الآية في اللغة: العلامة الدالّة على الشيء بحيث إذا ظهرت العلامة اتضح وجود ذلك الشيء.
وفي المصطلح الإسلامي: نوعان من العلامة الدالَّة على وجود الباري أو إحدى صفاته ـ أسمائه الحسنى ـ وهما:
أ ـ ما دلّ بوجوده المتقن على خالق حكيم، وبنظامه المحكم على ربّ يدبِّر شؤون الخلق وفق نظام محكم نسمّيه بسنن الله في الكون.
فمثال الأول قوله تعالى في سورة الغاشية:
(أَفَلا يَنظرُونَ إلى الإبِلِ كَيفَ خُلِقَت * وَإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَت* وَإلى الجِبالِ كَيفَ نُصِبَت...) (الآيات 17 ـ 20).
وقوله تعالى في سورة العنكبوت:
(خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ وَالأرضَ بِالحَقِّ إنَّ في ذلِكَ لآيةً لِلمؤمِنين) (الآية 44).
ذكر الله تعالى في أمثال هذه الآيات القرآنية أنواعاً من الخلق تدلّ بوجودها على وجود خالقها، ولذلك يسِّميها الآيات.
ومثال الثاني قوله تعالى في سورة النحل:
(هُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لكم مِنهُ شَرابٌ وَمِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُِسيمُون* يُنبِتُ لكم بِهِ الزَّرعَ وَالزَّيتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعنَابَ وَمِن كُلِّ الَّثمَراتِ إِنَّ في ذلِكَ لآيةً لِقَوم يَتَفَكَّرُون* وَسَخَّرَ لكم اللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقمرَ وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعقِلُون* وَمَا ذَرَأَ لَكُم فيِ الأرضِ مِختَلِفاً أَلوانُهُ إِنَّ في ذلِكَ لآيةً لِقَوم يَذِّكَّرُون) (الآيات 10 ـ 13).
ذكر الله في أمَثال هذه الآيات القرآنية أنواعاً من النظام الكوني الذي يدلّ على وجود الربِّ المدبِّر الحكيم، للعالمين، وقد يجمع الله في الذكر بين الآيات الدالَّة على الخالق العزيز والربّ المدبِّر الحكيم مثل قوله تعالى في سورة البقرة:
(إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ وَالأرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجري في البَحرِ بِما يَنفَعُ الناسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماء فَأحيا بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّة وَتَصرِيفِ الرِيّاحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأرضِ لآيات لِقَوم يَعْقِلون) (الآية 164).
ذكر الله تعالى في أوّل الآية خلق السماوات والأرض، وذكر بعدها آيات النظام الكوني الذي قدَّره الربُّ والتي نسمِّيها بسنن الله في الكون.
ب ـ ما آتى الله الربُّ الأنبياءَ من الولاية على النظام الكونَّي بحيث إذا اقتضت مشيئة الله أن يغيرِّ النبيُّ شيئاً يسيراً من النظام الذي جعله الله للكون استطاع أن يفعله بإذن الله تعالى، كما
حكى الله تعالى ذلك في وصف عيسى (ع) في سورة آل عمران، وقال:
(وَرَسولا إلى بَني إسرائيلَ أنِّي قَد جِئتُكُم بِآية مِن ربِّكُم أنّي أخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّين كَهَيئَةِ الطَّيْر...) (الآية 49).
ويسمَّى هذا النوع من آيات الله في العرف الإسلامي بالمعجزة، لأنَّ سائر البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها، وهي خارقة للنظام الطبيعي للخلق، مثل خلق عيسى(ع) من الطين طيراً بإذن الله لتكون دليلا أوَّلا على أنَّ الله الربَّ هو الذي أعطى الأشياء خواصَّها ونظامَها الطبيعي، ومتى اقتضت حكمته أن يسلب أيَّ شيء خواصه، إستطاع أن يفعل ذلك; مثل أن يسلب النار خاصة الإحراق لإبراهيم (ع) حين اُلقِيَ فيها، ومتى اقتضت حكمته أن يغيّر النظام الطبيعي الذي جعله لبعض خلقه، استطاع أن يفعل ذلك; مثل خلق الطير من الطين بيد عيسى(ع) بدل إنشائه من أُنثى الطير بعد اللِّقاح من الطير الذكر وفقاً للنظام الطبيعي الذي جعله في تسلسل خلق ذوات الأرواح.
ومعاجز الأنبياء ـ كما ذكرنا ـ خرقٌ للنظامِ الطبيعي وليست طيّاً لمراحل انتقال المادة من حال إلى حال وصورة بعد صورة حتى تستقرَّ في الصورة الأخيرة، أي ان خلق الطير من الطين يتحقق ضمن سلسلة مراحل يكون قريباً من سير النور، يطويها الله لنبيّه بأسرع من زمانه الطبيعي وتدرُّجه في الإنتقال كما يفهم ذلك من كلام بعض فلاسفة المسلمين.
وليست المعجزة سحراً فإنّ السحر ضرب من التخييل لا حقيقة له، والساحر ـ مثلا ـ عندما يُري أنّه ابتلع طيراً أو دخل في فم الناقة وخرج من دبرها، أو هشَّم أوانَي زجاجيةً ثمّ أعاد كل شيء كما كان، لم يفعل أيَّ شيء من ذلك، وإنّما سحر أعين الرائين فتخيّلوا ذلك، ولّما انتهى مفعول السحر رأى الحاضرون كل شيء كما كان دونما تغيير أو تبديل.
والمعجزة تغيير حقيقي للنظام الطبيعي مثل ابتلاع عصا موسى (ع) ـ التي أصبحت ثعباناً عظيماً ـ جميع ما ألقى السحرة في الساحة الكبيرة، ولمّا عاد الثعبان في يد موسى (ع) إلى العصا لم يبق أثر لما كان قد ألقى السحرة في تلك الساحة، ومن ثمّ أُلقِيَ السحرة ساجدين، وقالوا: آمنّا برَبِّ العالمين ربِّ موسى وهارون; لأنّهم كانوا متخصِّصين في أمر السحر، وأدركوا أنّ عمل موسى(ع) ليس بسحر وإنّما هو آية من آيات الربِّ تعالى.
وكذلك لا تأتي المعجزة في الأمر المحال وما يُسَّمى في علم المنطق باجتماع النقيضين مثل أن يكون الشيء في زمان واحد ومكان واحد موجوداً وغير موجود.
وحقيقة معجزات الأنبياء آيات يجريها اللهُ الربُّ على أيديهم، لا يستطيع الإنس والجنُّ أن يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فإنّ في الجنّ مثلا من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى سليمان قبل أن يقوم من مقامه، لأنّ سير الجنّ في الجو قد يكون قريباً من سير النور.
وبناءً على ذلك قد يستطيع الجنّ أن يخبر عن شيء وقع في مكان ما، لكاهن يتّصل به، ولكن
لا يستطيع الجنّ والإنس أن يخلقوا من الطين طيراً فيكون طيراً، ما لم يكن الربّ قد أذن بذلك.
وقد يستطيع المرتاض الهندي أن يوقف القطار عن الحركة، ولكنّه لا يستطيع هو ولا غيرهم ممَّن لم يأذن له الربُّ أن يضرب بعصاه الحجر فتنبجس منه اثنتا عشرة عيناً. ولما كان الله الربُّ يؤتي من بعثه من الأنبياء الآيات، لتعلم أُمُمهم صدق أدّعائهم أنهم مبعثون من قبل الربّ، كان مقتضى الحكمة أن تكون الآيات ممّا تعرفها الأمة التي بُعِثَ النبيُّ لهدايتها، كما أخبر بذلك الامامُ عليُّ بن موسى الرضا (ع) من سأله: لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا؟ وبعث عيسى بالطبّ؟ وبعث محمّداً (ص) بالكلام والخطب؟ بقوله:
«إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى (ع) كان الأغلب على أهل عصره السحر. فأتاهم من عند الله عزَّ وجلَّ بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذنه، وأثبت به الحجّة عليهم، وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال: والشعر ـ فأتاهم من كتاب الله عزَّ وجلَّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم».
فقال السائل: تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟
فقال (ع): «العقل; تعرف به الصادق على الله فتصدّقه، والكاذب على الله فتكذّبه».
فقال السائل: هذا والله الجواب(1).
وكان إتيان الأنبياء الآيات الخارقة لشيء من النظام الطبيعي للأشياء من سنن الله الربِّ الكونية في المجتمعات الإنسانية التي يبعث الأنبياء إليها.
ومن ثمّ كانت الاُمم تطالب أنبياءها بأن يأتوا لهم بآية تكون دليلا على صدق مدَّعاهم، كما حكى الله تعالى في سورة الشعراء عن قوم ثمود أنّهم قالوا لنبيِّهم صالح(ع):
(ما أَنتَ إلاّ بَشَرٌ مِثلُنا فَأْتِ بآية إن كُنتَ مِنَ الصادقِين* قالَ هذِهِ ناقةٌ لها شِربٌ وَلكم شِرب يَوم مَعلُوم* وَلا تَمَسُّوها بِسُوء فَيَأخُذَكُم عَذابُ يَوم عَظيم)
(الآيات 154 ـ 156).
وبعد بيان النبيِّ الآية المعجزة، كثيراً ما كانت الاُمم تكابر وتعاند نبيَّها ولا تؤمن بالله ربّاً وبنبيِّه مبعوثاً إليهم، كما أخبر الله تعالى عن قوم ثمود بعد هذه الآيات وقال:
1 ـ البحار 11 / 70 ـ 71 باب (علة المعجزة وأنّه لِمَ خَصَّ الله كلَّ نبيَّ بمعجزة خاصة) نقلا عن علل الشرائع / ص: 52، وعيون الأخبار 2 / 80.
(فَعَقَرُوها فَأَصبَحوا نادِمين) (الآية 157).
وإذا نزلت الآية حسب طلب قوم النبىِّ ولم يؤمنوا بها استحقوا الرجز والعذاب، فيعذِّبهم اللهُ تعالى كما أخبر في السورة نفسها عن عاقبة قوم ثمود ـ أيضاً ـ وقال عزَّ اسمه:
(فَأَخَذَهُمُ العَذابُ إِن في ذلِكَ لآيةً ومَا كانَ أِكثَرُهُم مؤمنين) (الآية 158).
ويكون إتيان الآية للأنبياء بمقتضى الحكمة، ومقتضى الحكمة إتيان الآية بالمقدار الذي يظهر لمن أراد أن يؤمن بالربِّ ورسوله أنَّ الرسولَ صادقٌ في دعواه وليس بمقدار تعنّت الأقوام التي تأبى الإيمان بالربَّ وبرسوله على أيِّ حال، ولا تأتي ـ أيضاً ـ بالأمر المحال كما ورد الأمران في طلب قريش من خاتم الرسل (ص) وذلك بعد أن آتى الله قريشاً من آياته ما اختص العرب به: كَلاماً بليغاً، وخاطبهم في سورة البقرة وقال لهم:
(وإن كُنتُم في رَيب مِمّا نَزَّلْنا على عَبدِنا فَأْتوا بِسُورَة مِن مِثْلِهِ وِادعُوا شُهداءَكُم مِن دونِ اللهِ إنْ كُنتُم صادِقين* فَإنْ لَمْ تَفعَلوا وَلَن تَفعَلوُا فَاتَّقُوُا النّارَ الّتي وَقوُدُها النّاسُ وَالحِجارَةُ أُعِدتَّ لِلكافِرين) (الآيتان 23 ـ 24).
وقد أخبر الله تعالى في سورة الإسراء عن أنواع تعنُّتِهم وقال:
(قُلْ لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعض ظَهيراً* وَلَقَد صَرَّفنا لِلنّاس في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَل فَأَبى أَكثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُوراً* وَقالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأرضِ يَنبُوعاً* أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نخِيل وعِنَب فَتُفَجِّرَ الأنهارَ خِلالَها تَفجِيراً* أو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفاً أو تَأْتَيِ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُف أَوْ تَرقى في السَّماءِ وَلَن نؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينا كتاباً نَقرَؤهُ قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنَتُ إلاّ بَشَراً رسُولا* وَما مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جاءَهُمُ الهُدى إلاّ أَن قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رسُولا * قُل لَو كانَ في الأرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزِّلنا عَلَيهم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسولا* قُل كَفى بِاللهِ شَهيداً بَيني وَبَينَكُم إِنّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)
(الآيات 88 ـ 96).
فأتمّ اللهُ الربُّ عليهم الحجّة، وقال: (إن كُنتُم في رَيب ممّا نَزلنا عَلى عَبدِنا فَأتوا بِسُورَة مِن مِثْلِهِ وَادعوا شُهَداءَكُم)، وَأَخْبَرَ أَنَّ الإنس والجنّ لو اجتمعوا لَمَا استطاعوا أن يأتوا بمثله وإنْ كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأكَّد ذلك وقال: لَنْ تستطيعوا أن تأتوا بمثله، وحتى عصرنا الحاضر لم يستطع خصوم الإسلام ـ على كثرتهم وما يملكون من قوى ضخمة ومتنوعة ـ أن يأتوا بسورة من مثل القرآن.
بعد هذا التحدِّي الصارخ وإتيان الأمر المعجز للإنس والجنّ، وعجز قريش عن الإتيان بمثله، طلبوا من الرسول (ص) أن يغيِّر مناخ مكّة وأن يكون له بيتٌ من ذهب، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يرقى في السماء ولا يؤمنون لِرقيِّه حتى ينزِّل عليهم كتاباً يقرؤونه، وكان في ما طلبوا;
الأمرُ المحالُ وهو أن يأتيَ باللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلا تَعالى اللهُ عمّا قالَه الظّالِمونَ عُلُوّاً... وكان فيه ما يخالف سنن الله في إرسال الأنبياء بأن يرقى أمامهم إلى السماء ويأتي لهم بكتاب وهو ما خصَّ اللهُ رسله من الملائكة وليس من شأن البشر، واستنكروا أنْ يبعث الله لهم بشراً رسولا، في حين أنّ الحكمة تقتضي أن يكون الرسل من جنس البشر ليكونوا في عملهم قدوةً وأُسوةً لقومهم، ولم تكن سائر طلباتهم موافقة لمقتضى الحكمة، مثل طلبهم أن ينزِّل عليهم العذاب، ولذلك أمر أن يُجيبهم ويقول: (سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَراً رَسُولا).
وخلاصة ما ذكرناه أن حكمة الربّ اقتضت أنَّ المرسل من قبله يأتي بآية من ربِّه تدلُّ على صدق ادِّعائه، ويُتَّم بذلك الحجَّةَ على الناس، وعندئذ يؤمن من شاء أنْ يؤمن، ويجحد من شاء أنْ يجحد، كما كان شأن قوم موسى وهارون(ع) بعد إتيان المعجزات، فقد آمنت السحرة وكفر بها فرعون وملأهُ فأخزاهم الله بالغَرَقِ، وما يأتي به الأنبياء من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسمَّى في المصطلح الإسلامي بالمعجزة دليلا على صدقهم.
وفي المصطلح الإسلامي: نوعان من العلامة الدالَّة على وجود الباري أو إحدى صفاته ـ أسمائه الحسنى ـ وهما:
أ ـ ما دلّ بوجوده المتقن على خالق حكيم، وبنظامه المحكم على ربّ يدبِّر شؤون الخلق وفق نظام محكم نسمّيه بسنن الله في الكون.
فمثال الأول قوله تعالى في سورة الغاشية:
(أَفَلا يَنظرُونَ إلى الإبِلِ كَيفَ خُلِقَت * وَإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَت* وَإلى الجِبالِ كَيفَ نُصِبَت...) (الآيات 17 ـ 20).
وقوله تعالى في سورة العنكبوت:
(خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ وَالأرضَ بِالحَقِّ إنَّ في ذلِكَ لآيةً لِلمؤمِنين) (الآية 44).
ذكر الله تعالى في أمثال هذه الآيات القرآنية أنواعاً من الخلق تدلّ بوجودها على وجود خالقها، ولذلك يسِّميها الآيات.
ومثال الثاني قوله تعالى في سورة النحل:
(هُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لكم مِنهُ شَرابٌ وَمِنهُ شَجَرٌ فِيهِ تُِسيمُون* يُنبِتُ لكم بِهِ الزَّرعَ وَالزَّيتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعنَابَ وَمِن كُلِّ الَّثمَراتِ إِنَّ في ذلِكَ لآيةً لِقَوم يَتَفَكَّرُون* وَسَخَّرَ لكم اللَّيلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمسَ وَالقمرَ وَالنُّجومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمرِهِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعقِلُون* وَمَا ذَرَأَ لَكُم فيِ الأرضِ مِختَلِفاً أَلوانُهُ إِنَّ في ذلِكَ لآيةً لِقَوم يَذِّكَّرُون) (الآيات 10 ـ 13).
ذكر الله في أمَثال هذه الآيات القرآنية أنواعاً من النظام الكوني الذي يدلّ على وجود الربِّ المدبِّر الحكيم، للعالمين، وقد يجمع الله في الذكر بين الآيات الدالَّة على الخالق العزيز والربّ المدبِّر الحكيم مثل قوله تعالى في سورة البقرة:
(إنَّ في خَلقِ السَّمواتِ وَالأرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ وَالفُلكِ الَّتِي تَجري في البَحرِ بِما يَنفَعُ الناسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِن ماء فَأحيا بِهِ الأرضَ بَعدَ مَوتِها وَبَثَّ فِيها مِن كُلِّ دابَّة وَتَصرِيفِ الرِيّاحِ وَالسَّحابِ المُسَخَّرِ بَينَ السَّماءِ وَالأرضِ لآيات لِقَوم يَعْقِلون) (الآية 164).
ذكر الله تعالى في أوّل الآية خلق السماوات والأرض، وذكر بعدها آيات النظام الكوني الذي قدَّره الربُّ والتي نسمِّيها بسنن الله في الكون.
ب ـ ما آتى الله الربُّ الأنبياءَ من الولاية على النظام الكونَّي بحيث إذا اقتضت مشيئة الله أن يغيرِّ النبيُّ شيئاً يسيراً من النظام الذي جعله الله للكون استطاع أن يفعله بإذن الله تعالى، كما
حكى الله تعالى ذلك في وصف عيسى (ع) في سورة آل عمران، وقال:
(وَرَسولا إلى بَني إسرائيلَ أنِّي قَد جِئتُكُم بِآية مِن ربِّكُم أنّي أخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّين كَهَيئَةِ الطَّيْر...) (الآية 49).
ويسمَّى هذا النوع من آيات الله في العرف الإسلامي بالمعجزة، لأنَّ سائر البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها، وهي خارقة للنظام الطبيعي للخلق، مثل خلق عيسى(ع) من الطين طيراً بإذن الله لتكون دليلا أوَّلا على أنَّ الله الربَّ هو الذي أعطى الأشياء خواصَّها ونظامَها الطبيعي، ومتى اقتضت حكمته أن يسلب أيَّ شيء خواصه، إستطاع أن يفعل ذلك; مثل أن يسلب النار خاصة الإحراق لإبراهيم (ع) حين اُلقِيَ فيها، ومتى اقتضت حكمته أن يغيّر النظام الطبيعي الذي جعله لبعض خلقه، استطاع أن يفعل ذلك; مثل خلق الطير من الطين بيد عيسى(ع) بدل إنشائه من أُنثى الطير بعد اللِّقاح من الطير الذكر وفقاً للنظام الطبيعي الذي جعله في تسلسل خلق ذوات الأرواح.
ومعاجز الأنبياء ـ كما ذكرنا ـ خرقٌ للنظامِ الطبيعي وليست طيّاً لمراحل انتقال المادة من حال إلى حال وصورة بعد صورة حتى تستقرَّ في الصورة الأخيرة، أي ان خلق الطير من الطين يتحقق ضمن سلسلة مراحل يكون قريباً من سير النور، يطويها الله لنبيّه بأسرع من زمانه الطبيعي وتدرُّجه في الإنتقال كما يفهم ذلك من كلام بعض فلاسفة المسلمين.
وليست المعجزة سحراً فإنّ السحر ضرب من التخييل لا حقيقة له، والساحر ـ مثلا ـ عندما يُري أنّه ابتلع طيراً أو دخل في فم الناقة وخرج من دبرها، أو هشَّم أوانَي زجاجيةً ثمّ أعاد كل شيء كما كان، لم يفعل أيَّ شيء من ذلك، وإنّما سحر أعين الرائين فتخيّلوا ذلك، ولّما انتهى مفعول السحر رأى الحاضرون كل شيء كما كان دونما تغيير أو تبديل.
والمعجزة تغيير حقيقي للنظام الطبيعي مثل ابتلاع عصا موسى (ع) ـ التي أصبحت ثعباناً عظيماً ـ جميع ما ألقى السحرة في الساحة الكبيرة، ولمّا عاد الثعبان في يد موسى (ع) إلى العصا لم يبق أثر لما كان قد ألقى السحرة في تلك الساحة، ومن ثمّ أُلقِيَ السحرة ساجدين، وقالوا: آمنّا برَبِّ العالمين ربِّ موسى وهارون; لأنّهم كانوا متخصِّصين في أمر السحر، وأدركوا أنّ عمل موسى(ع) ليس بسحر وإنّما هو آية من آيات الربِّ تعالى.
وكذلك لا تأتي المعجزة في الأمر المحال وما يُسَّمى في علم المنطق باجتماع النقيضين مثل أن يكون الشيء في زمان واحد ومكان واحد موجوداً وغير موجود.
وحقيقة معجزات الأنبياء آيات يجريها اللهُ الربُّ على أيديهم، لا يستطيع الإنس والجنُّ أن يأتوا بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فإنّ في الجنّ مثلا من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس من اليمن إلى سليمان قبل أن يقوم من مقامه، لأنّ سير الجنّ في الجو قد يكون قريباً من سير النور.
وبناءً على ذلك قد يستطيع الجنّ أن يخبر عن شيء وقع في مكان ما، لكاهن يتّصل به، ولكن
لا يستطيع الجنّ والإنس أن يخلقوا من الطين طيراً فيكون طيراً، ما لم يكن الربّ قد أذن بذلك.
وقد يستطيع المرتاض الهندي أن يوقف القطار عن الحركة، ولكنّه لا يستطيع هو ولا غيرهم ممَّن لم يأذن له الربُّ أن يضرب بعصاه الحجر فتنبجس منه اثنتا عشرة عيناً. ولما كان الله الربُّ يؤتي من بعثه من الأنبياء الآيات، لتعلم أُمُمهم صدق أدّعائهم أنهم مبعثون من قبل الربّ، كان مقتضى الحكمة أن تكون الآيات ممّا تعرفها الأمة التي بُعِثَ النبيُّ لهدايتها، كما أخبر بذلك الامامُ عليُّ بن موسى الرضا (ع) من سأله: لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا؟ وبعث عيسى بالطبّ؟ وبعث محمّداً (ص) بالكلام والخطب؟ بقوله:
«إنَّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى (ع) كان الأغلب على أهل عصره السحر. فأتاهم من عند الله عزَّ وجلَّ بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطبّ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذنه، وأثبت به الحجّة عليهم، وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه قال: والشعر ـ فأتاهم من كتاب الله عزَّ وجلَّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم».
فقال السائل: تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟
فقال (ع): «العقل; تعرف به الصادق على الله فتصدّقه، والكاذب على الله فتكذّبه».
فقال السائل: هذا والله الجواب(1).
وكان إتيان الأنبياء الآيات الخارقة لشيء من النظام الطبيعي للأشياء من سنن الله الربِّ الكونية في المجتمعات الإنسانية التي يبعث الأنبياء إليها.
ومن ثمّ كانت الاُمم تطالب أنبياءها بأن يأتوا لهم بآية تكون دليلا على صدق مدَّعاهم، كما حكى الله تعالى في سورة الشعراء عن قوم ثمود أنّهم قالوا لنبيِّهم صالح(ع):
(ما أَنتَ إلاّ بَشَرٌ مِثلُنا فَأْتِ بآية إن كُنتَ مِنَ الصادقِين* قالَ هذِهِ ناقةٌ لها شِربٌ وَلكم شِرب يَوم مَعلُوم* وَلا تَمَسُّوها بِسُوء فَيَأخُذَكُم عَذابُ يَوم عَظيم)
(الآيات 154 ـ 156).
وبعد بيان النبيِّ الآية المعجزة، كثيراً ما كانت الاُمم تكابر وتعاند نبيَّها ولا تؤمن بالله ربّاً وبنبيِّه مبعوثاً إليهم، كما أخبر الله تعالى عن قوم ثمود بعد هذه الآيات وقال:
1 ـ البحار 11 / 70 ـ 71 باب (علة المعجزة وأنّه لِمَ خَصَّ الله كلَّ نبيَّ بمعجزة خاصة) نقلا عن علل الشرائع / ص: 52، وعيون الأخبار 2 / 80.
(فَعَقَرُوها فَأَصبَحوا نادِمين) (الآية 157).
وإذا نزلت الآية حسب طلب قوم النبىِّ ولم يؤمنوا بها استحقوا الرجز والعذاب، فيعذِّبهم اللهُ تعالى كما أخبر في السورة نفسها عن عاقبة قوم ثمود ـ أيضاً ـ وقال عزَّ اسمه:
(فَأَخَذَهُمُ العَذابُ إِن في ذلِكَ لآيةً ومَا كانَ أِكثَرُهُم مؤمنين) (الآية 158).
ويكون إتيان الآية للأنبياء بمقتضى الحكمة، ومقتضى الحكمة إتيان الآية بالمقدار الذي يظهر لمن أراد أن يؤمن بالربِّ ورسوله أنَّ الرسولَ صادقٌ في دعواه وليس بمقدار تعنّت الأقوام التي تأبى الإيمان بالربَّ وبرسوله على أيِّ حال، ولا تأتي ـ أيضاً ـ بالأمر المحال كما ورد الأمران في طلب قريش من خاتم الرسل (ص) وذلك بعد أن آتى الله قريشاً من آياته ما اختص العرب به: كَلاماً بليغاً، وخاطبهم في سورة البقرة وقال لهم:
(وإن كُنتُم في رَيب مِمّا نَزَّلْنا على عَبدِنا فَأْتوا بِسُورَة مِن مِثْلِهِ وِادعُوا شُهداءَكُم مِن دونِ اللهِ إنْ كُنتُم صادِقين* فَإنْ لَمْ تَفعَلوا وَلَن تَفعَلوُا فَاتَّقُوُا النّارَ الّتي وَقوُدُها النّاسُ وَالحِجارَةُ أُعِدتَّ لِلكافِرين) (الآيتان 23 ـ 24).
وقد أخبر الله تعالى في سورة الإسراء عن أنواع تعنُّتِهم وقال:
(قُلْ لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنُّ عَلى أَن يَأتُوا بِمِثلِ هذا القُرآنِ لا يَأتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعضُهُم لِبَعض ظَهيراً* وَلَقَد صَرَّفنا لِلنّاس في هذا القُرآنِ مِن كُلِّ مَثَل فَأَبى أَكثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُوراً* وَقالُوا لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأرضِ يَنبُوعاً* أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نخِيل وعِنَب فَتُفَجِّرَ الأنهارَ خِلالَها تَفجِيراً* أو تُسقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمتَ عَلَينا كِسَفاً أو تَأْتَيِ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلا* أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُف أَوْ تَرقى في السَّماءِ وَلَن نؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينا كتاباً نَقرَؤهُ قُل سُبحانَ رَبِّي هَل كُنَتُ إلاّ بَشَراً رسُولا* وَما مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جاءَهُمُ الهُدى إلاّ أَن قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رسُولا * قُل لَو كانَ في الأرضِ مَلائِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزِّلنا عَلَيهم مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسولا* قُل كَفى بِاللهِ شَهيداً بَيني وَبَينَكُم إِنّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)
(الآيات 88 ـ 96).
فأتمّ اللهُ الربُّ عليهم الحجّة، وقال: (إن كُنتُم في رَيب ممّا نَزلنا عَلى عَبدِنا فَأتوا بِسُورَة مِن مِثْلِهِ وَادعوا شُهَداءَكُم)، وَأَخْبَرَ أَنَّ الإنس والجنّ لو اجتمعوا لَمَا استطاعوا أن يأتوا بمثله وإنْ كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأكَّد ذلك وقال: لَنْ تستطيعوا أن تأتوا بمثله، وحتى عصرنا الحاضر لم يستطع خصوم الإسلام ـ على كثرتهم وما يملكون من قوى ضخمة ومتنوعة ـ أن يأتوا بسورة من مثل القرآن.
بعد هذا التحدِّي الصارخ وإتيان الأمر المعجز للإنس والجنّ، وعجز قريش عن الإتيان بمثله، طلبوا من الرسول (ص) أن يغيِّر مناخ مكّة وأن يكون له بيتٌ من ذهب، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يرقى في السماء ولا يؤمنون لِرقيِّه حتى ينزِّل عليهم كتاباً يقرؤونه، وكان في ما طلبوا;
الأمرُ المحالُ وهو أن يأتيَ باللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبيلا تَعالى اللهُ عمّا قالَه الظّالِمونَ عُلُوّاً... وكان فيه ما يخالف سنن الله في إرسال الأنبياء بأن يرقى أمامهم إلى السماء ويأتي لهم بكتاب وهو ما خصَّ اللهُ رسله من الملائكة وليس من شأن البشر، واستنكروا أنْ يبعث الله لهم بشراً رسولا، في حين أنّ الحكمة تقتضي أن يكون الرسل من جنس البشر ليكونوا في عملهم قدوةً وأُسوةً لقومهم، ولم تكن سائر طلباتهم موافقة لمقتضى الحكمة، مثل طلبهم أن ينزِّل عليهم العذاب، ولذلك أمر أن يُجيبهم ويقول: (سُبحانَ رَبِّي هَل كُنتُ إلاّ بَشَراً رَسُولا).
وخلاصة ما ذكرناه أن حكمة الربّ اقتضت أنَّ المرسل من قبله يأتي بآية من ربِّه تدلُّ على صدق ادِّعائه، ويُتَّم بذلك الحجَّةَ على الناس، وعندئذ يؤمن من شاء أنْ يؤمن، ويجحد من شاء أنْ يجحد، كما كان شأن قوم موسى وهارون(ع) بعد إتيان المعجزات، فقد آمنت السحرة وكفر بها فرعون وملأهُ فأخزاهم الله بالغَرَقِ، وما يأتي به الأنبياء من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ يسمَّى في المصطلح الإسلامي بالمعجزة دليلا على صدقهم.