بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الابصار بالعزة ، واقتدر على الاشياء بالقدرة ، فلا الابصار تثبت لرؤيته ، ولا الاوهام تبلغ كنه عظمته ، تجبر بالعظمة والكبرياء ، وتعطف بالعز والبر والجلال ، وتقدس بالحسن والجمال ، وتمجد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء . خالق لا نظير له ، وواحد لاند له ، وماجد لا ضد له ، وصمد لا كفو له ، وإله لاثاني معه ، وفاطر لا شريك له ، ورازق لا معين له ، الاول بلا زوال والدائم بلا فناء ، والقائم بلاعناء ، والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير، والرب بلا شريك ، والفاطر بلا كلفة والفاعل بلا عجز . ليس له حد في مكان ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبدا هو الاله الحي القيوم ، الدائم القديم القادر .
والصلاة على أشرف أهل الاصطفاء محمد بن عبدالله سيد الانبياء ، وعلى آله الحافظين لما نقل عن رب السموات والأرضين , واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
أكثرنا قد جرّب الحزن و التأثر عند فقدان الأحبة كونه أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية ، فإذا ابتلي إنسان بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه ، يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته ، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه .
ولا يوجد عاقل ينكر هذه الحقيقة إنكار جد و موضوعية ، ومن الواضح بمكان أنّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] .
ولا يمكن لتشريع عالمي أن يحرم الحزن و البكاء على فقد الأحبة إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب .
ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة .
فهذا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يبكي على ولده إبراهيم ، ويقول: « العين تدمع ، و القلب يحزن ، و لا نقول إلّا ما يرضي ربنا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ».
روى أصحاب السِّيَر و التاريخ ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي ، جاء (صلى الله عليه و آله و سلم ) فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه و وضعهُ في حجره ، و قال : « يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئاً - ثمّ ذرفت عيناه - و قال : إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين و يحزن القلب و لا نقول ما يسخط الربّ ، و لو لا أنّه أمرٌ حقٌّ و وعدٌ صدقٌ و أنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».
و لمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ أجاب بقوله: « لا، و لكن نهيتُ عن صوتين أحمقين و آخرين ، صوت عند مصيبة وخمش وجوه و شقّ جيوب و رنّة شيطان ، و صوت عند نغمة لهو، و هذه رحمة ، و من لا يَرحم لا يُرحَم » (1) .
و ليس هذا أوّل وآخر بكاء منه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل بكى ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على ابنه « طاهر» و قال : « إنّ العين تذرف ، و إنّ الدمع يغلب و القلب يحزن ، و لا نعصي اللّه عزّ و جلّ » (2) .
و هذا هو ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ينعى جعفراً ، و زيد بن حارثة ، و عبد اللّه بن رواحة ، وعيناه تذرفان (3) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) زار قبر أُمّه وبكى عليها و أبكى من حوله (4) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) يقبّل عثمان بن مظعون و هو ميّت و دموعه تسيل على خدّه (5) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) يبكي على ابن لبعض بناته ، فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ؟ قال : « الرحمة التي جعلها اللّه في بني آدم ، و إنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء » ( 6 ) .
و هذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ، و تقول : « يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه » ( 7 ) .
وهذه عمّة جابر بن عبد اللّه جاءت يوم أُحُد تبكي على أخيها عبد اللّه بن عمر، و قال جابر: فجعلتُ أبكي و جعل القوم ينهوني و رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لا ينهاني ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : « ابكوه و لا تبكوه فو الله ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى دفنتموه» (8) .
أما أصحاب الخلاف فيروون عن عمر بن الخطّاب و عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم) قال: « إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله » (9) .
وجواباً على ذلك نقول : إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل عمر في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ .
منها : أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لَمّا جاءه نعيه ، فخرج و نعاه إلى الناس على المنبر، و وضع يده على رأسه يبكي ( 10 ) .
و منها : بكاؤه على خالد بن الوليد عندما مات و امتنعت النساء من البكاء عليه ، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال : و ما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهنّ على أبي سليمان ما لم يكن لغواً و لا لقلقة (11) .
و منها: بكاؤه على أخيه زيد بن الخطّاب ، و كان صحبه رجل من بني عدي ابن كعب فرجع إلى المدينة ، فلمّا رآه عمر دمعت عيناه ، و قال : و خلّفت زيداً قاضياً و أتيتني (12 ) .
فالبكاء المتكرّر من عمر يرشدنا إلى أنّ المراد من الحديث- لو صحّ سنده- معنى آخر، كيف و أنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم ، أعني قوله سبحانه : ( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) , فأيّ معنى لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه !!
كلّ هذه النقول توقِفنا على أنّ المراد من الحديث « إنّ الميّت يعذَّب ...» - إن صحّ سنده- غير ما يفهم من ظاهره ، و قد كان متحفا بقرائن سقطت عند النقل ، و لأجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استناداً إلى هذا الحديث ، غافلًا عن مرمى الحديث و مغزاه .
وقد أخرج مسلم في صحيحة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال: ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : رحم اللّه أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه ، إنّما مرّت على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جنازة يهودي ، و هم يبكون عليه ، فقال : أنتم تبكون و انّه ليعذب ( 13 ) .
وأخرج أبو داود في سننه عن عروة عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ، فذكر ذلك لعائشة فقالت - و هي تعني ابن عمر- : إنّما مرّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على قبر يهودي فقال: إنّ صاحب هذا ليُعذَّب و أهله يبكون عليه . ثمّ قرأت {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ( 14 ) .
قال الشافعي: ما روت عائشة عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أشبه أن يكون محفوظاً عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة الكتاب و السنّة ، فإن قيل : فأين دلالة الكتاب ؟ قيل : في قوله عزّ و جلّ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] و {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: 39] و قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7، 8] و قوله: { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [طه: 15] .
و أخرج مسلم عن ابن عباس: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : « إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه » ، فقال ابن عباس : فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت: يرحم اللّه عمر، لا و اللّه ما حدّث رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إن اللّه يعذّب المؤمن ببكاء أحد، و لكن قال: إنّ اللّه يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، قال: و قالت عائشة : حسبكم القرآن : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] (15).
و بذلك ينتفي إشكال البكاء على الميت لأنّ تعذيب المؤمن ببكاء أهله عليه يتضاد مع الذكر الحكيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية: 3/ 348.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي: 3/ 8.
(3) صحيح البخاري: كتاب المناقب في علامات النبوّة في الإسلام؛ سنن البيهقي: 4/ 70.
(4) سنن البيهقي: 4/ 70؛ تاريخ الخطيب البغدادي: 7/ 289.
(5) سنن أبي داود: 2/ 63؛ سنن ابن ماجة: 1/ 445.
(6) سنن أبي داود: 2/ 58؛ سنن ابن ماجة: 1/ 481.
(7) صحيح البخاري، باب مرض النبي و وفاته؛ مسند أبي داود: 2/ 197؛ سنن النسائي: 4/ 13؛ مستدرك الحاكم: 3/ 163؛ تاريخ الخطيب: 6/ 262.
(8) الغدير: 6/ 164- 167.
(9) صحيح مسلم: 3/ 41- 44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(10) العقد الفريد: 3/ 235.
(11) العقد الفريد: 3/ 235.
(12) العقد الفريد: 3/ 235.
(13) صحيح مسلم: 3/ 44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(14) سنن أبي داود: 3/ 194، برقم 3129.
(15) صحيح مسلم : 2 /641 بترقيم الشاملة آلياً .
الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة ، واحتجب عن الابصار بالعزة ، واقتدر على الاشياء بالقدرة ، فلا الابصار تثبت لرؤيته ، ولا الاوهام تبلغ كنه عظمته ، تجبر بالعظمة والكبرياء ، وتعطف بالعز والبر والجلال ، وتقدس بالحسن والجمال ، وتمجد بالفخر والبهاء ، وتهلل بالمجد والآلاء ، واستخلص بالنور والضياء . خالق لا نظير له ، وواحد لاند له ، وماجد لا ضد له ، وصمد لا كفو له ، وإله لاثاني معه ، وفاطر لا شريك له ، ورازق لا معين له ، الاول بلا زوال والدائم بلا فناء ، والقائم بلاعناء ، والباقي بلا نهاية ، والمبدئ بلا أمد ، والصانع بلا ظهير، والرب بلا شريك ، والفاطر بلا كلفة والفاعل بلا عجز . ليس له حد في مكان ولا غاية في زمان ، لم يزل ولا يزول ولن يزال ، كذلك أبدا هو الاله الحي القيوم ، الدائم القديم القادر .
والصلاة على أشرف أهل الاصطفاء محمد بن عبدالله سيد الانبياء ، وعلى آله الحافظين لما نقل عن رب السموات والأرضين , واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين .
أكثرنا قد جرّب الحزن و التأثر عند فقدان الأحبة كونه أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية ، فإذا ابتلي إنسان بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه ، يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته ، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه .
ولا يوجد عاقل ينكر هذه الحقيقة إنكار جد و موضوعية ، ومن الواضح بمكان أنّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.
قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] .
ولا يمكن لتشريع عالمي أن يحرم الحزن و البكاء على فقد الأحبة إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب .
ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي (صلى الله عليه و آله وسلم) والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة .
فهذا رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) يبكي على ولده إبراهيم ، ويقول: « العين تدمع ، و القلب يحزن ، و لا نقول إلّا ما يرضي ربنا ، و إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ».
روى أصحاب السِّيَر و التاريخ ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي ، جاء (صلى الله عليه و آله و سلم ) فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه و وضعهُ في حجره ، و قال : « يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئاً - ثمّ ذرفت عيناه - و قال : إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين و يحزن القلب و لا نقول ما يسخط الربّ ، و لو لا أنّه أمرٌ حقٌّ و وعدٌ صدقٌ و أنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».
و لمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : أو لم تكن نهيت عن البكاء ؟ أجاب بقوله: « لا، و لكن نهيتُ عن صوتين أحمقين و آخرين ، صوت عند مصيبة وخمش وجوه و شقّ جيوب و رنّة شيطان ، و صوت عند نغمة لهو، و هذه رحمة ، و من لا يَرحم لا يُرحَم » (1) .
و ليس هذا أوّل وآخر بكاء منه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل بكى ( صلى الله عليه و آله و سلم ) على ابنه « طاهر» و قال : « إنّ العين تذرف ، و إنّ الدمع يغلب و القلب يحزن ، و لا نعصي اللّه عزّ و جلّ » (2) .
و هذا هو ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ينعى جعفراً ، و زيد بن حارثة ، و عبد اللّه بن رواحة ، وعيناه تذرفان (3) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) زار قبر أُمّه وبكى عليها و أبكى من حوله (4) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) يقبّل عثمان بن مظعون و هو ميّت و دموعه تسيل على خدّه (5) .
و هذا هو (صلى الله عليه و آله و سلم) يبكي على ابن لبعض بناته ، فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ؟ قال : « الرحمة التي جعلها اللّه في بني آدم ، و إنّما يرحم اللّه من عباده الرحماء » ( 6 ) .
و هذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) ، و تقول : « يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس مأواه » ( 7 ) .
وهذه عمّة جابر بن عبد اللّه جاءت يوم أُحُد تبكي على أخيها عبد اللّه بن عمر، و قال جابر: فجعلتُ أبكي و جعل القوم ينهوني و رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) لا ينهاني ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : « ابكوه و لا تبكوه فو الله ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى دفنتموه» (8) .
أما أصحاب الخلاف فيروون عن عمر بن الخطّاب و عبد اللّه بن عمر أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه و آله و سلم) قال: « إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله » (9) .
وجواباً على ذلك نقول : إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل عمر في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ .
منها : أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لَمّا جاءه نعيه ، فخرج و نعاه إلى الناس على المنبر، و وضع يده على رأسه يبكي ( 10 ) .
و منها : بكاؤه على خالد بن الوليد عندما مات و امتنعت النساء من البكاء عليه ، فلما انتهى ذلك إلى عمر، قال : و ما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهنّ على أبي سليمان ما لم يكن لغواً و لا لقلقة (11) .
و منها: بكاؤه على أخيه زيد بن الخطّاب ، و كان صحبه رجل من بني عدي ابن كعب فرجع إلى المدينة ، فلمّا رآه عمر دمعت عيناه ، و قال : و خلّفت زيداً قاضياً و أتيتني (12 ) .
فالبكاء المتكرّر من عمر يرشدنا إلى أنّ المراد من الحديث- لو صحّ سنده- معنى آخر، كيف و أنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم ، أعني قوله سبحانه : ( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) , فأيّ معنى لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه !!
كلّ هذه النقول توقِفنا على أنّ المراد من الحديث « إنّ الميّت يعذَّب ...» - إن صحّ سنده- غير ما يفهم من ظاهره ، و قد كان متحفا بقرائن سقطت عند النقل ، و لأجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استناداً إلى هذا الحديث ، غافلًا عن مرمى الحديث و مغزاه .
وقد أخرج مسلم في صحيحة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال: ذكر عند عائشة قول ابن عمر: الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : رحم اللّه أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه ، إنّما مرّت على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) جنازة يهودي ، و هم يبكون عليه ، فقال : أنتم تبكون و انّه ليعذب ( 13 ) .
وأخرج أبو داود في سننه عن عروة عن عبد اللّه بن عمر قال : قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ، فذكر ذلك لعائشة فقالت - و هي تعني ابن عمر- : إنّما مرّ النبي (صلى الله عليه و آله و سلم) على قبر يهودي فقال: إنّ صاحب هذا ليُعذَّب و أهله يبكون عليه . ثمّ قرأت {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ( 14 ) .
قال الشافعي: ما روت عائشة عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) أشبه أن يكون محفوظاً عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم) بدلالة الكتاب و السنّة ، فإن قيل : فأين دلالة الكتاب ؟ قيل : في قوله عزّ و جلّ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] و {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: 39] و قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 7، 8] و قوله: { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [طه: 15] .
و أخرج مسلم عن ابن عباس: قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) : « إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه » ، فقال ابن عباس : فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت: يرحم اللّه عمر، لا و اللّه ما حدّث رسول اللّه (صلى الله عليه و آله و سلم) إن اللّه يعذّب المؤمن ببكاء أحد، و لكن قال: إنّ اللّه يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، قال: و قالت عائشة : حسبكم القرآن : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] (15).
و بذلك ينتفي إشكال البكاء على الميت لأنّ تعذيب المؤمن ببكاء أهله عليه يتضاد مع الذكر الحكيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
(1) السيرة الحلبية: 3/ 348.
(2) مجمع الزوائد للهيثمي: 3/ 8.
(3) صحيح البخاري: كتاب المناقب في علامات النبوّة في الإسلام؛ سنن البيهقي: 4/ 70.
(4) سنن البيهقي: 4/ 70؛ تاريخ الخطيب البغدادي: 7/ 289.
(5) سنن أبي داود: 2/ 63؛ سنن ابن ماجة: 1/ 445.
(6) سنن أبي داود: 2/ 58؛ سنن ابن ماجة: 1/ 481.
(7) صحيح البخاري، باب مرض النبي و وفاته؛ مسند أبي داود: 2/ 197؛ سنن النسائي: 4/ 13؛ مستدرك الحاكم: 3/ 163؛ تاريخ الخطيب: 6/ 262.
(8) الغدير: 6/ 164- 167.
(9) صحيح مسلم: 3/ 41- 44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(10) العقد الفريد: 3/ 235.
(11) العقد الفريد: 3/ 235.
(12) العقد الفريد: 3/ 235.
(13) صحيح مسلم: 3/ 44، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.
(14) سنن أبي داود: 3/ 194، برقم 3129.
(15) صحيح مسلم : 2 /641 بترقيم الشاملة آلياً .
تعليق