بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
عليّ(ع) في بيت الله:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207)، ويقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة/55).
غداً نلتقي بذكرى ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، في الثالث عشر من شهر رجب، هذه الولادة التي أكرمه الله تعالى بها، إذ المشهور بين المؤّرخين، أنّ أمه ولدته في الكعبة المشرّفة، حيث لم يولد قبله أحد فيها ولا بعده، وكانت ولادته في الكعبة ترمز إلى معنى كبير، وهو أنَّ هذا الإنسان سوف تكون كلُّ حياته في بيت الله، وفي كل موقع للإسلام أراد الله له أن يتحرّك فيه، ليجاهد في سبيل إقامة الإسلام وعزّته وقوته وكرامته.
وعليّ(ع) لم يكن من الأشخاص الّذين يحبّون الحروب، ولكنّه ارتفع في مستوى مسؤوليته عن الإسلام إلى التحرّك في كل حياته لتلبية نداء الله في كل موقع يواجه الإسلام فيه الخطر، ويتطلّب النصرة.
ولذلك، كان جهاد عليّ(ع) صلاةً يؤديها إلى الله، وكان نشاطه في توعية الناس وتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، صلاةً يؤدّيها إلى الله، وكان(ع) في صبره الذي فاق التصوّر من أجل الإسلام، صلاةً يؤدّيها إلى الله، لأن الصلاة تمثل كل عمل يتحرك به الإنسان من أجل أن يحصل على مواقع القرب من الله تعالى.
ونحن نعرف أنّ طفولة عليّ(ع) كانت في أحضان رسول الله(ص)، ولم تكن في أحضان أمه وأبيه، وذلك عندما تكفّله رسول الله(ع)، حيث رأى أن عمه أبا طالب كثير العيال، وأنّ هذه الكثرة تثقله مادّياً، فأخذ عليّاً(ع) وضمّه إليه. وكان عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في تأملاته وابتهالاته وانفتاحه على الله، وكان معه في غار حراء عندما كان يتأمّل، لأنّ الرسول(ص) كان يربّي عقله وقلبه وكلَّ فصول حياته على ما يرتفع به إلى الله تعالى. وقد نقل لنا عليّ(ع)، أنّ الله قد وكّل برسول الله قبل الرسالة عظيماً من الملائكة ليربّيه ويعطيه في كل يوم علماً وروحاً، حتى تربّى رسول الله تحت رعاية الله تعالى، وأيضاً كان عليّ(ع) يعيش في هذا المناخ والجو، ويقول عليّ(ع) في حديثه عن طفولته: «كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به»، أسير حيث يسير، وأتحرّك حيث يتحرّك، وأبتهل حيث يبتهل، وأتأمل حيث يتأمّل، حتى انطبعت شخصية علي(ع) بشخصيّة رسول الله، فكان عقله وقلبه عقل رسول الله وقلبه.
إسلام العقل والقلب:
ولذلك ارتفع عليّ(ع) من مرحلة الطفولة، من خلال تربية رسول الله له، إلى مستوى الكبار، فقد كان يفكر كالكبار، ولذلك عندما أرسل الله رسوله بالرسالة، دعا عليّاً(ع) للدخول في الإسلام وعمره عشر سنوات، وبادر(ع) إلى الاستجابة لرسول الله، لأنه كان يعيش معنى الإسلام؛ إسلام العقل والقلب والحياة لله. ولم يكن إسلام علي(ع) إسلام الأطفال، كما يحاول البعض تصويره، بل كان إسلامه إسلام العقل الكبير الذي تربى على رسول الله.
ويُنقل في بعض كتب السيرة، أن عليّاً عندما أعلن إسلامه، قيل له إن الأبناء يستشيرون آباءهم عندما يريدون أن يدخلوا فيما دخلت فيه، فقال لهم: "إن الله لم يستشر أبي عندما خلقني". وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله في بيته، حتى كان يقول: "كنا في بيت يجمعنا رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"، وكان النبي(ص) يلقي إليه كل آية تنـزل ليسمعها، وكان(ع) يسمع جبرائيل عندما كان ينـزل على النبي(ص) حتى قال له: "يا عليّ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي"، وقال(ع): "لم يسبقني إلى الصلاة إلاّ رسول الله"، وكان يصلّي خلفه، وكانت خديجة تصلّي وراءهما، ومرّ أبو طالب ورأى عليّاً يصلي إلى جانب النبي، فقال لولده جعفر: "يا جعفر، صل جناح ابن عمك". ومن خلال ذلك، نعرف أن أبا طالب (رضوان الله عليه) كان كمؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه ليحمي رسول الله(ص)، ومع ذلك، لا يزال بعض المسلمين يقولون "إن أبا طالب مات كافراً"، ولكنّنا عندما ندرس حياة أبي طالب، نرى أنه كان في قمة الإسلام فيما كان يتحرك به مع النبي(ص).
وعاش عليّ(ع) مع رسول الله(ص)، واستطاع أن يتعلّم علمه، حتى قال النبي(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وحتى قال عليّ(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفتح لي من كل باب ألف باب". وكان النبي في كل ملاحظاته ومراقباته لعليّ(ع)، يرى أنه يجسّد الحق كلّه، وعليّ(ع) يقول: "لم يجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". كان في كل سلوكه وفي كل كلامه وعمله وعلاقاته وحربه وسلمه رجل الحق، وهو الّذي باع نفسه لله، وقد نزلت فيه الآية، كما يقول المفسِّرون، عندما بات ليلة الهجرة على فراش النبي(ص) ليحمي حركته في الهجرة، وهي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207).
اجتماع الإسلام في علي(ع):
وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في كلِّ حروبه التي فُرضت عليه، وكان هو فارس الإسلام الأول، ولم يكن قد تدرّب أو دخل في دورة تدريبية يتعلّم فيها فنون الحرب، ولكن إرادة عليّ(ع) في الإخلاص للإسلام، وشجاعته في المواقف من خلال التزامه وإيمانه بالله، جعلتاه يمارس الحرب كأفضل ما يمارسها المتدربون، ولذلك عندما خاض معركة بدر، قتل نصف القتلى من المشركين وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قال جبرائيل: "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار".
وهكذا نعرف لماذا تحدّث رسول الله عن عليّ(ع) بما لم يتحدث به عن أي صحابي، مع أنّهم كانوا أكبر سنّاً من عليّ. وكان(ص) يقول عنه: "عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"، "يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكلمات النبي(ص) في عليّ(ع) ليست كلمات العاطفة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/3-4)، فعليٌّ(ع) هو الشخصية المميزة التي تملك العلم كلّه والإخلاص كلّه، والإيمان كلّه، والإسلام كلّه، حتى إنه في معركة الأحزاب، عندما برز (عمرو بن عبد ود) وهو يتحداهم ويتبختر أمامهم، وقال النبي(ص): "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة"، ولم يقم أحد إلا عليّ(ع) في المرات الثلاث، عند ذلك قال(ص) وهو يودّع عليّاً: "ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، كأن عليّاً يمثّل كل قوة رسول الله، فإذا قُتل فسوف يبقى النبي فرداً، وعندما تحرّك عليّ ليبارز عمراً قال: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، لأن الإسلام في تلك المرحلة تجمّع في عليّ(ع)، والشرك تجمّع في عمرو بن عبد ودّ، وعندما انتصر عليّ(ع) قال النبي(ص): "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين"، لأنه هو الذي حفظ للثقلين هذا الامتداد للإسلام، عندما استطاع أن يهزم المشركين في تلك الحرب التي أرادوا من خلالها القضاء على الإسلام في قلب المدينة. لذلك، كانت كلمات رسول الله(ص) في عليّ(ع) كلمات الوحي.
وعندما قربت وفاة النبي(ص)، وأخبره الله بدنوّ أجله، جمع المسلمين في حجة الوداع في غدير خم، ورفع يد عليّ حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال: "أيها المسلمون، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: "اللهم بلى"، فقال: "اللهم اشهد، من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حثيما دار"، وهذه الكلمة تدلُّ على الحاكمية، فقد كان الرسول(ص) يريد أن يركّز الولاية في عليّ(ع)، ليكون الإنسان الذي يحفظ الإسلام بعد وفاته، كما حفظه في حياته وتحت قيادته.
عليّ(ع) ونصرته للإسلام:
وبعد ذلك، دارت الدوائر، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه، ولكنه بالرغم من الظروف الصعبة التي عاشها في تلك المرحلة، كان يشعر بمسؤوليته في نصرة الإسلام حتى لو كان خارج الخلافة، ولذلك لم يتعقّد، بل أعطى النصيحة والمشورة والرأي لمن تقدّمه في الخلافة، وكانت كلمته: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة"، وكان هذا هو برنامج عليّ(ع)؛ أن يسلم المسلمون من كلِّ ضعف وانهيار. وقد قال في كتابه لأهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه".
ورأيناه يتابع مسيرة نصرة الإسلام، حتى عندما تولّى الخلافة زرعوا الأشواك في طريقه، وقد عبّر(ع) عن ذلك بقوله: "فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص/83)، بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها. أما والّذي خلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز".
ونقرأ عن بعض أصحابه، وهو "ضرار بن حمزة الضبابي" عند دخوله على معاوية بعد شهادة الإمام عليّ(ع) ومساءلته عن علي(ع)، قال: "فأشهد، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم ـ الملدوغ بالحيّة أو غيرها ـ ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعظيم المورد". ويقال إن معاوية بكى عندما سمع ذلك من ضرار.
لقد عاش عليّ(ع) مع الله، وباع نفسه لله، حتى عندما ضربه الشقي ابن ملجم على رأسه في محرابه في المسجد، كانت كلمته: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزتُ وربّ الكعبة"، وكأنه يستعرض كل مراحل حياته، ورأى أن هذه النهاية التي يحبها الله ويرضاها.
وكان الله يحبّ عليّاً(ع) كما لم يحبّ أحداً بعد رسول الله، ولذلك قال عنه النبي(ص) في وقعة خيبر: "لأعطيَّن الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". لذلك نحن نحبّ عليّاً أعظم الحبّ، ونتولاّه في إمامته وولايته أعظم الولاية، ونحن لا نزال نتعلّم من عليّ(ع)، لأنه حاضر فينا، في كلِّ ما حدّثنا عنه، ووعظنا فيه، وتحرك به. ونقرأ ما قاله ذلك الشاعر المسيحي:
فيا سماء اخشعي ويا أرض قرّي واخضعي إنني ذكرت عليّا
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
عليّ(ع) في بيت الله:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207)، ويقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(المائدة/55).
غداً نلتقي بذكرى ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، في الثالث عشر من شهر رجب، هذه الولادة التي أكرمه الله تعالى بها، إذ المشهور بين المؤّرخين، أنّ أمه ولدته في الكعبة المشرّفة، حيث لم يولد قبله أحد فيها ولا بعده، وكانت ولادته في الكعبة ترمز إلى معنى كبير، وهو أنَّ هذا الإنسان سوف تكون كلُّ حياته في بيت الله، وفي كل موقع للإسلام أراد الله له أن يتحرّك فيه، ليجاهد في سبيل إقامة الإسلام وعزّته وقوته وكرامته.
وعليّ(ع) لم يكن من الأشخاص الّذين يحبّون الحروب، ولكنّه ارتفع في مستوى مسؤوليته عن الإسلام إلى التحرّك في كل حياته لتلبية نداء الله في كل موقع يواجه الإسلام فيه الخطر، ويتطلّب النصرة.
ولذلك، كان جهاد عليّ(ع) صلاةً يؤديها إلى الله، وكان نشاطه في توعية الناس وتعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، صلاةً يؤدّيها إلى الله، وكان(ع) في صبره الذي فاق التصوّر من أجل الإسلام، صلاةً يؤدّيها إلى الله، لأن الصلاة تمثل كل عمل يتحرك به الإنسان من أجل أن يحصل على مواقع القرب من الله تعالى.
ونحن نعرف أنّ طفولة عليّ(ع) كانت في أحضان رسول الله(ص)، ولم تكن في أحضان أمه وأبيه، وذلك عندما تكفّله رسول الله(ع)، حيث رأى أن عمه أبا طالب كثير العيال، وأنّ هذه الكثرة تثقله مادّياً، فأخذ عليّاً(ع) وضمّه إليه. وكان عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في تأملاته وابتهالاته وانفتاحه على الله، وكان معه في غار حراء عندما كان يتأمّل، لأنّ الرسول(ص) كان يربّي عقله وقلبه وكلَّ فصول حياته على ما يرتفع به إلى الله تعالى. وقد نقل لنا عليّ(ع)، أنّ الله قد وكّل برسول الله قبل الرسالة عظيماً من الملائكة ليربّيه ويعطيه في كل يوم علماً وروحاً، حتى تربّى رسول الله تحت رعاية الله تعالى، وأيضاً كان عليّ(ع) يعيش في هذا المناخ والجو، ويقول عليّ(ع) في حديثه عن طفولته: «كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به»، أسير حيث يسير، وأتحرّك حيث يتحرّك، وأبتهل حيث يبتهل، وأتأمل حيث يتأمّل، حتى انطبعت شخصية علي(ع) بشخصيّة رسول الله، فكان عقله وقلبه عقل رسول الله وقلبه.
إسلام العقل والقلب:
ولذلك ارتفع عليّ(ع) من مرحلة الطفولة، من خلال تربية رسول الله له، إلى مستوى الكبار، فقد كان يفكر كالكبار، ولذلك عندما أرسل الله رسوله بالرسالة، دعا عليّاً(ع) للدخول في الإسلام وعمره عشر سنوات، وبادر(ع) إلى الاستجابة لرسول الله، لأنه كان يعيش معنى الإسلام؛ إسلام العقل والقلب والحياة لله. ولم يكن إسلام علي(ع) إسلام الأطفال، كما يحاول البعض تصويره، بل كان إسلامه إسلام العقل الكبير الذي تربى على رسول الله.
ويُنقل في بعض كتب السيرة، أن عليّاً عندما أعلن إسلامه، قيل له إن الأبناء يستشيرون آباءهم عندما يريدون أن يدخلوا فيما دخلت فيه، فقال لهم: "إن الله لم يستشر أبي عندما خلقني". وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله في بيته، حتى كان يقول: "كنا في بيت يجمعنا رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما"، وكان النبي(ص) يلقي إليه كل آية تنـزل ليسمعها، وكان(ع) يسمع جبرائيل عندما كان ينـزل على النبي(ص) حتى قال له: "يا عليّ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي"، وقال(ع): "لم يسبقني إلى الصلاة إلاّ رسول الله"، وكان يصلّي خلفه، وكانت خديجة تصلّي وراءهما، ومرّ أبو طالب ورأى عليّاً يصلي إلى جانب النبي، فقال لولده جعفر: "يا جعفر، صل جناح ابن عمك". ومن خلال ذلك، نعرف أن أبا طالب (رضوان الله عليه) كان كمؤمن آل فرعون، يكتم إيمانه ليحمي رسول الله(ص)، ومع ذلك، لا يزال بعض المسلمين يقولون "إن أبا طالب مات كافراً"، ولكنّنا عندما ندرس حياة أبي طالب، نرى أنه كان في قمة الإسلام فيما كان يتحرك به مع النبي(ص).
وعاش عليّ(ع) مع رسول الله(ص)، واستطاع أن يتعلّم علمه، حتى قال النبي(ص): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"، وحتى قال عليّ(ع): "علّمني رسول الله ألف باب من العلم يُفتح لي من كل باب ألف باب". وكان النبي في كل ملاحظاته ومراقباته لعليّ(ع)، يرى أنه يجسّد الحق كلّه، وعليّ(ع) يقول: "لم يجد لي كذبةً في قول ولا خطلةً في فعل". كان في كل سلوكه وفي كل كلامه وعمله وعلاقاته وحربه وسلمه رجل الحق، وهو الّذي باع نفسه لله، وقد نزلت فيه الآية، كما يقول المفسِّرون، عندما بات ليلة الهجرة على فراش النبي(ص) ليحمي حركته في الهجرة، وهي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}(البقرة/207).
اجتماع الإسلام في علي(ع):
وانطلق عليّ(ع) مع رسول الله(ص) في كلِّ حروبه التي فُرضت عليه، وكان هو فارس الإسلام الأول، ولم يكن قد تدرّب أو دخل في دورة تدريبية يتعلّم فيها فنون الحرب، ولكن إرادة عليّ(ع) في الإخلاص للإسلام، وشجاعته في المواقف من خلال التزامه وإيمانه بالله، جعلتاه يمارس الحرب كأفضل ما يمارسها المتدربون، ولذلك عندما خاض معركة بدر، قتل نصف القتلى من المشركين وشارك المسلمين في النصف الآخر، حتى قال جبرائيل: "لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلا ذو الفقار".
وهكذا نعرف لماذا تحدّث رسول الله عن عليّ(ع) بما لم يتحدث به عن أي صحابي، مع أنّهم كانوا أكبر سنّاً من عليّ. وكان(ص) يقول عنه: "عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار"، "يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وكلمات النبي(ص) في عليّ(ع) ليست كلمات العاطفة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النَّجم/3-4)، فعليٌّ(ع) هو الشخصية المميزة التي تملك العلم كلّه والإخلاص كلّه، والإيمان كلّه، والإسلام كلّه، حتى إنه في معركة الأحزاب، عندما برز (عمرو بن عبد ود) وهو يتحداهم ويتبختر أمامهم، وقال النبي(ص): "من لعمرو وقد ضمنت له على الله الجنة"، ولم يقم أحد إلا عليّ(ع) في المرات الثلاث، عند ذلك قال(ص) وهو يودّع عليّاً: "ربي لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين"، كأن عليّاً يمثّل كل قوة رسول الله، فإذا قُتل فسوف يبقى النبي فرداً، وعندما تحرّك عليّ ليبارز عمراً قال: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله"، لأن الإسلام في تلك المرحلة تجمّع في عليّ(ع)، والشرك تجمّع في عمرو بن عبد ودّ، وعندما انتصر عليّ(ع) قال النبي(ص): "ضربة عليّ يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين"، لأنه هو الذي حفظ للثقلين هذا الامتداد للإسلام، عندما استطاع أن يهزم المشركين في تلك الحرب التي أرادوا من خلالها القضاء على الإسلام في قلب المدينة. لذلك، كانت كلمات رسول الله(ص) في عليّ(ع) كلمات الوحي.
وعندما قربت وفاة النبي(ص)، وأخبره الله بدنوّ أجله، جمع المسلمين في حجة الوداع في غدير خم، ورفع يد عليّ حتى بان بياض إبطيهما للناس، وقال: "أيها المسلمون، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؟ قالوا: "اللهم بلى"، فقال: "اللهم اشهد، من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حثيما دار"، وهذه الكلمة تدلُّ على الحاكمية، فقد كان الرسول(ص) يريد أن يركّز الولاية في عليّ(ع)، ليكون الإنسان الذي يحفظ الإسلام بعد وفاته، كما حفظه في حياته وتحت قيادته.
عليّ(ع) ونصرته للإسلام:
وبعد ذلك، دارت الدوائر، وأُبعد عليّ(ع) عن حقه، ولكنه بالرغم من الظروف الصعبة التي عاشها في تلك المرحلة، كان يشعر بمسؤوليته في نصرة الإسلام حتى لو كان خارج الخلافة، ولذلك لم يتعقّد، بل أعطى النصيحة والمشورة والرأي لمن تقدّمه في الخلافة، وكانت كلمته: "لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليَّ خاصة"، وكان هذا هو برنامج عليّ(ع)؛ أن يسلم المسلمون من كلِّ ضعف وانهيار. وقد قال في كتابه لأهل مصر: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه".
ورأيناه يتابع مسيرة نصرة الإسلام، حتى عندما تولّى الخلافة زرعوا الأشواك في طريقه، وقد عبّر(ع) عن ذلك بقوله: "فلمّا نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}(القصص/83)، بلى والله، لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها. أما والّذي خلق الحبّة، وبرأ النّسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز".
ونقرأ عن بعض أصحابه، وهو "ضرار بن حمزة الضبابي" عند دخوله على معاوية بعد شهادة الإمام عليّ(ع) ومساءلته عن علي(ع)، قال: "فأشهد، لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى اللّيل سدوله، وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم ـ الملدوغ بالحيّة أو غيرها ـ ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، إليك عني، أبي تعرضت أم إليّ تشوّقت، لا حان حينك، هيهات غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبُعد السفر، وعظيم المورد". ويقال إن معاوية بكى عندما سمع ذلك من ضرار.
لقد عاش عليّ(ع) مع الله، وباع نفسه لله، حتى عندما ضربه الشقي ابن ملجم على رأسه في محرابه في المسجد، كانت كلمته: "بسم الله وبالله وعلى ملّة رسول الله، فزتُ وربّ الكعبة"، وكأنه يستعرض كل مراحل حياته، ورأى أن هذه النهاية التي يحبها الله ويرضاها.
وكان الله يحبّ عليّاً(ع) كما لم يحبّ أحداً بعد رسول الله، ولذلك قال عنه النبي(ص) في وقعة خيبر: "لأعطيَّن الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّار غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه". لذلك نحن نحبّ عليّاً أعظم الحبّ، ونتولاّه في إمامته وولايته أعظم الولاية، ونحن لا نزال نتعلّم من عليّ(ع)، لأنه حاضر فينا، في كلِّ ما حدّثنا عنه، ووعظنا فيه، وتحرك به. ونقرأ ما قاله ذلك الشاعر المسيحي:
فيا سماء اخشعي ويا أرض قرّي واخضعي إنني ذكرت عليّا
تعليق