط من بين أبنائه والسّر أنهما وحدهما كانا قد أسلما من بين أولاده حتّى ذلك الحين . كما نرى أنه اعتراف منه صريح وإقرار بالنبوّة (لا أخذل النبي) .
وقوله يهتف لأخيه الحمزة (عليه السّلام) :
فصبـراً أبا يعلى على ديـنِ أحمدٍ***وكـن مظهـراً للديـن وُفّقت صابرا
وحـطْ مـن أتى بالحقِّ من عند ربِّه***بصدقٍ وعـزمٍ لا تكن حمزُ كافـرا
فقـد سـرّني إذ قـلتَ إنك مؤمـنٌ*** فكـن لرسول الله فـي الله ناصـرا
ونادِ قريشـاً بالذي قـد أتيتـه*** جهاراً وقل ما كان أحمـدُ ساحرا
وهنا اعتراف آخر صريح بإسلامه ويظهر ذلك جلياً في قوله(على دين أحمد وكن مظهراً للدين)ونهيه لحمزة(لا تكن حمز كافرا) وسروره بإسلام حمزة وإيمانه ثمّ في قوله( لرسول الله) اعتراف آخر وإقرار بالرسول والرسالة وكذلك نفي السحر عنه .
وعندما اشتدّ الصراع مع قريش وثبت النبي (صلّى الله عليه وآله) على موقفه ورفض أبو طالب تسليم النبي (صلّى الله عليه وآله) لقريش قال أبو طالب :اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا اُسلمك لشيء أبداً . ثم أنشد يقول :
والله لـن يصلوا إليـك بجمعـهمْ*** حتّى اُوسّـد فـي الترابِ دفينـا
فاصـدع بأمـركَ ما عليـك غضاضـةٌ***وابشـر بـذاك وقـرّ منـك عيونـا
ودعوتنـي وعلمـتُ أنـك ناصحي*** ولقـد صدقتَ وكنـت ثَـمّ أمينـا
ولقـد علمـتُ بأنّ ديـنِ محمّدٍ*** من خيـرِ أديان البريـةِ دينا
وفي البيت الأخير أجلى البراهين على إقراره بدين محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
وليس أصرح من كلِّ ذاك إلاّ ما بعثه من أبيات إلى النجاشي ملك الحبشة وهو يدعوه إلى الإسلام ويشكره على حسن ضيافته لابنه جعفر الطيار وسائر المهاجرين حيث يقول :
أتعلمُ مـلكَ الحبـشِ أنّ محمّـداً***نبـيٌّ كموسـى والمسيـحِ بـن مريمِ
أتى بالهـدى مثـل الذي أتيا بـه*** فكـلٌّ بأمـر الله يهـدي ويعصـمُ
وإنـكـم تتلونـه فـي كتابكـمْ *** بصدقِ حـديثٍ لا حديـث الترجّـمِ
فلا تجعلـوا لله نـداً وأسلمـوا*** فإنّ طريقَ الحـقِّ ليس بمظلمِ
وإنّـك ما تأتيـك منّا عصابـةٌ *** لقصدك إلاّ اُرجعـوا بالتكرّمِ
فمما سبق وغيره الكثير يُعرف صدق ولاء أبي طالب (عليه السّلام) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)ومحبّته له ونصرته إيّاه حتّى في أحلك الظروف وأخطر المواقف .
يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في هذا الصدد : وذلك ظاهر معروف لا يدفعه إلاّ جاهل ولا يجحده إلاّ بهّات معاند وفي معناه يقول أبو طالب (عليه السّلام) في اللاميّة السائرة المعروفة :
لعمري لقـد كُلّفت وجـداً بأحمدٍ***وأحببتـه حـبَّ الحبيب المواصـلِ
وجـدتُ بنفسي دونـه وحميتهُ *** ودارأت عنـه بالـذرى والكلاكـلِ
فما زال فـي الدنيـا جمالاً لأهـلِها***وشينـاً لمـن عادى وزيـنَ المحافلِ
حليـماً رشيـداً حازماً غير طائشٍ *** يوالـي إله الخلـق ليس بماحلِ
فأيّده ربّ العبـاد بنصرةٍ *** وأظهر ديناً حقّـه غير باطلِ
ويعلّق الشيخ المفيد بقوله : ومَن تأمّل هذا المدح عرف منه صدق ولاء صاحبه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)واعترافه بنبوّته وإقراره بحقّه فيما أتى به إذ لا فرق بين أن يقول : محمّد نبي صادق وما دعا إليه حق صحيح واجب وبين قوله :
فأيّده ربّ العبـاد بنصرةٍ*** وأظهر ديناً حقّـه غير باطلِ
وفي هذا البيت إقرار أيضاً بالتوحيد صريح واعتراف لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالنبوة صحيح وفي الذي قبله مثل ذلك .
دلائل اُخرى
إنّ إثبات إسلام أبي طالب (عليه السّلام) وإيمانه لا يحتاج إلى كثير بيان وعناء لكثرة ما ورد تلميحاً وتصريحاً في ذلك ولكن ننقل بالنص أيضاً ما ذكره العالم الفاضل الشيخ المفيد المحقق في ذلك حيث عقّب على كلام طويل عن أبي طالب وابنه علي (عليهما السّلام) فقال : وممّا يؤيّد ما ذكرناه من إيمان أبي طالب (عليه السّلام) ويزيده بياناً أنه لما قُبض (رحمه الله) أتى أمير المؤمنين (عليه السّلام) رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فآذنه بموته فتوجّع توجعاً عظيماً وحزن حزناً شديداً ثم قال( امضِ يا علي فتولّ غسله وتكفينه وتحنيطه فإذا رفعته على سريره فأعلمني ).
ففعل ذلك أمير المؤمنين (عليه السّلام)فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبي (صلّى الله عليه وآله) فرقّ له وقال( وصلتك رحم وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً وآزرت ونصرت كبيراً )) . ثمّ أقبل (صلّى الله عليه وآله) على الناس فقال( أما والله لأشفعنّ لعمي شفاعة يتعجّب منها أهل الثقلين )(وردت هذه الرواية في الحجة على الذاهب / 67 ، والدرجات الرفيعة / 61) .
ثمّ يضيف الشيخ المفيد بعد نقله الرواية فيقول : وفي هذا الحديث دليلان على إيمان أبي طالب (عليه السّلام) :
أحدهما : أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً بغسله وتكفينه دون الحاضرين من أولاده إذ كان مَن حضر منهم سوى أمير المؤمنين (عليه السّلام) إذ ذاك على الجاهليّة لأنّ جعفراً (رحمه الله) كان يومئذٍ ببلاد الحبشة . وفي حكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السّلام) بأمره إياه بإجراء أحكام المسلمين عليه من الغسل والتطهير والتحنيط والتكفين والمواراة شاهدُ صدق في إيمانه على ما بيّناه .
والدليل الآخر :دعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) بالخيرات ووعد اُمّته فيه بالشفاعة إلى الله وإتباعه بالثناء والحمد والدعاء ..ولو كان أبو طالب مات كافراً لما وسع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الثناء عليه بعد الموت والدعاء له بشيء من الخير . قال تعالى : (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت أنّ أبا طالب (عليه السّلام) مات مؤمناً بدلالة فعله ومقاله وفعل نبي الله (صلّى الله عليه وآله) ومقاله حسبما شرحناه .
ثم يقول الشيخ المفيد (عليه السّلام) في المكان نفسه : ويؤكّد ذلك ما أجمع عليه أهل النقل من العامة والخاصة ورواه أصحاب الحديث عن رجالهم الثقاة من أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سُئل فقيل له : ما تقول في عمّك أبي طالب يا رسول الله وترجو له ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله)( أرجو له كلَّ خيرٍ من ربي )) .
فلولا أنه (رحمه الله) مات على الإيمان لما جاز من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجاء الخيرات له من الله (عزّ وجل) مع ما قطع تعالى به في القرآن وعلى لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) من خلود الكفّار في النار وحرمان الله لهم من سائر الخيرات وتأبيدهم في العذاب على وجه الاستحقاق والهوان.
وهكذا يثبت أنّ أبا طالب (عليه السّلام) قد أسلم وحسن إسلامه وإن كان يُذكر أنّه ظلّ يتكتّم في إيمانه أمام قريش حتّى يبقي على إمكانية الحوار معهم والوساطة بينهم وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)وإلاّ لكانت قريش استطاعت أن تحاربه علناً وتسحب بساط الزعامة من تحت قدميه لأنه يصبح شريكاً مع النبي (صلّى الله عليه وآله) في تسفيه أحلامهم والاستهزاء بآلهتهم .
وبهذا ـكما بغيره من الدلائل ـ يبطل ادّعاء تكفير أبي طالب (عليه السّلام) كما دأب عليه البعض دون حجة وبرهان .
اللهم صل على محمد وال محمد
********************
إسلام أبي طالب وإيمانه
لقد حاول الكثيرون إثبات إسلام أبي طالب وإيمانه برسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعدة وسائل وكان من بينها اختيار أقوال وأبيات من الشعر منسوبة إليه في مواقف عديدة تثبت هذا القول بالبرهان . كيف لا وإقرار العقلاء على أنفسهم حجّة ؟! وجرياً على سيرتهم نحاول اقتباس بعض الأقوال ثمّ الأبيات الشعرية مع ذكر مناسباتها لنكشف مع هؤلاء حقيقة ليست بحاجة إلى اكتشاف
(من أقواله)
عندما أراد النبي (صلّى الله عليه وآله) إعلان الدعوة وإظهار أمر الإسلام جاء إلى العباس يطلب منه النصرة والشّدة فنصحه بأبي طالب فذهبا إليه وكان ردّه : اخرج فإنك الرفيع كعباً والمنيع حزباً والأعلى أباً . والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسن حداد واجتذبته سيوف حداد والله لتذلّن لك العرب البهم لحاضنها ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ولقد قال : إنّ من صلبي لنبيّاً ، لوددت أني أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به .
وعند الإعلان وأمام الملأ قال للنبي (صلّى الله عليه وآله)قم يا سيدي وتكلّم بما تحب بلّغ رسالة ربّك فأنت الصادق الصدّيق
في جوابه لابنه الإمام علي (عليه السّلام) حين قال له( يا أبتِ آمنت بالله وبرسول الله وصدّقته بما جاء به وصلّيت معه واتّبعته ) قال أبو طالب (عليه السّلام)أما إنّه لا يدعوك إلاّ إلى خيرٍ فالزمه.
ولعلّ أهم مقالة تدلّ على اهتمامه بحماية النبي (صلّى الله عليه وآله) والإسلام بل على إسلامه وإيمانه ما ورد في وصيته حين قال : يا معشر قريش وإني اُوصيكم بتعظيم هذه البنية (الكعبة)فإنّ فيها مرضاةً للرب وقواماً للمعاش وثباتاً للوطأة صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد .
واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون من قبلكم وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإنّ فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام وإنّي اُوصيكم بمحمّد خيراً فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب وهو الجامع لكلِّ ما أوصيتكم به وقد جاءنا بأمرٍ قبِله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن .
وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس وقد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً ودورها خراباً وضعفاؤها أرباباً وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأصغت له فؤادها وأعطته قيادها ...
دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة . والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد . ولو كان لنفسي مدة وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي.
فهل أصرح من هذا إقراراً بالتوحيد والنبوّة ؟ خصوصاً في قوله (لا يسلك سبيله أحد إلاّ رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلاّ سعد)وإن كان هو لم يظهر كل ذلك علناً في حياته فقد ذكر في هذه الوصية أن أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) قد (قبله الجنان وأنكره اللسان مخافة الشنآن)
(ومن شعره)
فمن ذلك قوله عن ولديه :
إنّ عليّاً وجعفراً ثقتي **عنـد ملمّ الـزمـانِ والنـوبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمّكمـا***أخي لاُمّي من بينـهم وأبـي
والله لا أخـذل النبـيّ ولا***يخـذلـه مـن بنيّ ذو حسب
وهنا لا بدّ من الالتفات إلى أنّ أبا طالب قد ذكر علياً وجعفراً فقط من بين أبنائه والسّر أنهما وحدهما كانا قد أسلما من بين أولاده حتّى ذلك الحين . كما نرى أنه اعتراف منه صريح وإقرار بالنبوّة (لا أخذل النبي) .
وقوله يهتف لأخيه الحمزة (عليه السّلام) :
فصبـراً أبا يعلى على ديـنِ أحمدٍ***وكـن مظهـراً للديـن وُفّقت صابرا
وحـطْ مـن أتى بالحقِّ من عند ربِّه***بصدقٍ وعـزمٍ لا تكن حمزُ كافـرا
فقـد سـرّني إذ قـلتَ إنك مؤمـنٌ*** فكـن لرسول الله فـي الله ناصـرا
ونادِ قريشـاً بالذي قـد أتيتـه*** جهاراً وقل ما كان أحمـدُ ساحرا
وهنا اعتراف آخر صريح بإسلامه ويظهر ذلك جلياً في قوله(على دين أحمد وكن مظهراً للدين)ونهيه لحمزة(لا تكن حمز كافرا) وسروره بإسلام حمزة وإيمانه ثمّ في قوله( لرسول الله) اعتراف آخر وإقرار بالرسول والرسالة وكذلك نفي السحر عنه .
وعندما اشتدّ الصراع مع قريش وثبت النبي (صلّى الله عليه وآله) على موقفه ورفض أبو طالب تسليم النبي (صلّى الله عليه وآله) لقريش قال أبو طالب :اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا اُسلمك لشيء أبداً . ثم أنشد يقول :
والله لـن يصلوا إليـك بجمعـهمْ*** حتّى اُوسّـد فـي الترابِ دفينـا
فاصـدع بأمـركَ ما عليـك غضاضـةٌ***وابشـر بـذاك وقـرّ منـك عيونـا
ودعوتنـي وعلمـتُ أنـك ناصحي*** ولقـد صدقتَ وكنـت ثَـمّ أمينـا
ولقـد علمـتُ بأنّ ديـنِ محمّدٍ*** من خيـرِ أديان البريـةِ دينا
وفي البيت الأخير أجلى البراهين على إقراره بدين محمّد (صلّى الله عليه وآله) .
وليس أصرح من كلِّ ذاك إلاّ ما بعثه من أبيات إلى النجاشي ملك الحبشة وهو يدعوه إلى الإسلام ويشكره على حسن ضيافته لابنه جعفر الطيار وسائر المهاجرين حيث يقول :
أتعلمُ مـلكَ الحبـشِ أنّ محمّـداً***نبـيٌّ كموسـى والمسيـحِ بـن مريمِ
أتى بالهـدى مثـل الذي أتيا بـه*** فكـلٌّ بأمـر الله يهـدي ويعصـمُ
وإنـكـم تتلونـه فـي كتابكـمْ *** بصدقِ حـديثٍ لا حديـث الترجّـمِ
فلا تجعلـوا لله نـداً وأسلمـوا*** فإنّ طريقَ الحـقِّ ليس بمظلمِ
وإنّـك ما تأتيـك منّا عصابـةٌ *** لقصدك إلاّ اُرجعـوا بالتكرّمِ
فمما سبق وغيره الكثير يُعرف صدق ولاء أبي طالب (عليه السّلام) لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)ومحبّته له ونصرته إيّاه حتّى في أحلك الظروف وأخطر المواقف .
يقول الشيخ المفيد (رحمه الله) في هذا الصدد : وذلك ظاهر معروف لا يدفعه إلاّ جاهل ولا يجحده إلاّ بهّات معاند وفي معناه يقول أبو طالب (عليه السّلام) في اللاميّة السائرة المعروفة :
لعمري لقـد كُلّفت وجـداً بأحمدٍ***وأحببتـه حـبَّ الحبيب المواصـلِ
وجـدتُ بنفسي دونـه وحميتهُ *** ودارأت عنـه بالـذرى والكلاكـلِ
فما زال فـي الدنيـا جمالاً لأهـلِها***وشينـاً لمـن عادى وزيـنَ المحافلِ
حليـماً رشيـداً حازماً غير طائشٍ *** يوالـي إله الخلـق ليس بماحلِ
فأيّده ربّ العبـاد بنصرةٍ *** وأظهر ديناً حقّـه غير باطلِ
ويعلّق الشيخ المفيد بقوله : ومَن تأمّل هذا المدح عرف منه صدق ولاء صاحبه لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)واعترافه بنبوّته وإقراره بحقّه فيما أتى به إذ لا فرق بين أن يقول : محمّد نبي صادق وما دعا إليه حق صحيح واجب وبين قوله :
فأيّده ربّ العبـاد بنصرةٍ*** وأظهر ديناً حقّـه غير باطلِ
وفي هذا البيت إقرار أيضاً بالتوحيد صريح واعتراف لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالنبوة صحيح وفي الذي قبله مثل ذلك .
دلائل اُخرى
إنّ إثبات إسلام أبي طالب (عليه السّلام) وإيمانه لا يحتاج إلى كثير بيان وعناء لكثرة ما ورد تلميحاً وتصريحاً في ذلك ولكن ننقل بالنص أيضاً ما ذكره العالم الفاضل الشيخ المفيد المحقق في ذلك حيث عقّب على كلام طويل عن أبي طالب وابنه علي (عليهما السّلام) فقال : وممّا يؤيّد ما ذكرناه من إيمان أبي طالب (عليه السّلام) ويزيده بياناً أنه لما قُبض (رحمه الله) أتى أمير المؤمنين (عليه السّلام) رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فآذنه بموته فتوجّع توجعاً عظيماً وحزن حزناً شديداً ثم قال( امضِ يا علي فتولّ غسله وتكفينه وتحنيطه فإذا رفعته على سريره فأعلمني ).
ففعل ذلك أمير المؤمنين (عليه السّلام)فلمّا رفعه على السرير اعترضه النبي (صلّى الله عليه وآله) فرقّ له وقال( وصلتك رحم وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً وآزرت ونصرت كبيراً )) . ثمّ أقبل (صلّى الله عليه وآله) على الناس فقال( أما والله لأشفعنّ لعمي شفاعة يتعجّب منها أهل الثقلين )(وردت هذه الرواية في الحجة على الذاهب / 67 ، والدرجات الرفيعة / 61) .
ثمّ يضيف الشيخ المفيد بعد نقله الرواية فيقول : وفي هذا الحديث دليلان على إيمان أبي طالب (عليه السّلام) :
أحدهما : أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً بغسله وتكفينه دون الحاضرين من أولاده إذ كان مَن حضر منهم سوى أمير المؤمنين (عليه السّلام) إذ ذاك على الجاهليّة لأنّ جعفراً (رحمه الله) كان يومئذٍ ببلاد الحبشة . وفي حكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السّلام) بأمره إياه بإجراء أحكام المسلمين عليه من الغسل والتطهير والتحنيط والتكفين والمواراة شاهدُ صدق في إيمانه على ما بيّناه .
والدليل الآخر :دعاء النبي (صلّى الله عليه وآله) بالخيرات ووعد اُمّته فيه بالشفاعة إلى الله وإتباعه بالثناء والحمد والدعاء ..ولو كان أبو طالب مات كافراً لما وسع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الثناء عليه بعد الموت والدعاء له بشيء من الخير . قال تعالى : (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)وإذا كان الأمر على ما وصفناه ثبت أنّ أبا طالب (عليه السّلام) مات مؤمناً بدلالة فعله ومقاله وفعل نبي الله (صلّى الله عليه وآله) ومقاله حسبما شرحناه .
ثم يقول الشيخ المفيد (عليه السّلام) في المكان نفسه : ويؤكّد ذلك ما أجمع عليه أهل النقل من العامة والخاصة ورواه أصحاب الحديث عن رجالهم الثقاة من أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سُئل فقيل له : ما تقول في عمّك أبي طالب يا رسول الله وترجو له ؟ فقال (صلّى الله عليه وآله)( أرجو له كلَّ خيرٍ من ربي )) .
فلولا أنه (رحمه الله) مات على الإيمان لما جاز من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) رجاء الخيرات له من الله (عزّ وجل) مع ما قطع تعالى به في القرآن وعلى لسان نبيّه (صلّى الله عليه وآله) من خلود الكفّار في النار وحرمان الله لهم من سائر الخيرات وتأبيدهم في العذاب على وجه الاستحقاق والهوان.
وهكذا يثبت أنّ أبا طالب (عليه السّلام) قد أسلم وحسن إسلامه وإن كان يُذكر أنّه ظلّ يتكتّم في إيمانه أمام قريش حتّى يبقي على إمكانية الحوار معهم والوساطة بينهم وبين رسول الله (صلّى الله عليه وآله)وإلاّ لكانت قريش استطاعت أن تحاربه علناً وتسحب بساط الزعامة من تحت قدميه لأنه يصبح شريكاً مع النبي (صلّى الله عليه وآله) في تسفيه أحلامهم والاستهزاء بآلهتهم .
وبهذا ـكما بغيره من الدلائل ـ يبطل ادّعاء تكفير أبي طالب (عليه السّلام) كما دأب عليه البعض دون حجة وبرهان .
تعليق