بسم الله الرحمن الرحيم
في معنى الكبيرة وضابطتها اقوال كثيرة نذكر اهمها، مع الجواب عليها ومعرفة الحق فيها:
منها ما قيل: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقاباً و وضع له في الدنيا حداً.
و فيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار، رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعاً، و كذا ولاية الكفار و أكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن، و ربما أضاف إليه بعضهم السنة.
و فيه: ان يلزم كون كل ذنب لم يوعد مرتكبه النار في القرآن او السنة صغيرة، مع ان هناك العديد من الذنوب المجمع على كونها كبائر لم يوعد عليها النار.
و منها قول بعضهم: إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين و استحسنه الرازي.
و فيه أنه عنوان الطغيان و الاعتداء و هي إحدى الكبائر و هناك ذنوب كبيرة موبقة و إن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم و زنا المحارم و قتل النفس المؤمنة من غير حق.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض، و هذا كالمقابل للقول السابق.
و فيه أن الطغيان و الاستهانة و نحو ذلك من أكبر الكبائر و هي عناوين طارية، و بطروها على معصية و عروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.
و منها قول بعضهم: إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية، و كان المراد أن قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم و أكل مال اليتيم و الزنا و نحو ذلك.
و فيه أنه ينافي إطلاق الآية.
و منها قول بعضهم و ينسب إلى ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، و لعله لكون مخالفته تعالى أمراً عظيماً، و فيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة و الصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض، و هذا الذي ذكره مبني على قياس حال الإنسان في مخالفته - و هو عبد - إلى الله سبحانه - و هو رب كل شيء - و من الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى: (كبائر ما تنهون عنه)، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا: إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، و إن أريد تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية من العموم، و لو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي و اجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه، و هذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن السيئة و اللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.
و منها: أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، و الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه، نسب إلى المعتزلة و فيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية و لا غيرها من آيات القرآن، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه.
و قالوا أيضا: يجب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر و لا تحسن المؤاخذة عليها، و هذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.
و منها: أن الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكل معصية، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية و استهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة، و هي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.
و لما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد و الاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها عناداً و اعتداء فهي كبيرة و إلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد و الاعتداء.
قال بعضهم: إن في كل سيئة و في كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر و صغيرة أو صغائر، و أكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي و الأمر و احترام التكليف، و منه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترماً و لا مبالياً بالأمر و النهي فالله تعالى يقول: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه)، أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه (نكفر عنكم سيئاتكم)، أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.
و فيه: أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغياناً و استعلاء على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائراً مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شيء من هذه العناوين عليه، فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و قتل النفس المحرمة ظلماً بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض، نعم كلما عرض شيء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه و كبرت المعصية و عظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس و غلبة الشهوة و الجهالة كالزنا بالاستباحة.
على أن هذا المعنى أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها معنى رديء لا يحتمله قوله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام.
والكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة أن الدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.