بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
في رحاب فريضة الحجّ، نأتي على ركنٍ من أركانها؛ وهو الوقوف على صعيد عرفات، حيث يقف النّاس في مكانٍ واحدٍ بين يدي الله، كتأكيدٍ فاعل وحيّ للتّواصل المنفتح على الله تعالى؛ تواصل يجدّد فيه النّاس عهدهم لله تعالى بالتّوحيد الصّادق، والإخلاص النّافع، إنه وقوف الإنسان مع الذّات، للمحاسبة والمراقبة، والتغلّب على نقاط الضّعف، إنّه وقوف المصارحة والمكاشفة وتثبيت الإرادة، عبر عقد العزيمة على سلوك درب الطّاعة، والتّوبة من كلّ ما يقيّد مستوى وعي الإنسان وتقدّمه.
إنَّه الوقوف بين يدي الخالق، كتحقيقٍ لمعنى التخلّي عن كلّ العلائق الدّنيويّة، من مواقع ومناصب وجاه وأموال، بغية التّواصل النقيّ والصّافي مع الذات الإلهيّة، وجعل العلاقة معها هي الأساس الحاكم على مجمل العلاقات والتوجّهات والحسابات.
ساعات تفصل عن وقوف الحجّاج بين يدي الله تعالى، حيث ينتظر الحجّاج هذا الموقف المهيب. "هذه الأيّام هي أيّام الحجّ المبارك؛ الأيّام الّتي ينتظر فيها الحجّاج الوقوف على جبل عرفات؛ يقفون عليه جميعاً، عربيّهم وعجميّهم، أسودهم وأبيضهم، فقيرهم وغنيّهم.. يقفون في تلك الصّحراء الواسعة، تلبيةً لدعوة الله سبحانه، وامتثالاً لأمره.. يقفون ليشهدوا له بأنّه واحد أحد، فرد صمد، لا شريك له ولا مثيل... يقفون وهم يوحّدونه ولا يشركون به أحداً، سواء كان من الدّول الصّغرى أو العظمى، سواء كان ملكاً أو رئيساً، يقفون ليشهدوا أنهم في خطّ رسوله يسيرون، الإسلام دينهم وعقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم في الحياة، الإسلام سياستهم عندما يريدون التحرّك في ميدان السياسة، واجتماعهم في ميدان الاجتماع، واقتصادهم في ميدان الاقتصاد.
تلك هي الرّوح الّتي يريد الله لها أن تعيش أجواء الحجّ؛ الرّوح الّتي جاءت مهاجرةً عن كلّ خصوصيّتها ومواقعها، وعن كلّ الحسابات الحميمة الّتي كانت تعيشها".]كتاب "من أجل الإسلام"، ص 241[.
والسؤال هنا: ما هي الرّوح اليوم التي من خلالها نتعامل مع قضايانا، ونحن نشاهد الكثير ممن يبتعدون عن ميادين الحجّ وغاياته ومعانيه ومقاصده، من النواحي الإنسانيّة والاجتماعيّة والفكريّة؟ فالاجتماع اليوم عند البعض، هو على نشر الفوضى والفتنة، وتغليب لغة الأحقاد والعصبيّات، وتقديم الحسابات الشخصيّة والفئويّة، وكلّ ذلك لا ينسجم بتاتاً مع روحيّة عبادة الحجّ، ولا مع الوقوف الحقيقيّ بين يدي الخالق عزَّ وجلّ.
لا بدَّ لنا، والحال هذه، من أن نهيّئ كلّ المناخات الّتي تعيد الحياة إلى كلّ القيم والمفاهيم الإسلاميّة الأصيلة، وأن نحركها في كلّ تفاصيل حياتنا، وأن تحكم كلّ أوضاعنا وعلاقتنا مع أنفسنا والمحيط من حولنا، عبر الانفتاح على خطّ الله وتعاليمه السّمحاء، بكلّ جرأة ووعي وعقلانيّة.
إنها وقفة الحياة أمام الله تعالى، تستلهمه وتستهديه في كلّ ما يشغلها في واقعها، لحظة تحاول استلهام كلّ الصّواب على مستوى الفكر والعقل والرّوح والشّعور، وتحقيق كلّ اتّصال مع الله ينعكس خيراً على الذّات الفرديّة والجماعيّة، بما يخدم وجودها وحاضرها ومستقبلها.
وحول ذلك، "{فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}[البقرة: 198]. من أعمال الحجّ أن يقف النّاس في عرفات من الزّوال إلى الغروب وقفةً خاشعةً فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنّفاذ إلى أعماق الرّوح في لحظة صفاء ونقاء.. إنها وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه، وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصّواب في ما تفكّر، ويهديها الصّراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها، ويحقّق لها أحلامها.. وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنّ النّسك هنا؛ الوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع.. فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرّحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الروحيّ الّذي يملأ كيانه في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل". ]تفسير من وحي القرآن، ج 4، ص 107[.
إذاً، يوم عرفة هو يوم التأمّل المنفتح على كلّ جوانب الرّحمة الإلهيّة؛ هو يوم تصفية القلوب والعقول من كلّ الأدران والأمراض الروحيّة والأخلاقيّة والفكريّة، استعداداً لتلقّي مغفرته ورحمته وبركاته، إنّه يوم الشّهادة لله، والإقرار بالعبوديّة الخالصة لوجهه، والّتي يعكسها الإنسان سلوكاً وموقفاً فاعلاً في حركته في الحياة، بحيث يشعر بأنّ الله تعالى أكبر من كلّ شي، منه وإليه كلّ شيء
تعليق