بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
ذكر نسبه أرباب الرجال على النحو التالي : الحرّ بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن هرم بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم ، فهو تميميّ يربوعيّ رياحيّ.
يقول سيّدنا الحرّ العاملي في أعيان الشيعة في ترجمة الحرّ بن يزيد الرياحي :
كان من رؤساء بني تميم وكان ابن زياد قد أمّره على ألف فارس يستقبل بهم الحسين عليهالسلام
ويقول سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ : وكان الحرّ بن يزيد الرياحي من ساداتهم وأهل الكوفة
وقال العلّامة السماوي في إبصار العين : كان الحرّ الرياحي شريفاً في قومه في الجاهليّة والإسلام فإنّ جدّه عتاب كان رديف النعمان بن المنذر .. والحرّ هو ابن عمّ الأحوص الصحابي الشاعر
ولا يخفى أنّه مع كونه من سادات الكوفة وأشرافها ورؤسائها إلّا أنّه تقلّ الأخبار عنه فلا يعلم إلى أيّ حزب ينتمي في عهد أميرالمؤمنين عليهالسلام ، ويظهر من أخبار المؤرّخين أنّ عبيدالله بن زياد لعنهما الله بعثه مع الحصين بن نمير من الكوفة إلى القادسيّة وأمر الحرّ أن يتظر الحسين في القادسيّة ، ويمنعه من دخول الكوفة ، فأقبل الحرّ في ألف فارس حتّى تلاقى مع الحسين عليهالسلام في «ذو جشم» .
أخبار الحسين من لقائه بالحرّ إلى شهادته
عن عبدالله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديّين قالا : أقبل الحسين عليهالسلام حتّى نزل «شراف» فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ثمّ
ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النهار ، ثمّ إنّ رجلاً قال : الله أكبر ، فقال الحسين عليهالسلام : الله أكبر ، ما كبّرت؟ قال : رأيت النخل ، فقال له الأسديّان : إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ. قالا : فقال الحسين عليهالسلام : فما تريانه رأى؟ قلنا : نراه رأى هوادي الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك.
فقال الحسين عليهالسلام : أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد. قال : فأخذ إليه ذات اليسار ، قال : وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيّنّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن رماحهم اليعاسيب وكأن راياتهم أجنحة الطير.
قال : فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين عليهالسلام فأمر بأبنيته فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليهالسلام في حرّ الظهيرة والحسين وأصحابه عليهمالسلام معتمّون متقلّدوا أسيافهم ، فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً. فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً ، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم وأقبلوا يملأون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيه ثلاثاً وأربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها
قال هشام : حدّثني لقيط عن عليّ بن الطعان المحاربي : كنت مع الحرّ بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمّ قال : ابن أخي ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين : اخنث السقاء أي اعطفه ، قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل ، قال : فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
قال : يزل (الحر) موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصلاة صلاة الظهر ، فأمر الحسين الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فاذّن ، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم.
قال : فسكتوا عنه وقالوا للمؤذّن : أقم الصلاة ، فقال الحسين عليهالسلام للحر : أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ قال : لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. قال : فصلّى بهم الحسين ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به فدخل خيمة قد ضربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها ،
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن ينتهيّؤوا للرحيل ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وقام فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال عليهالسلام :
أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم .
فقال له الحرّ بن يزيد : إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.
فقال الحسين عليهالسلام : يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ ، فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم.
فقال الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتّى نقدمك على عبيدالله بن زياد.
فقال الحسين عليهالسلام : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثمّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، وانتظروا حتّى ركبت نسائهم وصبيانهم فقال لأصحابه : انصرفوا بنا ، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليهالسلام للحرّ : ثكلتك أُمّك ،
ما تريد؟! قال : أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أُمّه بالثكل أن أقوله كائناً من كان ولكن والله مالي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه.
فقال الحسين عليهالسلام : فما تريد؟ قال الحر : أُريد والله أن انطلق بك إلى عبيدالله بن زياد. فقال الحسين عليهالسلام : إذن والله لا أتّبعك. فقال له الحر : إذن والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر : إنّي لم أُؤمر بقتالك وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لاتدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد (وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيدالله بن زباد إن شئت) فلعلّ الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك.
قال : فخذ هاهنا ، فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة ، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً .. ولم يكن على يسار الطريق سوى القفر والهضاب الجرداء ، فقال الحسين عليهالسلام : من منكم يعرف الطريق؟ فقال رجل يُدعى الطرمّاح : يابن رسول الله ، أنا أعرف الناس بطرق هذه الأرض وسالك فجاجها ، فقال : تقدّم أمامنا ودُلّنا على الطريق ، فسار الإمام بأصحابه وتقدّم الطرمّاح بين يديه وأخذ ينشد : «يا ناقتي لا تجزعي من زجري» الخ ،
فلمّا سمع الحرّ الأُرجوزة وفيها سبّ ابن زياد ويزيد تنحّى عن الحسين وابتعد قليلاً عن طريقة حتّى بلغوا «البيضة» عند صلاة الصبح وفيها خطب الناس بعد الصلاة بناءاً على ما رواه في نفس المهموم نقلاً عن الطبري وأبي مخنف ، فقال :
أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يعيّر (يغيّر) عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من عيّر (غيّر) وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تمّمتم عليَّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهل مع أهليكم ، فلكم فيّ أُسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، والمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكن صاحب ناسخ التواريخ قال : أنّ هذه الخطبة هي كتاب كتبه الإمام عليهالسلام من كربلاء وبعثه إلى أهل الكوفة حين نزوله في أرضها
وصفوة القول أنّ الحرّ لان قلبه من هذه الخطبة وشعر بالحقّ ودنا من الحسين عليهالسلام وقال له : يابن رسول الله ، إنّي أُذكّرك الله في نفسك فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ، فقال الإمام عليهالسلام : أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وسوف يبتليكم الله بمختلف المحن والرزايا جزاءاً لكم بما فعلتم ، وإنّي سأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول ، ثمّ تمثّل الإمام بشعر قاله ومضمونه :
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وودّع مجرما
فإن عشئت لم أندم وإن متُّ لم ألم كفى بك ذُلّاً أن تعيش وترغما
أُقدّم نفسي لا أُريد بقائها لنلقى خميساً في الوغى وعرمرما
وصفوة القول : إنّ الإمام عليهالسلام أخذ يسير بأصحابه فإذا جميعاً راكب على نجيب له وعليه السلاح متنكّب قوساً مقبل من الكوفة فوقفوا جميعاً فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد ولم يسلّم على الحسين عليهالسلام وأصحابه ، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيدالله بن زياد فإذا فيه : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلّا بالعراء غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.
قال : فلمّا قرأ الكتاب ، قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله بن زياد يأمرني فيه أن أُجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه وهذا رسوله ، وقد أمره أن لا يفارقني حتّى أُنفّذ رأيه وأمره.
فأمر الحسين عليهالسلام بالنزول وكلّما أرادوا المسير حال أصحاب الحرّ بينهم وبينه ، فقال الإمام عليهالسلام : دعونا ننزل الغاضريّة أو نينوى أو شفاثة ، فقال الحرّ : لا أستطيع ذلك لأنّ رسول ابن زياد معي ناظر بم يرجع في أمري ، وأخيراً سار يمنة ويسرة حتّى بلغ أرض كربلاء ونزلها بأُسرته وأصحابه ، ونزل الحرّ بجيشه بأزاء الحسين عليهالسلام.
توبة الحرّ وشهادته
إلى أن ورد عمر بن سعد أرض كربلاء وأقبلت ورائه العساكر تترى ، فعبّأ ابن سعد جيشه وجعل الحرّ على ربع تميم وهمدان أميراً عليهم ، وبقي الحرّ على هذه الحال حتّى رأى من ابن سعد قسوة القلب لأنّه لم يعط الحسين عليهالسلام شرطاً واحداً من الشروط التي طلبها منهم ، فعجب من فظاظته وغلظته فأقبل عليه وقال : يابن سعد ، أمقاتل أنت هذا الرجل؟! قال : أي والله قتالاً أيسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. فقال : فمالكم في الشروط التي عرضها عليكم ألّا تقبلوها لينتهي الأمر بالسلم؟ فقال ابن سعد : لو كان الأمر لي لرضيت ولكنّ أميرك أبي.
فعاد الحرّ غاضباً فى مركزه وكان إلى جانبه قرّة بن قيس وهو من عشيرته ، فقال له الحر : يا قرّة ، أسبقت فرسك؟ فقال قرّة : كلّا ، فقال الحر : ألا تريد أن تسقيه؟ فقال قرّة : فظننت أنّه يريد اعتزال الحرب ، ولا يريد أن أعرف ذلك منه فأشي به ، ولو علمت بما يريد لفعلت فعله ولحقت بالحسين عليهالسلام .
وصفوة القول : إنّ الحرّ عليهالسلام تنحّى عن مكانه وأقبل نحو معسكر الحسين وصار يتقدّم شيئاً فشيئاً ، فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل ، فقال المهاجر لذلك السعيد الطالع الحرّ : إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت هذا منك أبداً ولو سُئلت من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذه الرعدة منك؟ فقال الحرّ : والله إنّي أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت إرباً إرباً وأحرقت بالنار ثمّ ساق جواده فطار به إلى معسكر الحسين عليهالسلام ، فلمّا رآه أهل العسكر وقد قلب ترسه ، فقالوا : إنّ هذا الفارس يطلب الأمان.
يقول السيّد ابن طاووس : ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين عليهالسلام ويده على رأسه وهو يقول : اللهمّ إليك أنبت فتُب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك ، فلمّا دنا من الحسين قلب ترسه وسلّم عليه
وفي رواية مهيّج الأحزان وروضة الشهداء والناسخ : إنّه تمرّغ في التراب وقبّل الأرض ووضع غرّته على الأرض ، فقال الحسين عليهالسلام : من تكون ، ارفع رأسك ، ويظهر من هذه العبارة أنّه لحيائه ستر وجهه وإلّا فكيف لا يعرفه الإمام عليهالسلام؟ فقال : فداك أبي وأُمّي ، أنا الذي حبستك عن الرجوع إلى مدينة جدّك ومنعتك من السير واقبلت أُسايرك لئلّا تحتمي بحمّى وجعجعت بك حتّى أنزلتك في هذا العراء وقسوت عليك ، والله الذي لا إله إلّا هو ما كنت أعلم أنّهم يردون عروضك ويصلون بك إلى هذا المقام ، فقلت في نفسي : لا مانع من أن أكون معهم أُماشيهم فيما يفعلون وأُسالمهم لئلّا يتّهموني بالخلاف عليهم وأنا موقن أنّهم لا يردّون لك طلباً ، وبالله أُقسم لو كنت عالماً بما يرتكبون لما أطعتم طرفة عين والآن جئتك تائباً توبة نصوحاً أفديك بنفسي فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسين عليهالسلام : نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير.فلمّا سمع الحرّ هذه البشارة قفز كالطائر الذي ينطلق من القفص من على الأرض واستوى على ظهر جواده وقال الحرّ : أنا لك فارس خير لك منّي راجل وإلى النزول يصير آخر أمري. فقال الإمام عليهالسلام : رحمك الله فافعل ما تشاء.
فقال الحرّ : يابن رسول الله ، لمّا خرجت من الكوفة سمعت هاتفاً يهتف بي : يا حرّ أبشر بالجنّة ، فقلت في نفسي : ويح الحرّ أنّى يكون هذا وأنا خارج لحرب ابن
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فما هذه البشارة ، والآن فهمت معناها وأنّها بشارة واقعة ، فقال الإمام عليهالسلام : هذا أخي الخضر فقد بشّرك بتحقيق الأجر ونيل الخير.
وجاء في روضة الشهداء ورياض الشهادة ومهيّج الأحزان ووقايع الأيّام للخياباني المجلّد الخاصّ في محرّم أنّ الحرّ قال للإمام عليهالسلام : يا مولاي ، لقد عنّ لي أبي البارحة في عالم الرؤيا فقال لي : أين كنت هذه الأيّأم يا ولدي؟ فقلت له : ذهبت أعترض الحسين ، فصاح أبي : واويلتاه ، مالك ولابن رسول الله ، يا بنيّ إذا أردت أن تخلد في نار جهنّم فقاتله ، وإذا أردت أن يكون رسول الله شفيعك يوم المحشر وتجاوره في الجنّة فجاهد معه عدوّه وأعنه عليهم ، قال هذا ثمّ ضرب جواده لكي يكون سابقاً الأصحاب في لقاء الأعداء أصحاب عمر بن سعد لعنه الله ، فاستقبلهم بوجهه وقال : يا قوم ، ألا تقبلون ما عرضه الحسين عليكم لئلّا تبتلوا بتبعات الحرب ويعافيكم الله منها؟ قالوا : شاور عمر بن سعد ، فأخذ الحرّ يشاور ابن سعد بما سمعه ابن سعد من قبل ، فقال ابن سعد : إنّي أبديت رأيي ولو كان بمقدوري عمل شيء لفعلت ، فحمي الحرّ غضباً واستقبل العسكر ، وقال :
يا أهل الكوفة ، لأُمّكم الهبل والعبر إذ دعوتم هذا العبد الصالح ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه وأخذتم بطظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً ، وحلأتموه ونسائه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابها والمجوس ، فها هم قد صرعهم العطش بئسما خلّفتم محمّداً صلىاللهعليهوآله في ذرّيّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فلمّا بلغ الحرّ هذا المقام من خطابه رشقوه بالسهام فتقهقر الحرّ وأقبل حتّى وقف بين يدي الحسين عليهالسلام وهنا صاح ابن سعد : يا دريد ، قدّم رايتك ، ورمى بسهم نحو معسكر الحسين ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل من رمى بين يديه.
مبارزة الحرّ عليهالسلام وشهادته :
عند ذلك حمي غضب الحرّ واشتعلت نار حميّته فأجرى فرسه وهو يقول : يابن رسول الله ، كنت أوّل خارج عليك فأحببت أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، ويوم القيامة أكون أوّل من يصافح جدّك ، وكان الحرّ يريد أن يعجّل بالقتال ويقدّم المجاهدين والمبارزين في الميدان ، لأنّ جماعة قد جرحوا واستشهدوا بأيدي الرماة.
وصفوة القول أنّ الإمام عليهالسلام اذن له فأقبل إلى الميدان كالأسد الهصور أو المرئ المستميت ، وهو يرتجز وفرسه تدور به :
آليت لا أُقتل حتّى أُقتلا ولن أُصاب اليوم إلّا مقبلا
أضربهم بالسيف ضرباً معضلا لا ناكلاً فيهم لا معلّلا
أحمي الحسين الماجد المؤمّلا لا حاجزاً عنهم ولا مبدّلا
ثمّ حمل عليهم وهو يرتجز ويقول :
إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حلّ بأرض الخيف أضربكم ولا أرى من حيف
قال أبو مخنف : فبينا الناس يتجاولون ويتقلون والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدّماً ويتمثّل بقول عنترة :
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتّى تسربل بالدم
وقال في منتهى الآمال : قال الراوي : رأيت فرس الحرّ مضروباً على أُذنيه وحاجبيه والدماء تسيل منه فأقبل الحصين بن نمير لعنه الله على يزيد بن سفيان وقال : يا يزيد ، هذا هو الحرّ الذي كنت تتمنّى قتله فهلمّ إلى مبارزته ، فقال : سأفعل ، وكان يزيد يقول لمّا علم بخروج الحرّ إلى الحسين عليهالسلام : لو أنّي كنت أعلم بما يريد لأصميته بسهم حتّى أرديه ، لذلك قال له الحصين ذلك.
وقال يزيد بن سفيان : سأطلب مبارزته ، ثمّ تبارزا فقال الحصين بن تميم : والله كأنّ روح يزيد كانت بيد الحرّ فلم يمهله حتّى قتله.
وفي الناسخ والظاهر أنّه يروي عن روضة الأحباب أنّ شجاعة الحرّ ثقلت على ابن سعد فطلب صفوان بن حنظلة وكان مشهوراً بالبسالة والشجاعة بين أهل العسكر ، وقال له : لابدّ من خروجك لمبارزة الحرّ ولكن ابدأ أوّلاً بنصحه وذكّره موقفه ومقامه في الجيش فإن أطاع وإلّا فاحمل عليه واضرب عنقه.
فخرج صفوان بين الصفّين شاكي السلاح وأقبل حتّى حاذى موقف الحرّ وقال له : يا حرّ ، لقد أتيت أمراً قبيحاً حيث حوّلت وجهك عن يزيد وهو الخليفة بحقّ! فقال له الحرّ : أي صفوان ، كنت عندي رجلاً عاقلاً مدر قومك ولقد عجبت اليوم من قولك الغثّ هذا ، أتأمرني بترك الحسين عليهالسلام والتحوّل إلى يزيد الخمور والفجور؟! فغضب صفوان وحمل على الحرّ حملة منكرة ، فاستقبله الحرّ بشجاعة وثبات وتحاشى طعنته ثمّ سدّد الرمح نحوه وطعنه طعنة نجلاء نفذت إلى الجانب
الآخر منه ، وكان لصفوان ثلاثة إخوة نظائر له في الشجاعة والفروسيّة فخرجوا يطلبون بثأره وحملوا على الحرّ ، فتناول الحرّ أحدهم من مراق بطنه واقتلعه من صهوة فرسه وجلده به الأرض وقضى عليه ، وضرب الثاني بالسيف فقتله ، وهرب الثالث وولّى الحرّ ظهره فما كان الحرّ إلّا أن حمل عليه وغرس الرمح في قفاه وألحقه بأخويه ، ثمّ شهر سيفه وحمل على العسكر وكأنّ سيفه شعلة نار ، فحمل على الكفّار فطارت من حملته الرؤوس والأيدي وأردى الفارس وفرسه وأورده حمام الردى وهو يقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع فأنت بكاس الموت لا شكّ كارع
وحام عن ابن المصطفى وحريمه لعلّك تلقى حصد ما أنت زارع
لقد خاب قوم خالفوا الله ربّهم يريدون هدم الدين والدين شارع
يريدون عمداً قتل آل محمّد وجدّهم يوم القيامة شافع
وأخرج أبو جعفر الطبري بسنده عن أيّوب بن مشرح الخيواني كان يقول : أنا والله عقرت بالحرّ بن يزيد فرسه حشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث والسيف في يده وهو يقول :
إن تعقروا في فأنا ابن الحرّ أشجع من ذي لبدة هزبر
يقول السيّد بن طاووس : وجعل يقاتل أحسن قتال حتّى قتل جماعة من شجعان وأبطال ولم يزل يقاتل حتّى قتل ثمانين رجلاً من القوم الأخسرين أعمالاً وأوصلهم إلى دار البوار ، فنادى ابن سعد : ويحكم! اثبتوا له وارموه بالسهام ، فأقبل الرماة يرشون السهام عليه حتّى صار درعه كالقنفذ ، عند ذلك يأس الحرّ من نفسه ومن نصرة ابن بنت نبيّه فتنفّس الصعداء وقال :
أضرب في أعراضكم بالسيف ضرب غلام لم يخف من حيف
أنصر من حلّ بأرض الخيف نسل عليّ الطهر مقري الضيف
وما زال يقاتل حتّى أثخنوه بالجراح فخرّ على الأرض صريعاً فحمل أصحاب الحسين عليهالسلام واستنقذوا جسده الشريف من بين سنابك الخيل ، وأقبلوا به حتّى وضعوه بين يدي الحسين ، فمسح الإمام عليهالسلام الدم والتراب عن وجهه وهو يقول : بخ بخ ما أخطأت أُمّك حين سمّتك حرّاً ، والله أنت حرّ في الدنيا والآخرة ، ثمّ استغفر له رضياللهعنه ، وبكى عليه .
ذكر نسبه أرباب الرجال على النحو التالي : الحرّ بن يزيد بن ناجية بن قعنب بن عتاب بن هرم بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم ، فهو تميميّ يربوعيّ رياحيّ.
يقول سيّدنا الحرّ العاملي في أعيان الشيعة في ترجمة الحرّ بن يزيد الرياحي :
كان من رؤساء بني تميم وكان ابن زياد قد أمّره على ألف فارس يستقبل بهم الحسين عليهالسلام
ويقول سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ : وكان الحرّ بن يزيد الرياحي من ساداتهم وأهل الكوفة
وقال العلّامة السماوي في إبصار العين : كان الحرّ الرياحي شريفاً في قومه في الجاهليّة والإسلام فإنّ جدّه عتاب كان رديف النعمان بن المنذر .. والحرّ هو ابن عمّ الأحوص الصحابي الشاعر
ولا يخفى أنّه مع كونه من سادات الكوفة وأشرافها ورؤسائها إلّا أنّه تقلّ الأخبار عنه فلا يعلم إلى أيّ حزب ينتمي في عهد أميرالمؤمنين عليهالسلام ، ويظهر من أخبار المؤرّخين أنّ عبيدالله بن زياد لعنهما الله بعثه مع الحصين بن نمير من الكوفة إلى القادسيّة وأمر الحرّ أن يتظر الحسين في القادسيّة ، ويمنعه من دخول الكوفة ، فأقبل الحرّ في ألف فارس حتّى تلاقى مع الحسين عليهالسلام في «ذو جشم» .
أخبار الحسين من لقائه بالحرّ إلى شهادته
عن عبدالله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديّين قالا : أقبل الحسين عليهالسلام حتّى نزل «شراف» فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ثمّ
ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النهار ، ثمّ إنّ رجلاً قال : الله أكبر ، فقال الحسين عليهالسلام : الله أكبر ، ما كبّرت؟ قال : رأيت النخل ، فقال له الأسديّان : إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ. قالا : فقال الحسين عليهالسلام : فما تريانه رأى؟ قلنا : نراه رأى هوادي الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك.
فقال الحسين عليهالسلام : أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد. قال : فأخذ إليه ذات اليسار ، قال : وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبيّنّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن رماحهم اليعاسيب وكأن راياتهم أجنحة الطير.
قال : فاستبقنا إلى ذي حسم فسبقناهم إليه ، فنزل الحسين عليهالسلام فأمر بأبنيته فضربت ، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليهالسلام في حرّ الظهيرة والحسين وأصحابه عليهمالسلام معتمّون متقلّدوا أسيافهم ، فقال الحسين لفتيانه : اسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً. فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً ، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم وأقبلوا يملأون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيه ثلاثاً وأربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها
قال هشام : حدّثني لقيط عن عليّ بن الطعان المحاربي : كنت مع الحرّ بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش ، قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمّ قال : ابن أخي ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين : اخنث السقاء أي اعطفه ، قال : فجعلت لا أدري كيف أفعل ، قال : فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي.
قال : يزل (الحر) موافقاً حسيناً حتّى حضرت الصلاة صلاة الظهر ، فأمر الحسين الحجّاج بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فاذّن ، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّها معذرة إلى الله عزّ وجلّ وإليكم ، إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم.
قال : فسكتوا عنه وقالوا للمؤذّن : أقم الصلاة ، فقال الحسين عليهالسلام للحر : أتريد أن تصلّي بأصحابك؟ قال : لا بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك. قال : فصلّى بهم الحسين ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به فدخل خيمة قد ضربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها ،
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن ينتهيّؤوا للرحيل ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وقام فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال عليهالسلام :
أمّا بعد ، أيّها الناس ، فإنّكم إن تتّقوا وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله ، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم .
فقال له الحرّ بن يزيد : إنّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.
فقال الحسين عليهالسلام : يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليّ ، فأخرج خرجين مملوئين صحفاً فنشرها بين أيديهم.
فقال الحرّ : إنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتّى نقدمك على عبيدالله بن زياد.
فقال الحسين عليهالسلام : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثمّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، وانتظروا حتّى ركبت نسائهم وصبيانهم فقال لأصحابه : انصرفوا بنا ، فلمّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين عليهالسلام للحرّ : ثكلتك أُمّك ،
ما تريد؟! قال : أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أُمّه بالثكل أن أقوله كائناً من كان ولكن والله مالي إلى ذكر أُمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يقدر عليه.
فقال الحسين عليهالسلام : فما تريد؟ قال الحر : أُريد والله أن انطلق بك إلى عبيدالله بن زياد. فقال الحسين عليهالسلام : إذن والله لا أتّبعك. فقال له الحر : إذن والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، ولمّا كثر الكلام بينهما قال له الحر : إنّي لم أُؤمر بقتالك وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لاتدخلك الكوفة ولا تردّك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نصفاً حتّى أكتب إلى ابن زياد (وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيدالله بن زباد إن شئت) فلعلّ الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك.
قال : فخذ هاهنا ، فتياسر عن طريق العذيب والقادسيّة ، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً .. ولم يكن على يسار الطريق سوى القفر والهضاب الجرداء ، فقال الحسين عليهالسلام : من منكم يعرف الطريق؟ فقال رجل يُدعى الطرمّاح : يابن رسول الله ، أنا أعرف الناس بطرق هذه الأرض وسالك فجاجها ، فقال : تقدّم أمامنا ودُلّنا على الطريق ، فسار الإمام بأصحابه وتقدّم الطرمّاح بين يديه وأخذ ينشد : «يا ناقتي لا تجزعي من زجري» الخ ،
فلمّا سمع الحرّ الأُرجوزة وفيها سبّ ابن زياد ويزيد تنحّى عن الحسين وابتعد قليلاً عن طريقة حتّى بلغوا «البيضة» عند صلاة الصبح وفيها خطب الناس بعد الصلاة بناءاً على ما رواه في نفس المهموم نقلاً عن الطبري وأبي مخنف ، فقال :
أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يعيّر (يغيّر) عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من عيّر (غيّر) وقد أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن تمّمتم عليَّ بيعتكم تصيبوا رشدكم ، فأنا الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول الله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهل مع أهليكم ، فلكم فيّ أُسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتي من أعناقكم فلعمري ما هي لكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم ، والمغرور من اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولكن صاحب ناسخ التواريخ قال : أنّ هذه الخطبة هي كتاب كتبه الإمام عليهالسلام من كربلاء وبعثه إلى أهل الكوفة حين نزوله في أرضها
وصفوة القول أنّ الحرّ لان قلبه من هذه الخطبة وشعر بالحقّ ودنا من الحسين عليهالسلام وقال له : يابن رسول الله ، إنّي أُذكّرك الله في نفسك فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ ، فقال الإمام عليهالسلام : أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ، وسوف يبتليكم الله بمختلف المحن والرزايا جزاءاً لكم بما فعلتم ، وإنّي سأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه وهو يريد نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول ، ثمّ تمثّل الإمام بشعر قاله ومضمونه :
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا ما نوى حقّاً وجاهد مسلما
وواسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً وودّع مجرما
فإن عشئت لم أندم وإن متُّ لم ألم كفى بك ذُلّاً أن تعيش وترغما
أُقدّم نفسي لا أُريد بقائها لنلقى خميساً في الوغى وعرمرما
وصفوة القول : إنّ الإمام عليهالسلام أخذ يسير بأصحابه فإذا جميعاً راكب على نجيب له وعليه السلاح متنكّب قوساً مقبل من الكوفة فوقفوا جميعاً فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد ولم يسلّم على الحسين عليهالسلام وأصحابه ، فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيدالله بن زياد فإذا فيه : أمّا بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي فلا تنزله إلّا بالعراء غير حصن وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري والسلام.
قال : فلمّا قرأ الكتاب ، قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله بن زياد يأمرني فيه أن أُجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه وهذا رسوله ، وقد أمره أن لا يفارقني حتّى أُنفّذ رأيه وأمره.
فأمر الحسين عليهالسلام بالنزول وكلّما أرادوا المسير حال أصحاب الحرّ بينهم وبينه ، فقال الإمام عليهالسلام : دعونا ننزل الغاضريّة أو نينوى أو شفاثة ، فقال الحرّ : لا أستطيع ذلك لأنّ رسول ابن زياد معي ناظر بم يرجع في أمري ، وأخيراً سار يمنة ويسرة حتّى بلغ أرض كربلاء ونزلها بأُسرته وأصحابه ، ونزل الحرّ بجيشه بأزاء الحسين عليهالسلام.
توبة الحرّ وشهادته
إلى أن ورد عمر بن سعد أرض كربلاء وأقبلت ورائه العساكر تترى ، فعبّأ ابن سعد جيشه وجعل الحرّ على ربع تميم وهمدان أميراً عليهم ، وبقي الحرّ على هذه الحال حتّى رأى من ابن سعد قسوة القلب لأنّه لم يعط الحسين عليهالسلام شرطاً واحداً من الشروط التي طلبها منهم ، فعجب من فظاظته وغلظته فأقبل عليه وقال : يابن سعد ، أمقاتل أنت هذا الرجل؟! قال : أي والله قتالاً أيسره أن تطير فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. فقال : فمالكم في الشروط التي عرضها عليكم ألّا تقبلوها لينتهي الأمر بالسلم؟ فقال ابن سعد : لو كان الأمر لي لرضيت ولكنّ أميرك أبي.
فعاد الحرّ غاضباً فى مركزه وكان إلى جانبه قرّة بن قيس وهو من عشيرته ، فقال له الحر : يا قرّة ، أسبقت فرسك؟ فقال قرّة : كلّا ، فقال الحر : ألا تريد أن تسقيه؟ فقال قرّة : فظننت أنّه يريد اعتزال الحرب ، ولا يريد أن أعرف ذلك منه فأشي به ، ولو علمت بما يريد لفعلت فعله ولحقت بالحسين عليهالسلام .
وصفوة القول : إنّ الحرّ عليهالسلام تنحّى عن مكانه وأقبل نحو معسكر الحسين وصار يتقدّم شيئاً فشيئاً ، فقال له المهاجر بن أوس : أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل ، فقال المهاجر لذلك السعيد الطالع الحرّ : إنّ أمرك لمريب ، والله ما رأيت هذا منك أبداً ولو سُئلت من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك ، فما هذه الرعدة منك؟ فقال الحرّ : والله إنّي أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت إرباً إرباً وأحرقت بالنار ثمّ ساق جواده فطار به إلى معسكر الحسين عليهالسلام ، فلمّا رآه أهل العسكر وقد قلب ترسه ، فقالوا : إنّ هذا الفارس يطلب الأمان.
يقول السيّد ابن طاووس : ثمّ ضرب فرسه قاصداً إلى الحسين عليهالسلام ويده على رأسه وهو يقول : اللهمّ إليك أنبت فتُب عليَّ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك ، فلمّا دنا من الحسين قلب ترسه وسلّم عليه
وفي رواية مهيّج الأحزان وروضة الشهداء والناسخ : إنّه تمرّغ في التراب وقبّل الأرض ووضع غرّته على الأرض ، فقال الحسين عليهالسلام : من تكون ، ارفع رأسك ، ويظهر من هذه العبارة أنّه لحيائه ستر وجهه وإلّا فكيف لا يعرفه الإمام عليهالسلام؟ فقال : فداك أبي وأُمّي ، أنا الذي حبستك عن الرجوع إلى مدينة جدّك ومنعتك من السير واقبلت أُسايرك لئلّا تحتمي بحمّى وجعجعت بك حتّى أنزلتك في هذا العراء وقسوت عليك ، والله الذي لا إله إلّا هو ما كنت أعلم أنّهم يردون عروضك ويصلون بك إلى هذا المقام ، فقلت في نفسي : لا مانع من أن أكون معهم أُماشيهم فيما يفعلون وأُسالمهم لئلّا يتّهموني بالخلاف عليهم وأنا موقن أنّهم لا يردّون لك طلباً ، وبالله أُقسم لو كنت عالماً بما يرتكبون لما أطعتم طرفة عين والآن جئتك تائباً توبة نصوحاً أفديك بنفسي فهل ترى لي من توبة؟ فقال الحسين عليهالسلام : نعم ، إن تبت تاب الله عليك ، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير.فلمّا سمع الحرّ هذه البشارة قفز كالطائر الذي ينطلق من القفص من على الأرض واستوى على ظهر جواده وقال الحرّ : أنا لك فارس خير لك منّي راجل وإلى النزول يصير آخر أمري. فقال الإمام عليهالسلام : رحمك الله فافعل ما تشاء.
فقال الحرّ : يابن رسول الله ، لمّا خرجت من الكوفة سمعت هاتفاً يهتف بي : يا حرّ أبشر بالجنّة ، فقلت في نفسي : ويح الحرّ أنّى يكون هذا وأنا خارج لحرب ابن
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فما هذه البشارة ، والآن فهمت معناها وأنّها بشارة واقعة ، فقال الإمام عليهالسلام : هذا أخي الخضر فقد بشّرك بتحقيق الأجر ونيل الخير.
وجاء في روضة الشهداء ورياض الشهادة ومهيّج الأحزان ووقايع الأيّام للخياباني المجلّد الخاصّ في محرّم أنّ الحرّ قال للإمام عليهالسلام : يا مولاي ، لقد عنّ لي أبي البارحة في عالم الرؤيا فقال لي : أين كنت هذه الأيّأم يا ولدي؟ فقلت له : ذهبت أعترض الحسين ، فصاح أبي : واويلتاه ، مالك ولابن رسول الله ، يا بنيّ إذا أردت أن تخلد في نار جهنّم فقاتله ، وإذا أردت أن يكون رسول الله شفيعك يوم المحشر وتجاوره في الجنّة فجاهد معه عدوّه وأعنه عليهم ، قال هذا ثمّ ضرب جواده لكي يكون سابقاً الأصحاب في لقاء الأعداء أصحاب عمر بن سعد لعنه الله ، فاستقبلهم بوجهه وقال : يا قوم ، ألا تقبلون ما عرضه الحسين عليكم لئلّا تبتلوا بتبعات الحرب ويعافيكم الله منها؟ قالوا : شاور عمر بن سعد ، فأخذ الحرّ يشاور ابن سعد بما سمعه ابن سعد من قبل ، فقال ابن سعد : إنّي أبديت رأيي ولو كان بمقدوري عمل شيء لفعلت ، فحمي الحرّ غضباً واستقبل العسكر ، وقال :
يا أهل الكوفة ، لأُمّكم الهبل والعبر إذ دعوتم هذا العبد الصالح ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله أسلمتموه وزعمتم أنّكم قاتلوا أنفسكم دونه ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه ، أمسكتم بنفسه وأخذتم بطظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن ويأمن أهل بيته ، فأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً ولا يدفع ضرّاً ، وحلأتموه ونسائه وصبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابها والمجوس ، فها هم قد صرعهم العطش بئسما خلّفتم محمّداً صلىاللهعليهوآله في ذرّيّته ، لا سقاكم الله يوم الظمأ إن لم تتوبوا وتنزعوا عمّا أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه.
فلمّا بلغ الحرّ هذا المقام من خطابه رشقوه بالسهام فتقهقر الحرّ وأقبل حتّى وقف بين يدي الحسين عليهالسلام وهنا صاح ابن سعد : يا دريد ، قدّم رايتك ، ورمى بسهم نحو معسكر الحسين ، وقال : اشهدوا لي عند الأمير بأنّي أوّل من رمى بين يديه.
مبارزة الحرّ عليهالسلام وشهادته :
عند ذلك حمي غضب الحرّ واشتعلت نار حميّته فأجرى فرسه وهو يقول : يابن رسول الله ، كنت أوّل خارج عليك فأحببت أن أكون أوّل قتيل بين يديك ، ويوم القيامة أكون أوّل من يصافح جدّك ، وكان الحرّ يريد أن يعجّل بالقتال ويقدّم المجاهدين والمبارزين في الميدان ، لأنّ جماعة قد جرحوا واستشهدوا بأيدي الرماة.
وصفوة القول أنّ الإمام عليهالسلام اذن له فأقبل إلى الميدان كالأسد الهصور أو المرئ المستميت ، وهو يرتجز وفرسه تدور به :
آليت لا أُقتل حتّى أُقتلا ولن أُصاب اليوم إلّا مقبلا
أضربهم بالسيف ضرباً معضلا لا ناكلاً فيهم لا معلّلا
أحمي الحسين الماجد المؤمّلا لا حاجزاً عنهم ولا مبدّلا
ثمّ حمل عليهم وهو يرتجز ويقول :
إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حلّ بأرض الخيف أضربكم ولا أرى من حيف
قال أبو مخنف : فبينا الناس يتجاولون ويتقلون والحرّ بن يزيد يحمل على القوم مقدّماً ويتمثّل بقول عنترة :
ما زلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتّى تسربل بالدم
وقال في منتهى الآمال : قال الراوي : رأيت فرس الحرّ مضروباً على أُذنيه وحاجبيه والدماء تسيل منه فأقبل الحصين بن نمير لعنه الله على يزيد بن سفيان وقال : يا يزيد ، هذا هو الحرّ الذي كنت تتمنّى قتله فهلمّ إلى مبارزته ، فقال : سأفعل ، وكان يزيد يقول لمّا علم بخروج الحرّ إلى الحسين عليهالسلام : لو أنّي كنت أعلم بما يريد لأصميته بسهم حتّى أرديه ، لذلك قال له الحصين ذلك.
وقال يزيد بن سفيان : سأطلب مبارزته ، ثمّ تبارزا فقال الحصين بن تميم : والله كأنّ روح يزيد كانت بيد الحرّ فلم يمهله حتّى قتله.
وفي الناسخ والظاهر أنّه يروي عن روضة الأحباب أنّ شجاعة الحرّ ثقلت على ابن سعد فطلب صفوان بن حنظلة وكان مشهوراً بالبسالة والشجاعة بين أهل العسكر ، وقال له : لابدّ من خروجك لمبارزة الحرّ ولكن ابدأ أوّلاً بنصحه وذكّره موقفه ومقامه في الجيش فإن أطاع وإلّا فاحمل عليه واضرب عنقه.
فخرج صفوان بين الصفّين شاكي السلاح وأقبل حتّى حاذى موقف الحرّ وقال له : يا حرّ ، لقد أتيت أمراً قبيحاً حيث حوّلت وجهك عن يزيد وهو الخليفة بحقّ! فقال له الحرّ : أي صفوان ، كنت عندي رجلاً عاقلاً مدر قومك ولقد عجبت اليوم من قولك الغثّ هذا ، أتأمرني بترك الحسين عليهالسلام والتحوّل إلى يزيد الخمور والفجور؟! فغضب صفوان وحمل على الحرّ حملة منكرة ، فاستقبله الحرّ بشجاعة وثبات وتحاشى طعنته ثمّ سدّد الرمح نحوه وطعنه طعنة نجلاء نفذت إلى الجانب
الآخر منه ، وكان لصفوان ثلاثة إخوة نظائر له في الشجاعة والفروسيّة فخرجوا يطلبون بثأره وحملوا على الحرّ ، فتناول الحرّ أحدهم من مراق بطنه واقتلعه من صهوة فرسه وجلده به الأرض وقضى عليه ، وضرب الثاني بالسيف فقتله ، وهرب الثالث وولّى الحرّ ظهره فما كان الحرّ إلّا أن حمل عليه وغرس الرمح في قفاه وألحقه بأخويه ، ثمّ شهر سيفه وحمل على العسكر وكأنّ سيفه شعلة نار ، فحمل على الكفّار فطارت من حملته الرؤوس والأيدي وأردى الفارس وفرسه وأورده حمام الردى وهو يقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع فأنت بكاس الموت لا شكّ كارع
وحام عن ابن المصطفى وحريمه لعلّك تلقى حصد ما أنت زارع
لقد خاب قوم خالفوا الله ربّهم يريدون هدم الدين والدين شارع
يريدون عمداً قتل آل محمّد وجدّهم يوم القيامة شافع
وأخرج أبو جعفر الطبري بسنده عن أيّوب بن مشرح الخيواني كان يقول : أنا والله عقرت بالحرّ بن يزيد فرسه حشأته سهماً فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا فوثب عنه الحرّ كأنّه ليث والسيف في يده وهو يقول :
إن تعقروا في فأنا ابن الحرّ أشجع من ذي لبدة هزبر
يقول السيّد بن طاووس : وجعل يقاتل أحسن قتال حتّى قتل جماعة من شجعان وأبطال ولم يزل يقاتل حتّى قتل ثمانين رجلاً من القوم الأخسرين أعمالاً وأوصلهم إلى دار البوار ، فنادى ابن سعد : ويحكم! اثبتوا له وارموه بالسهام ، فأقبل الرماة يرشون السهام عليه حتّى صار درعه كالقنفذ ، عند ذلك يأس الحرّ من نفسه ومن نصرة ابن بنت نبيّه فتنفّس الصعداء وقال :
أضرب في أعراضكم بالسيف ضرب غلام لم يخف من حيف
أنصر من حلّ بأرض الخيف نسل عليّ الطهر مقري الضيف
وما زال يقاتل حتّى أثخنوه بالجراح فخرّ على الأرض صريعاً فحمل أصحاب الحسين عليهالسلام واستنقذوا جسده الشريف من بين سنابك الخيل ، وأقبلوا به حتّى وضعوه بين يدي الحسين ، فمسح الإمام عليهالسلام الدم والتراب عن وجهه وهو يقول : بخ بخ ما أخطأت أُمّك حين سمّتك حرّاً ، والله أنت حرّ في الدنيا والآخرة ، ثمّ استغفر له رضياللهعنه ، وبكى عليه .
تعليق