بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
[نص الشبهة]
أ- دعاء غير اللّه :
قال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب مؤسس المذهب الوهّابي في كتابه (الأصول الثلاثة و أدلّتها) ص 4 منه:
اعلم رحمك اللّه أنّه يجب على كلّ مسلم و مسلمة تعلّم هذه الثلاث مسائل والعمل بهنّ :
الأولى - أنّ اللّه خلقنا ....
الثّانية- أنّ اللّه لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .
وقال في ص 5 منه : انّ الحنيفية ملّة إبراهيم أن تعبد اللّه وحده مخلصا له الدّين، و بذلك أمر جميع الناس و خلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومعنى يعبدون يوحّدوني. و أعظم ما أمر اللّه به التوحيد، و هو إفراد اللّه بالعبادة، و أعظم ما نهى عنه الشرك و هو دعوة غيره معه- إلى قوله في ص 8 منه:- و الدليل قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ....
وقال في ص 46 منه: القاعدة الرابعة: إنّ مشركي زماننا أغلظ شركا من الأوّلين، لأنّ الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة، ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدّة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
وقال في ص 8 من رسالته (الدين وشروط الصّلاة) (1) ما ملخّصه :
العبادة لها أنواع كثيرة؛ منها الدعاء، الدليل قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ.
وورد في رسالة (شفاء الصدور) الّتي أصدرتها دار الإفتاء العامّة ردّا على رسالة الجواب المشكور ص 3:
رفعوا إلى خليفة زعماء دعوة التوحيد و الّذين أزاحوا غياهب الشرك عن هذه البلاد- أي عن مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة - وطهّروها من أدرانه وقضوا على كلّ أثر له ... (2) .
يقصدون بدعاء غير اللّه أو مع اللّه أن يقول المسلم مثلا: (يا رسول اللّه) للتوسّل به إلى اللّه، أو يدعو غيره من أولياء اللّه كذلك. و أدلّتهم كلّها تدور حول قوله تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ ونظائرها ممّا نهى اللّه عن الدّعاء مع اللّه أو غير اللّه.
ب - حكم غير اللّه :
حكم غير اللّه مثله كمثل دعاء غير اللّه و قال مخالفوهم: ما أشبه الليلة بالبارحة! و ما أشبه هذا الاستدلال باستدلال الخوارج في تكفير من رضي بالتحكيم في صفّين بأمثال قوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
وقوله : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114] .
[جواب الشبهة]
[تمهيد يتعلق بالخوارج ومنشأ توهمهم]
... كان بداية ذلك في معركة صفّين، عندما أمر معاوية برفع كتاب اللّه على الرماح و دعوة جيش العراق إلى قبول حكم القرآن، و انخداع أكثرية قراء جيش العراق بذلك، و إجبارهم الإمام عليّا بترك القتال وقبول دعوة معاوية بالتحكيم، ثمّ تعيين معاوية من قبله عمرو بن العاص حكما، و إجبار جيش العراق الإمام عليّا على تعيين أبي موسى الأشعري حكما من قبله. فلمّا اجتمع الحكمان و خدع عمرو بن العاص أبا موسى و قال له: نخلع عليّا و معاوية و نترك الأمر للناس ليختاروا لهم إماما. و سبق أبو موسى عمرا بالكلام و قال: أنا أخلع عليّا و معاوية عن الأمر ليختار المسلمون لهم إماما. ثمّ خطب بعده ابن العاص وقال: إنّه خلع صاحبه كما رأيتم، و أنا أنصب صاحبي للإمامة. فتنازعا و تسابّا و افترقا. بعد هذا أحسّ من قبل التحكيم من جيش العراق بخطئهم و نادوا بشعار: «لا حكم إلّا للّه» و قالوا: إنّا كفرنا بقبولنا التحكيم، و تبنا إلى اللّه، و يجب على الآخرين أن يعترفوا بالكفر، ثمّ يتوبوا مثلنا؛ و من لم يفعل، فأولئك هم الكافرون.
وهكذا كفّروا أوّلا من اشترك في تلك الحوادث من عائشة و عثمان و عليّ و طلحة و الزبير و معاوية و عمرو بن العاص و من تبعهم؛ ثمّ شمل حكمهم بالكفر عامّة المسلمين، و سمّوا أنفسهم بالشّراة، و وضعوا سيوفهم قرونا طويلة على عواتقهم يقتلون بها المسلمين و يقتلون (3) .
وصدق رسول اللّه ( صلى الله عليه [ واله ] ) حيث أخبر عن الخوارج و قال: يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد (4) .
وفي أحاديث أخرى: لأقتلنّهم قتل ثمود (5) .
جواب مخالفيهم في المسألتين [دعاء غير الله وحكم غير الله] :
يقول في جواب هؤلاء وأولئك مخالفوهم بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، و إذا كان قد ورد في القرآن قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فقد ورد فيه أيضا قوله تعالى : {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}[المائدة: 42] .
فقد خوّل نبيّه في هذه الآية أن يحكم بين أهل الكتاب، و في آية أخرى أمر بأن يتّخذوا حكما من النّاس بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
ولا منافاة بين الآيتين ، فإنّ الآية الأولى عند ما أثبتت (الحكم) للّه لم تثبت له حكما محدودا مثل ما للقضاة في المحاكم بأنّ لهم أن يحكموا بين الناس بموجب القوانين المرعيّة، و أنّه ليس لهم أن يعيّنوا حاكما من قبلهم، و إنّما ذلك لذي سلطة أعلى، وعلى هذا فليس للقضاة (الحكم) مطلقا، وإنّما لهم أن يحكموا بين الناس فحسب، و لكنّ اللّه له أن يحكم بين الناس بموجب حكمه، وله أن يأذن لغيره بالحكم، أي: له أن يعيّن حاكما على أي جهة في ملكه، فله الحكم مطلقا. وعلى هذا فإن الأنبياء بحكم اللّه يحكمون، حين يحكمون، و كذلك الاثنان اللّذان يحكمان بين الزوجين. إذا فإنّ حكم أولئك الحكّام إذا حكموا بموجب ما أمر اللّه، ليس حكم ما سوى اللّه، و لا حكم غير اللّه، و لا حكم دون اللّه، و لا حكم مع اللّه، و إنّما هو حكم بأمر اللّه و حكم بإذن اللّه.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى بعض الآيات الأخرى الّتي تثبت بعض الصفات للّه فإنّها لا تثبتها للّه محدودة بحدّ، و إنّما تثبتها للّه مطلقا. مثل إثبات صفة الملك للّه تعالى.
صفة الملك للّه :
لا منافاة في إثبات صفة الملك للّه في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة: 18] ، وقوله تعالى : {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}[الإسراء: 111] ، وأمثالهما.
وبين قوله تعالى : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وآيات أخرى مثلها، لأنّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
إذا فإنّ اللّه تعالى حين يملّك عبده لم يملك العبد عندئذ مع اللّه، ولم يملك غير اللّه و لا سوى اللّه ولا دون اللّه، وإنّما العبد وما يملك لمولاه ، وإنّ تملّك العبد بإذن اللّه من أجلى مصاديق (الملك للّه)، أي : إنّ ملك اللّه ليس محدودا كملك عبيده الّذي يحدّ بحدود مشيئة اللّه وإذن اللّه ، ولا حول للعبد أن يتصرّف في ما خوّله اللّه بأكثر مما حدّد اللّه له في التصرّف من زمان ومكان وسيطرة. وكذلك الشأن في صفة الخالقية.
الخالق والمحيي :
كذلك شأن صفة (الخالق) و (المحيي)، فإنّه سبحانه و تعالى : {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 102]. و{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. وقال اللّه تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80]. وقال: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الشورى: 9].
ولا منافاة بين هذا و بين أن يأذن لعيسى بن مريم (عليه السلام) أن يخلق ويحيي كما قال سبحانه مخاطبا إيّاه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وقوله تعالى عن لسان عيسى : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] .
فإنّ اللّه سبحانه حين يخلق ليس كالآلة الصّانعة لا يحول عن عمله و لا يزول- جلّ عن ذلك- و ليس كالبشر حين يعمل لا يستطيع أن يهب قدرة العمل لغيره، بل إنّه قادر أن يخلق الحياة، إنسانا كان أو حيوانا، من طريق اللّقاح بين الزّوجين، ويستطيع أن يخلقه بيديه دون أب ولا أمّ، مثل آدم، و يقدر كذلك أن يأذن لعيسى فيخلق بإذنه، والخالق في كلّ ذلك هو اللّه تعالى.
وكذلك شأن الإحياء، فإنّه قادر على أن يحيي الموتى بلا واسطة يوم القيامة، وقادر على أن يهب الإحياء لرسوله عيسى بن مريم (عليهما السلام) فيحيي الموتى بإذنه، وقادر على أن يجعل الإحياء في ضرب بعض بقرة بني إسرائيل الصّفراء بميّتهم المقتول فيحيا المقتول و يخبرهم عن قاتله (6) .
وإنّ عيسى بن مريم حين خلق الطير و أحيا الموتى، كان الخلق و الإحياء بإذن اللّه، و على هذا فإنّ عيسى حين خلق الطّير و أحيا الموتى لم يخلق مع اللّه، و لم يحي مع اللّه، و لم يخلق و لم يحي غير اللّه و لا دون اللّه، و إنّما خلق و أحيا بإذن اللّه.
الوليّ والشفيع :
وكذلك شأن صفة الوليّ و الشّفيع:
فإنّه لا منافاة في شأن الشفاعة بين قوله تعالى:
أ- { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] .
ب- {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] .
ج- {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [الأنعام: 51] .
د- {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] .
وبين قوله تعالى:
أ- { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3] .
ب- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
ج- {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [طه: 109].
د- {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... } [سبأ: 23].
هـ - {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] .
و- {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
فإنّه تعالى حين يأذن لعباده الصّالحين أن يشفعوا، كانت الشّفاعة للّه فأذن لهم أن يشفعوا. فالشفيع عندئذ ليس دون اللّه.
وكذلك شأن الولي: فإنّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [التوبة: 116] .
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107] .
وقوله: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] .
هذه الأقوال لا تنافي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة: 55] .
لا منافاة بينهما و ليس شركا أن نقول: اللّه وليّنا و رسوله و من يقيم الصّلاة و يؤتي الزّكاة في الركوع من المؤمنين، لأنّ الولاية للّه وهو الّذي أعطى هذه الولاية لهما كما أعطى للوالد الولاية على ولده.
في كلّ الصّفات المذكورة صحّ أن يقال: اللّه، هو الحاكم و المالك و الشفيع و الولي و ... و صحّ- أيضا- أن يقال لمن منح من عبيده هذه الصفات: المالك و الحاكم و الشفيع و الولي. و إنّ أوضح مثال لما قلنا، المورد الآتي.
من يتوفّى الأنفس :
قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] .
وقال: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] .
وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] .
وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .
فمن قال: إنّ الملائكة تتوفّى الأنفس حين موتها بإذن اللّه، لم يكذب و لم يشرك، و من قال: ملك الموت عزرائيل يتوفّى الأنفس حين موتها بإذن اللّه، لم يكذب و لم يشرك. و لا منافاة بين القولين و بين القول بأنّ اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها، و في كلّ هذه الحالات لم يتوفّ الأنفس غير اللّه و لا مع اللّه بل إنّ اللّه هو الذي توفّاها (7) .
وكذلك الشّأن بالنسبة إلى الصفات الأخرى المذكورة سابقا.
دعوة الرّسول( صلى الله عليه [ واله ] ) و التوسّل به إلى اللّه :
بناء على ما بيّنّا بأنّ كلّا من الحاكم و المالك و الشّفيع و الخالق و المحيي و المميت و الوليّ إذا كان بإذن اللّه فليس ثمّت غير اللّه و لا دون اللّه و لا مع اللّه، بناء على ذلك فإنّ دعوة النبيّ (صلى الله عليه [ واله ] ) في التوسّل به إلى اللّه- أيضا- إذا كان بإذن اللّه، فليس ثمّت دعاءغير اللّه و لا دون اللّه و لا مع اللّه، و ليس من مصاديق ما نهى اللّه عنه في قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .
و... في الحديث المرويّ بمسند أحمد و سنن الترمذي و ابن ماجة و رواية البيهقي و الّتي صحّحوها بأن رسول اللّه ( صلى الله عليه [ واله ] ) علّم الصحابي الضرير أن يدعو بعد الصّلاة ويقول:
«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى لي. اللّهمّ فشفّعه فيّ» (8) .
فقضى اللّه حاجته و شفّع رسوله فيه وشافاه، وإنّ هذا النوع من التوسّل من مصاديق قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [الإسراء: 57].
__________________
(1) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني 295 شارع رمسيس بالقاهرة سنة 1380- و رسالة الدين و شروطها أيضا طبع فيها بلا تاريخ.
(2) رسالة شفاء الصدور، ط. الأولى مؤسسة النور للطباعة و التجليد.
(3) راجع أخبار يوم صفّين في تاريخ الطبري و ابن الأثير و ابن كثير، ثمّ أخبار الخوارج فيها و في غيرها من كتب التاريخ.
(4) كان ذلك عند ما بعث ابن عمّ الرسول عليّ من اليمن بذهيبة إلى الرسول فقسّمها بين أربعة من المؤلفة قلوبهم، فتغضبت قريش و الأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد و يدعنا! قال: إنّما أتألّفهم. فأقبل رجل ... محلوق الرأس فقال: يا محمد، اتق اللّه! فقال النبي(صلى الله عليه واله): فمن يطيع اللّه إذا عصيته، أ يأمنني على أهل الأرض و لا تأمنوني!؟ فلمّا ولى، قال النبي( صلى الله عليه واله) إنّ من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الاسلام- الحديث. صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللّه تعالى : {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ ... } [المعارج: 4]. و صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج و صفاتهم ح 143 ص 741.
(5) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج و صفاتهم، ح 143 و 144 و 145 و 146.
(6) إشارة إلى الآيات 67- 73 من سورة البقرة.
(7) هذا الاستدلال مستفاد من قول الإمام عليّ، برواية الصدوق عنه في باب الردّ على الثنوية و الزنادقة بكتاب التوحيد، ص: 241.
(8) راجع مصادره في باب الاستشفاع برسول اللّه في حياته من هذه المقدّمة.
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
[نص الشبهة]
أ- دعاء غير اللّه :
قال الشيخ محمد بن عبد الوهّاب مؤسس المذهب الوهّابي في كتابه (الأصول الثلاثة و أدلّتها) ص 4 منه:
اعلم رحمك اللّه أنّه يجب على كلّ مسلم و مسلمة تعلّم هذه الثلاث مسائل والعمل بهنّ :
الأولى - أنّ اللّه خلقنا ....
الثّانية- أنّ اللّه لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، والدليل قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .
وقال في ص 5 منه : انّ الحنيفية ملّة إبراهيم أن تعبد اللّه وحده مخلصا له الدّين، و بذلك أمر جميع الناس و خلقهم لها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ومعنى يعبدون يوحّدوني. و أعظم ما أمر اللّه به التوحيد، و هو إفراد اللّه بالعبادة، و أعظم ما نهى عنه الشرك و هو دعوة غيره معه- إلى قوله في ص 8 منه:- و الدليل قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ....
وقال في ص 46 منه: القاعدة الرابعة: إنّ مشركي زماننا أغلظ شركا من الأوّلين، لأنّ الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدّة، ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدّة، والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
وقال في ص 8 من رسالته (الدين وشروط الصّلاة) (1) ما ملخّصه :
العبادة لها أنواع كثيرة؛ منها الدعاء، الدليل قوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ.
وورد في رسالة (شفاء الصدور) الّتي أصدرتها دار الإفتاء العامّة ردّا على رسالة الجواب المشكور ص 3:
رفعوا إلى خليفة زعماء دعوة التوحيد و الّذين أزاحوا غياهب الشرك عن هذه البلاد- أي عن مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة - وطهّروها من أدرانه وقضوا على كلّ أثر له ... (2) .
يقصدون بدعاء غير اللّه أو مع اللّه أن يقول المسلم مثلا: (يا رسول اللّه) للتوسّل به إلى اللّه، أو يدعو غيره من أولياء اللّه كذلك. و أدلّتهم كلّها تدور حول قوله تعالى: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ ونظائرها ممّا نهى اللّه عن الدّعاء مع اللّه أو غير اللّه.
ب - حكم غير اللّه :
حكم غير اللّه مثله كمثل دعاء غير اللّه و قال مخالفوهم: ما أشبه الليلة بالبارحة! و ما أشبه هذا الاستدلال باستدلال الخوارج في تكفير من رضي بالتحكيم في صفّين بأمثال قوله تعالى : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
وقوله : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114] .
[جواب الشبهة]
[تمهيد يتعلق بالخوارج ومنشأ توهمهم]
... كان بداية ذلك في معركة صفّين، عندما أمر معاوية برفع كتاب اللّه على الرماح و دعوة جيش العراق إلى قبول حكم القرآن، و انخداع أكثرية قراء جيش العراق بذلك، و إجبارهم الإمام عليّا بترك القتال وقبول دعوة معاوية بالتحكيم، ثمّ تعيين معاوية من قبله عمرو بن العاص حكما، و إجبار جيش العراق الإمام عليّا على تعيين أبي موسى الأشعري حكما من قبله. فلمّا اجتمع الحكمان و خدع عمرو بن العاص أبا موسى و قال له: نخلع عليّا و معاوية و نترك الأمر للناس ليختاروا لهم إماما. و سبق أبو موسى عمرا بالكلام و قال: أنا أخلع عليّا و معاوية عن الأمر ليختار المسلمون لهم إماما. ثمّ خطب بعده ابن العاص وقال: إنّه خلع صاحبه كما رأيتم، و أنا أنصب صاحبي للإمامة. فتنازعا و تسابّا و افترقا. بعد هذا أحسّ من قبل التحكيم من جيش العراق بخطئهم و نادوا بشعار: «لا حكم إلّا للّه» و قالوا: إنّا كفرنا بقبولنا التحكيم، و تبنا إلى اللّه، و يجب على الآخرين أن يعترفوا بالكفر، ثمّ يتوبوا مثلنا؛ و من لم يفعل، فأولئك هم الكافرون.
وهكذا كفّروا أوّلا من اشترك في تلك الحوادث من عائشة و عثمان و عليّ و طلحة و الزبير و معاوية و عمرو بن العاص و من تبعهم؛ ثمّ شمل حكمهم بالكفر عامّة المسلمين، و سمّوا أنفسهم بالشّراة، و وضعوا سيوفهم قرونا طويلة على عواتقهم يقتلون بها المسلمين و يقتلون (3) .
وصدق رسول اللّه ( صلى الله عليه [ واله ] ) حيث أخبر عن الخوارج و قال: يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد (4) .
وفي أحاديث أخرى: لأقتلنّهم قتل ثمود (5) .
جواب مخالفيهم في المسألتين [دعاء غير الله وحكم غير الله] :
يقول في جواب هؤلاء وأولئك مخالفوهم بأنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، و إذا كان قد ورد في القرآن قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فقد ورد فيه أيضا قوله تعالى : {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}[المائدة: 42] .
فقد خوّل نبيّه في هذه الآية أن يحكم بين أهل الكتاب، و في آية أخرى أمر بأن يتّخذوا حكما من النّاس بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
ولا منافاة بين الآيتين ، فإنّ الآية الأولى عند ما أثبتت (الحكم) للّه لم تثبت له حكما محدودا مثل ما للقضاة في المحاكم بأنّ لهم أن يحكموا بين الناس بموجب القوانين المرعيّة، و أنّه ليس لهم أن يعيّنوا حاكما من قبلهم، و إنّما ذلك لذي سلطة أعلى، وعلى هذا فليس للقضاة (الحكم) مطلقا، وإنّما لهم أن يحكموا بين الناس فحسب، و لكنّ اللّه له أن يحكم بين الناس بموجب حكمه، وله أن يأذن لغيره بالحكم، أي: له أن يعيّن حاكما على أي جهة في ملكه، فله الحكم مطلقا. وعلى هذا فإن الأنبياء بحكم اللّه يحكمون، حين يحكمون، و كذلك الاثنان اللّذان يحكمان بين الزوجين. إذا فإنّ حكم أولئك الحكّام إذا حكموا بموجب ما أمر اللّه، ليس حكم ما سوى اللّه، و لا حكم غير اللّه، و لا حكم دون اللّه، و لا حكم مع اللّه، و إنّما هو حكم بأمر اللّه و حكم بإذن اللّه.
وكذلك الشأن بالنسبة إلى بعض الآيات الأخرى الّتي تثبت بعض الصفات للّه فإنّها لا تثبتها للّه محدودة بحدّ، و إنّما تثبتها للّه مطلقا. مثل إثبات صفة الملك للّه تعالى.
صفة الملك للّه :
لا منافاة في إثبات صفة الملك للّه في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة: 18] ، وقوله تعالى : {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}[الإسراء: 111] ، وأمثالهما.
وبين قوله تعالى : {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وآيات أخرى مثلها، لأنّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
إذا فإنّ اللّه تعالى حين يملّك عبده لم يملك العبد عندئذ مع اللّه، ولم يملك غير اللّه و لا سوى اللّه ولا دون اللّه، وإنّما العبد وما يملك لمولاه ، وإنّ تملّك العبد بإذن اللّه من أجلى مصاديق (الملك للّه)، أي : إنّ ملك اللّه ليس محدودا كملك عبيده الّذي يحدّ بحدود مشيئة اللّه وإذن اللّه ، ولا حول للعبد أن يتصرّف في ما خوّله اللّه بأكثر مما حدّد اللّه له في التصرّف من زمان ومكان وسيطرة. وكذلك الشأن في صفة الخالقية.
الخالق والمحيي :
كذلك شأن صفة (الخالق) و (المحيي)، فإنّه سبحانه و تعالى : {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 102]. و{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]. وقال اللّه تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [المؤمنون: 80]. وقال: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الشورى: 9].
ولا منافاة بين هذا و بين أن يأذن لعيسى بن مريم (عليه السلام) أن يخلق ويحيي كما قال سبحانه مخاطبا إيّاه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وقوله تعالى عن لسان عيسى : {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] .
فإنّ اللّه سبحانه حين يخلق ليس كالآلة الصّانعة لا يحول عن عمله و لا يزول- جلّ عن ذلك- و ليس كالبشر حين يعمل لا يستطيع أن يهب قدرة العمل لغيره، بل إنّه قادر أن يخلق الحياة، إنسانا كان أو حيوانا، من طريق اللّقاح بين الزّوجين، ويستطيع أن يخلقه بيديه دون أب ولا أمّ، مثل آدم، و يقدر كذلك أن يأذن لعيسى فيخلق بإذنه، والخالق في كلّ ذلك هو اللّه تعالى.
وكذلك شأن الإحياء، فإنّه قادر على أن يحيي الموتى بلا واسطة يوم القيامة، وقادر على أن يهب الإحياء لرسوله عيسى بن مريم (عليهما السلام) فيحيي الموتى بإذنه، وقادر على أن يجعل الإحياء في ضرب بعض بقرة بني إسرائيل الصّفراء بميّتهم المقتول فيحيا المقتول و يخبرهم عن قاتله (6) .
وإنّ عيسى بن مريم حين خلق الطير و أحيا الموتى، كان الخلق و الإحياء بإذن اللّه، و على هذا فإنّ عيسى حين خلق الطّير و أحيا الموتى لم يخلق مع اللّه، و لم يحي مع اللّه، و لم يخلق و لم يحي غير اللّه و لا دون اللّه، و إنّما خلق و أحيا بإذن اللّه.
الوليّ والشفيع :
وكذلك شأن صفة الوليّ و الشّفيع:
فإنّه لا منافاة في شأن الشفاعة بين قوله تعالى:
أ- { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 43، 44] .
ب- {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] .
ج- {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } [الأنعام: 51] .
د- {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] .
وبين قوله تعالى:
أ- { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3] .
ب- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
ج- {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } [طه: 109].
د- {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... } [سبأ: 23].
هـ - {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] .
و- {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
فإنّه تعالى حين يأذن لعباده الصّالحين أن يشفعوا، كانت الشّفاعة للّه فأذن لهم أن يشفعوا. فالشفيع عندئذ ليس دون اللّه.
وكذلك شأن الولي: فإنّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } [التوبة: 116] .
وقوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107] .
وقوله: { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} [الكهف: 102] .
هذه الأقوال لا تنافي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة: 55] .
لا منافاة بينهما و ليس شركا أن نقول: اللّه وليّنا و رسوله و من يقيم الصّلاة و يؤتي الزّكاة في الركوع من المؤمنين، لأنّ الولاية للّه وهو الّذي أعطى هذه الولاية لهما كما أعطى للوالد الولاية على ولده.
في كلّ الصّفات المذكورة صحّ أن يقال: اللّه، هو الحاكم و المالك و الشفيع و الولي و ... و صحّ- أيضا- أن يقال لمن منح من عبيده هذه الصفات: المالك و الحاكم و الشفيع و الولي. و إنّ أوضح مثال لما قلنا، المورد الآتي.
من يتوفّى الأنفس :
قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] .
وقال: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] .
وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] .
وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11].
وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] .
فمن قال: إنّ الملائكة تتوفّى الأنفس حين موتها بإذن اللّه، لم يكذب و لم يشرك، و من قال: ملك الموت عزرائيل يتوفّى الأنفس حين موتها بإذن اللّه، لم يكذب و لم يشرك. و لا منافاة بين القولين و بين القول بأنّ اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها، و في كلّ هذه الحالات لم يتوفّ الأنفس غير اللّه و لا مع اللّه بل إنّ اللّه هو الذي توفّاها (7) .
وكذلك الشّأن بالنسبة إلى الصفات الأخرى المذكورة سابقا.
دعوة الرّسول( صلى الله عليه [ واله ] ) و التوسّل به إلى اللّه :
بناء على ما بيّنّا بأنّ كلّا من الحاكم و المالك و الشّفيع و الخالق و المحيي و المميت و الوليّ إذا كان بإذن اللّه فليس ثمّت غير اللّه و لا دون اللّه و لا مع اللّه، بناء على ذلك فإنّ دعوة النبيّ (صلى الله عليه [ واله ] ) في التوسّل به إلى اللّه- أيضا- إذا كان بإذن اللّه، فليس ثمّت دعاءغير اللّه و لا دون اللّه و لا مع اللّه، و ليس من مصاديق ما نهى اللّه عنه في قوله تعالى: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] .
و... في الحديث المرويّ بمسند أحمد و سنن الترمذي و ابن ماجة و رواية البيهقي و الّتي صحّحوها بأن رسول اللّه ( صلى الله عليه [ واله ] ) علّم الصحابي الضرير أن يدعو بعد الصّلاة ويقول:
«اللّهمّ إنّي أسألك و أتوجّه بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي لتقضى لي. اللّهمّ فشفّعه فيّ» (8) .
فقضى اللّه حاجته و شفّع رسوله فيه وشافاه، وإنّ هذا النوع من التوسّل من مصاديق قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة: 35] .
{يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [الإسراء: 57].
__________________
(1) رسالة الأصول الثلاثة ط. مطبعة المدني 295 شارع رمسيس بالقاهرة سنة 1380- و رسالة الدين و شروطها أيضا طبع فيها بلا تاريخ.
(2) رسالة شفاء الصدور، ط. الأولى مؤسسة النور للطباعة و التجليد.
(3) راجع أخبار يوم صفّين في تاريخ الطبري و ابن الأثير و ابن كثير، ثمّ أخبار الخوارج فيها و في غيرها من كتب التاريخ.
(4) كان ذلك عند ما بعث ابن عمّ الرسول عليّ من اليمن بذهيبة إلى الرسول فقسّمها بين أربعة من المؤلفة قلوبهم، فتغضبت قريش و الأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد و يدعنا! قال: إنّما أتألّفهم. فأقبل رجل ... محلوق الرأس فقال: يا محمد، اتق اللّه! فقال النبي(صلى الله عليه واله): فمن يطيع اللّه إذا عصيته، أ يأمنني على أهل الأرض و لا تأمنوني!؟ فلمّا ولى، قال النبي( صلى الله عليه واله) إنّ من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الاسلام- الحديث. صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول اللّه تعالى : {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ ... } [المعارج: 4]. و صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج و صفاتهم ح 143 ص 741.
(5) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج و صفاتهم، ح 143 و 144 و 145 و 146.
(6) إشارة إلى الآيات 67- 73 من سورة البقرة.
(7) هذا الاستدلال مستفاد من قول الإمام عليّ، برواية الصدوق عنه في باب الردّ على الثنوية و الزنادقة بكتاب التوحيد، ص: 241.
(8) راجع مصادره في باب الاستشفاع برسول اللّه في حياته من هذه المقدّمة.