بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
كان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان عام أربعين للهجرة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر وليلة عند ابنته زينب الصغرى المكنات بأم كلثوم.
وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن حامض وجريش ملح، فقال لها: قدمت إدامين في طبق واحد وقد علمت أنني متبع ما كان يصنع ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قدّم له إدامان في
طبق واحد حتى قبضه الله إليه مكرماً، ارفعي أحدهما فإن من طاب مطعمه ومشربه طال وقوفه بين يدي الله. فرفعت اللبن الحامض بأمر منه وأفطر بالخبز والملح.
قالت أم كلثوم: ثم أكل قليلاً وحمد الله كثيراً وأخذ في الصلاة والدعاء ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله تعالى، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله. ثم رقد هنيئة وأنتبه وجعل يمسح وجهه بثوبه ونهض قائماً على قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك. ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، وجلس للتعقيب ثم نامت عيناه وهو جالس،فانتبه من نومته،وقالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني، وأريد أن أقصها عليكم.
قالوا: ما هي؟
قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان، فهلمّ إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.
قالت: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.
قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذِبت ولا كذّبت،وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود إلى مصلاّه و يقول: اللهم بارك لي في الموت و يكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً.
قالت أم كلثوم: فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار، أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟
قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقلت: يا أبه؛ مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟!
قال:بنية، قد قرب الأجل وانقطع الأمل. فبكيت، فقال لي: يا بنية لا تبكي، فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله). ثم إنه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه وقال: يا بنية إذا قَرب الأذان فأعلميني، ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين (عليه السلام)، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه وكن قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوايح، وفي غداة غد يظهر القضاء فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
أشــدد حيازيمك للموت فــإن المــوت لاقـيكا
ولا تــــجزع من الموت إذ احـــلّ بـــواديكا
كما أضــحـكك الـدهر كـذاك الــدهر يبـكيكا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لنا في لقائك.
قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة.
قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضا، ثم فتح الباب وخرج إلى المسجد وهو ينشأ ويقول:
خـلوا سبيل المـؤمن المـجاهد فـي الله ذي الكتب وذي المشاهد
فـي الله لا يــعبد غير الواحد ويـوقظ الناس إلـى المســاجد
قالت أم كلثوم: فجئت إلى أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد كان أمر أبيك الليلة كذا وكذا، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فألحقه.
فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل المسجد فأمره بالرجوع فرجع.
وكان عدو الله ابن ملجم متخفيا في بيوت الخوارج بالكوفة يتربص الغفلة وينتهز الفرصة بأمير المؤمنين (عليه السلام) وانبرى لمساعدة ابن ملجم شخصان آخران من الخوارج هما شبيب بن بحره ووردان بن مجالد، وسار الإمام إلى المسجد فصلى النافلة في المسجد ثم علا المئذنة فأذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوت أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره و يكثر من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، الصلاة يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة، ثم يتلو (إنّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم وهو نائم على وجهه وقد أخفى سيفه تحت إزاره، فقال له الإمام: يا هذا قم من نومتك هذه فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار، بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
ثم قال له الإمام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك. ثم تركه، واتجه إلى المحراب وبدأ يصلي وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام الشقي ابن ملجم وأقبل مسرعاً يمشي حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها وشد عليه اللعين ابن ملجم فضرب الإمام على رأسه فشقه نصفين، فوقع يخور في دمه وهو يقول: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله؛ ثم صاح الإمام فزت ورب الكعبة.
وقد وقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ود العامري في واقعة الخندق، ثم اتم صلاته من جلوس؛ فجعل يشد الضربة ويضع التراب على رأسه وهو يقول: (مِنْـها خَلَقْنَاكُـمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)، (هَذَا مَا وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).
فاصطفقت أبواب المسجد، وضجت الملائكة في السماء وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض: تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
ونـعاه جبريل ونادى بـالسما وعلــيه كادت بـالندا تتقطع
اليوم أركان الهدى قد هدمت اليوم شـمل المسلمين مــوزع
اليوم قد قتل ابن عم المصطفى اليوم قــد قتل الـوصي الأنزع
فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل صاحت: وا أبتاه وا علياه.
فخرج الحسنان إلى المسجد وهما يناديان: وا أبتاه وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة حتى وصلا المسجد وإذا بالإمام في محرابه والدماء تسيل على وجهه وشيبته ووجدوه مشقوق الرأس وقد علته الصفرة من انبعاث الدم وشدّة السم، فتقدّم الحسن (عليه السلام) وصلى بالناس وصلى أمير المؤمنين (عليه السلام) إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخرى، والحسن ينادي: وا انقطاع ظهراه يعز عليّ أن أراك هكذا.
ففتح الإمام (عليه السلام) عينه وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون ينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.
ثم شاع الخبر في الكوفة فهرع الناس رجالاً ونساءً حتى المخدرات خرجن من خدورهن إلى الجامع وهم ينادون: وا إماماه، قتل والله إمام عابد مجاهد، لم يسجد لصنم، كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد روي أسيد بن صفوان صاحب رسول الله قال: لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتج الموضع بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض النبي (صلى الله عليه وآله). فدخل الناس إلى المسجد فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره وقد شد الضربة وهي لم تزل تشخب دماً، ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة، وهو يرمق السماء بطرفه و لسانه يسبح الله ويوحده، فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه، فعندها بكى بكاء شديدا وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده، فسقطت من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكيا.
فقال له الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): يا بني يا حسن، ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم، يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا، وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما.
فقال له الحسن (عليه السلام): أبه من الذي فعل بك هذا؟
قال (عليه السلام): يا بني قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم المرادي.
فقال: يا أبه من أي طريق مضى؟
قال: لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب. وأشار بيده الشريفة إلى باب كندة.
ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه الشريفين حتى أغمي عليه ساعة، والناس ينتظرون قدوم ابن ملجم من باب كندة، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب، وقد غص المسجد بالناس ما بين باكٍ ومحزون، فما كانت إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت من الناس، وقد جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفا.
فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه، فأقبلوا به وهم يقولون له يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد بقتلك خير الناس.وهو صامت لا ينطق وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله يقول: هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه المسجد.
وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كـأنهما قطعتا علق، وقد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وصدره، ينظر يمينا وشمالا. فلما جاؤوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام) قال له: يا عدو الله أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك؟ هل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه، ثم قال له ابن ملجم: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذلك ضج الناس بالبكاء والنحيب، فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت. ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلى حذيفة وقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائما في داري إذ سمعت زوجتي صوت جبرائيل ينعى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى قتل ابن عم المصطفى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء، فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب! فانتبهت من كلامها فزعا مرعوبا، وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك، لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا، إن أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالى قبله تبعة ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام. فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع، وعلمت ما لم تعلم.
فقلت لها: وما سمعت؟
فأخبرتني بالصوت. ثم قالت: ما أظن بيتا في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.
قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام). فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعا وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يمينا وشمالا وإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وقد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ فتسمى بغير اسمه، وانتمى إلى غير كنيته.
فقلت له: مِن أين أقبلت؟
قال: من منزلي.
قلت: وإلى أين تريد أن تمضي في هذا الوقت؟
قال: إلى الحيرة.
فقلت: ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الغداة وتمضي في حاجتك؟
فقال: أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.
فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلا يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهل عندك من ذلك خبر؟
قال: لا علم لي بذلك.
فقلت له: ولم لا تمضي معي حتى نحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟
فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.
فلما قال لي مثل ذلك القول، قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من السؤال عن أمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ إذا والله ما لك عند الله من خلاق. وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة، فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول لا، فأنطق الله لسانه فقال: نعم. فرفعت سيفي وضربته فرفع سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقعته ووقع لحينه، ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.
فقال الإمام الحسن (عليه السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم، قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك. ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت أمرا عظيما، وخطبا جسيما، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار.
ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: ارفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرتجف خوفا وفزعا؟
فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): يا أبه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟
فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرما وعفوا، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به. ثم أمر أن يحملوه من ذلك المحراب إلى موضع مصلاه في منزله.
قال محمد بن الحنفية: فحملناه والناس حوله وهم في أمر عظيم، باكون محزونون قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب، وكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: وا أبتاه من لنا بعدك ولا يوم كيومك إلا يوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكأني بزينب لما نظرت إلى أمير المؤمنين وهو محمول على الأكتاف نادت: وا أبتاه وا علياه.
قال محمد بن الحنفية: لما طرحناه على فراشه أقبلت أم كلثوم وزينب وهما يندبانه ويقولان: من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا تبرح ولا ترقى.
قال: فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين على خديه وهو يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته.
اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعى الإمام بولديه الحسن والحسين وجعل يقبلهما ويحضنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحا من اللبن فشرب منه قليلا، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيّبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!!
وكان اللعين ابن ملجم محبوسا في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله فشرب اللبن.
-------------------------------
يتبع
كان الإمام قد بلغ من العمر ثلاثاً وستين سنة، وفي شهر رمضان عام أربعين للهجرة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر وليلة عند ابنته زينب الصغرى المكنات بأم كلثوم.
وفي الليلة التاسعة عشر كان الإمام في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره في طبق فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن حامض وجريش ملح، فقال لها: قدمت إدامين في طبق واحد وقد علمت أنني متبع ما كان يصنع ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قدّم له إدامان في
طبق واحد حتى قبضه الله إليه مكرماً، ارفعي أحدهما فإن من طاب مطعمه ومشربه طال وقوفه بين يدي الله. فرفعت اللبن الحامض بأمر منه وأفطر بالخبز والملح.
قالت أم كلثوم: ثم أكل قليلاً وحمد الله كثيراً وأخذ في الصلاة والدعاء ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرّعاً إلى الله تعالى، وكان يكثر الدخول والخروج وينظر إلى السماء ويقول: هي، هي والله الليلة التي وعدنيها حبيبي رسول الله. ثم رقد هنيئة وأنتبه وجعل يمسح وجهه بثوبه ونهض قائماً على قدميه وهو يقول: اللهم بارك لنا في لقائك. ثم صلى حتى ذهب بعض الليل، وجلس للتعقيب ثم نامت عيناه وهو جالس،فانتبه من نومته،وقالت أم كلثوم: قال لأولاده: إني رأيت في هذه الليلة رؤيا هالتني، وأريد أن أقصها عليكم.
قالوا: ما هي؟
قال: إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنك عندنا في العشر الأواخر من شهر رمضان، فهلمّ إلينا فما عندنا خير لك وأبقى.
قالت: فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثم أقبل عليهم يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر.
قالت أم كلثوم: لم يزل أبي تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذِبت ولا كذّبت،وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود إلى مصلاّه و يقول: اللهم بارك لي في الموت و يكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً.
قالت أم كلثوم: فلما رأيته في تلك الليلة قلقاً متململاً كثير الذكر والاستغفار، أرقت معه ليلتي وقلت: يا أبتاه مالي أراك هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟
قال: يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فقلت: يا أبه؛ مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟!
قال:بنية، قد قرب الأجل وانقطع الأمل. فبكيت، فقال لي: يا بنية لا تبكي، فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله). ثم إنه نعس وطوى ساعة ثم استيقظ من نومه وقال: يا بنية إذا قَرب الأذان فأعلميني، ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين (عليه السلام)، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه وكن قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله، صوائح تتبعها نوايح، وفي غداة غد يظهر القضاء فلما وصل إلى الباب فعالجه ليفتحه فتعلق الباب بمئزره فانحل حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
أشــدد حيازيمك للموت فــإن المــوت لاقـيكا
ولا تــــجزع من الموت إذ احـــلّ بـــواديكا
كما أضــحـكك الـدهر كـذاك الــدهر يبـكيكا
ثم قال: اللهم بارك لنا في الموت، اللهم بارك لنا في لقائك.
قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعته يقول ذلك قلت: واغوثاه يا أبتاه أراك تنعى نفسك منذ الليلة.
قال: يا بنية ما هو بنعاء ولكنها دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضا، ثم فتح الباب وخرج إلى المسجد وهو ينشأ ويقول:
خـلوا سبيل المـؤمن المـجاهد فـي الله ذي الكتب وذي المشاهد
فـي الله لا يــعبد غير الواحد ويـوقظ الناس إلـى المســاجد
قالت أم كلثوم: فجئت إلى أخي الحسن (عليه السلام) فقلت: يا أخي قد كان أمر أبيك الليلة كذا وكذا، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس فألحقه.
فقام الحسن بن علي (عليه السلام) وتبعه فلحق به قبل أن يدخل المسجد فأمره بالرجوع فرجع.
وكان عدو الله ابن ملجم متخفيا في بيوت الخوارج بالكوفة يتربص الغفلة وينتهز الفرصة بأمير المؤمنين (عليه السلام) وانبرى لمساعدة ابن ملجم شخصان آخران من الخوارج هما شبيب بن بحره ووردان بن مجالد، وسار الإمام إلى المسجد فصلى النافلة في المسجد ثم علا المئذنة فأذن، فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوت أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره و يكثر من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة، الصلاة يرحمك الله، قم إلى الصلاة المكتوبة، ثم يتلو (إنّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ) لم يزل الإمام يفعل ذلك حتى وصل إلى ابن ملجم وهو نائم على وجهه وقد أخفى سيفه تحت إزاره، فقال له الإمام: يا هذا قم من نومتك هذه فإنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار، بل نم على يمينك فإنها نومة العلماء، أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، أو نم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
ثم قال له الإمام: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك. ثم تركه، واتجه إلى المحراب وبدأ يصلي وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في صلاته، فقام الشقي ابن ملجم وأقبل مسرعاً يمشي حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام يصلي عندها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى ورفع رأسه منها وشد عليه اللعين ابن ملجم فضرب الإمام على رأسه فشقه نصفين، فوقع يخور في دمه وهو يقول: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله؛ ثم صاح الإمام فزت ورب الكعبة.
وقد وقعت الضربة على مكان الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ود العامري في واقعة الخندق، ثم اتم صلاته من جلوس؛ فجعل يشد الضربة ويضع التراب على رأسه وهو يقول: (مِنْـها خَلَقْنَاكُـمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)، (هَذَا مَا وَعَدَنا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ).
فاصطفقت أبواب المسجد، وضجت الملائكة في السماء وهبت ريح عاصفة سوداء مظلمة، ونادى جبرائيل بين السماء والأرض: تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قتل ابن عم المصطفى، قتل الوصي المجتبى، قتل علي المرتضى، قتل سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء.
ونـعاه جبريل ونادى بـالسما وعلــيه كادت بـالندا تتقطع
اليوم أركان الهدى قد هدمت اليوم شـمل المسلمين مــوزع
اليوم قد قتل ابن عم المصطفى اليوم قــد قتل الـوصي الأنزع
فلما سمعت أم كلثوم نعي جبرائيل صاحت: وا أبتاه وا علياه.
فخرج الحسنان إلى المسجد وهما يناديان: وا أبتاه وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة حتى وصلا المسجد وإذا بالإمام في محرابه والدماء تسيل على وجهه وشيبته ووجدوه مشقوق الرأس وقد علته الصفرة من انبعاث الدم وشدّة السم، فتقدّم الحسن (عليه السلام) وصلى بالناس وصلى أمير المؤمنين (عليه السلام) إيماء من جلوس وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمته يميل تارة ويسكن أخرى، والحسن ينادي: وا انقطاع ظهراه يعز عليّ أن أراك هكذا.
ففتح الإمام (عليه السلام) عينه وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون ينتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً وقر عيناً وكف عن البكاء فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.
ثم شاع الخبر في الكوفة فهرع الناس رجالاً ونساءً حتى المخدرات خرجن من خدورهن إلى الجامع وهم ينادون: وا إماماه، قتل والله إمام عابد مجاهد، لم يسجد لصنم، كان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد روي أسيد بن صفوان صاحب رسول الله قال: لما كان اليوم الذي قبض فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتج الموضع بالبكاء، ودهش الناس كيوم قبض النبي (صلى الله عليه وآله). فدخل الناس إلى المسجد فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره وقد شد الضربة وهي لم تزل تشخب دماً، ووجهه قد زاد بياضاً بصفرة، وهو يرمق السماء بطرفه و لسانه يسبح الله ويوحده، فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشياً عليه، فعندها بكى بكاء شديدا وجعل يقبل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده، فسقطت من دموعه قطرات على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح عينيه فرآه باكيا.
فقال له الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): يا بني يا حسن، ما هذا البكاء؟ يا بني لا روع على أبيك بعد اليوم، يا بني أتجزع على أبيك وغداً تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويقتل أخوك بالسيف هكذا، وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما.
فقال له الحسن (عليه السلام): أبه من الذي فعل بك هذا؟
قال (عليه السلام): يا بني قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم المرادي.
فقال: يا أبه من أي طريق مضى؟
قال: لا يمضي أحد في طلبه فإنه سيطلع عليكم من هذا الباب. وأشار بيده الشريفة إلى باب كندة.
ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه الشريفين حتى أغمي عليه ساعة، والناس ينتظرون قدوم ابن ملجم من باب كندة، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب، وقد غص المسجد بالناس ما بين باكٍ ومحزون، فما كانت إلا ساعة وإذا بالصيحة قد ارتفعت من الناس، وقد جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفا.
فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه، فأقبلوا به وهم يقولون له يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد بقتلك خير الناس.وهو صامت لا ينطق وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي بيده سيف مشهور وهو يرد الناس عن قتله يقول: هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه المسجد.
وكانت عيناه قد طارتا في أم رأسه كـأنهما قطعتا علق، وقد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه والدم يسيل على لحيته وصدره، ينظر يمينا وشمالا. فلما جاؤوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما نظر إليه الحسن (عليه السلام) قال له: يا عدو الله أنت قاتل أمير المؤمنين ومثكلنا بإمام المسلمين؟ هذا جزاؤه منك حيث آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك؟ هل كان بئس الإمام لك حتى جازيته هذا الجزاء يا شقي؟ فلم يتكلم بل دمعت عيناه، ثم قال له ابن ملجم: يا أبا محمد أفأنت تنقذ من في النار؟ فعند ذلك ضج الناس بالبكاء والنحيب، فأمر الحسن (عليه السلام) بالسكوت. ثم التفت الحسن (عليه السلام) إلى حذيفة وقال له: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته؟ فقال: يا مولاي كنت نائما في داري إذ سمعت زوجتي صوت جبرائيل ينعى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: تهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى قتل ابن عم المصطفى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء، فأيقظتني وقالت لي: أنت نائم؟ وقد قتل إمامك علي بن أبي طالب! فانتبهت من كلامها فزعا مرعوبا، وقلت لها: يا ويلك ما هذا الكلام؟ رض الله فاك، لعل الشيطان قد ألقى في سمعك هذا، إن أمير المؤمنين ليس لأحد من خلق الله تعالى قبله تبعة ولا ظلامة، فمن ذا الذي يقدر على قتل أمير المؤمنين؟ وهو الأسد الضرغام والبطل الهمام والفارس القمقام. فأكثرت علي وقالت: إني سمعت ما لم تسمع، وعلمت ما لم تعلم.
فقلت لها: وما سمعت؟
فأخبرتني بالصوت. ثم قالت: ما أظن بيتا في الكوفة إلا وقد دخله هذا الصوت.
قال: وبينما أنا وهي في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وجلبة وقائل يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام). فحس قلبي بالشر فمددت يدي إلى سيفي وسللته من غمده، وأخذته ونزلت مسرعا وفتحت باب داري وخرجت، فلما صرت في وسط الجادة نظرت يمينا وشمالا وإذا بعدو الله يجول فيها، يطلب مهرباً فلم يجد، وقد انسدت الطرقات في وجهه، فلما نظرت إليه وهو كذلك رابني أمره فناديته: من أنت وما تريد؟ فتسمى بغير اسمه، وانتمى إلى غير كنيته.
فقلت له: مِن أين أقبلت؟
قال: من منزلي.
قلت: وإلى أين تريد أن تمضي في هذا الوقت؟
قال: إلى الحيرة.
فقلت: ولم لا تقعد حتى تصلي مع أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الغداة وتمضي في حاجتك؟
فقال: أخشى أن أقعد للصلاة فتفوتني حاجتي.
فقلت: يا ويلك إني سمعت صيحة وقائلا يقول: قتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهل عندك من ذلك خبر؟
قال: لا علم لي بذلك.
فقلت له: ولم لا تمضي معي حتى نحقق الخبر وتمضي في حاجتك؟
فقال: أنا ماض في حاجتي وهي أهم من ذلك.
فلما قال لي مثل ذلك القول، قلت: يا لكع الرجال حاجتك أحب إليك من السؤال عن أمير المؤمنين وإمام المسلمين؟ إذا والله ما لك عند الله من خلاق. وحملت عليه بسيفي وهممت أن أعلو به، فراغ عني فبينما أنا أخاطبه وهو يخاطبني إذ هبت ريح فكشفت إزاره وإذا بسيفه يلمع تحت الإزار وكأنه مرآة مصقولة، فلما رأيت بريقه تحت ثيابه قلت: يا ويلك ما هذا السيف المشهور تحت ثيابك؟ لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين فأراد أن يقول لا، فأنطق الله لسانه فقال: نعم. فرفعت سيفي وضربته فرفع سيفه وهم أن يعلوني به فانحرفت عنه فضربته على ساقيه فأوقعته ووقع لحينه، ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة وأردت أخذ سيفه فمانعني عنه، فخرج أهل الحيرة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به، فهو بين يديك جعلني الله فداك فاصنع به ما شئت.
فقال الإمام الحسن (عليه السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام): هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم، قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك. ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار صوت ورأفة ورحمة: يا هذا لقد جئت أمرا عظيما، وخطبا جسيما، أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ألم أكن شفيقاً عليك وآثرتك على غيرك وأحسنت إليك وزدت في عطائك؟ ألم أكن يقال لي فيك كذا وكذا، فخليت لك السبيل ومنحتك عطائي؟ وقد كنت أعلم أنك قاتلي لا محالة، ولكن رجوت بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك يا لكع، فغلبت عليك الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟ فدمعت عينا ابن ملجم وقال: يا أمير المؤمنين أفأنت تنقذ من في النار.
ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: ارفق يا ولدي بأسيرك، وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أم رأسه وقلبه يرتجف خوفا وفزعا؟
فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): يا أبه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به؟
فقال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرما وعفوا، والرحمة والشفقة من شيمتنا، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله واسقه مما تشرب، ولا تقيد له قدما ولا تغل له يدا، فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة وإن أنا عشت فأنا أولى به بالعفو عنه وأنا أعلم بما أفعل به. ثم أمر أن يحملوه من ذلك المحراب إلى موضع مصلاه في منزله.
قال محمد بن الحنفية: فحملناه والناس حوله وهم في أمر عظيم، باكون محزونون قد أشرفوا على الهلاك من شدة البكاء والنحيب، وكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: وا أبتاه من لنا بعدك ولا يوم كيومك إلا يوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكأني بزينب لما نظرت إلى أمير المؤمنين وهو محمول على الأكتاف نادت: وا أبتاه وا علياه.
قال محمد بن الحنفية: لما طرحناه على فراشه أقبلت أم كلثوم وزينب وهما يندبانه ويقولان: من للصغير حتى يكبر، ومن للكبير بين الملأ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا تبرح ولا ترقى.
قال: فضج الناس من وراء الحجرة بالبكاء والنحيب، وفاضت دموع أمير المؤمنين على خديه وهو يقلّب طرفه وينظر إلى أهل بيته.
اجتمع الأطباء والجراحون فوصفوا للإمام اللبن، لأن سيف ابن ملجم كان مسموماً، فكان اللبن طعامه وشرابه، ودعى الإمام بولديه الحسن والحسين وجعل يقبلهما ويحضنهما لأنه علم أنه سيفارقهما وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحا من اللبن فشرب منه قليلا، ثم نحاه عن فمه وقال: احملوه إلى أسيركم! ثم قال للحسن: يا بني بحقي عليك إلا ما طيّبتم مطعمه ومشربه وارفقوا به وتطعمه مما تأكل، وتسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!!
وكان اللعين ابن ملجم محبوسا في بيت، فحملوا إليه اللبن وأخبروه بعطف الإمام وحنانه على قاتله فشرب اللبن.
-------------------------------
يتبع
تعليق