السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللهم صل على محمد وال محمد
------------------------------
الرحمة.. كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبة وهي خلق إنساني أوجب الله تعالى وهو أرحم الراحمين أن يرحم من تخلق به إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه عز وجل ولذا نسمع رسول الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله يقول:
الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء
وجاء رجل فقال له: أحب أن يرحمني ربي. فقال له المصطفى صلى الله عليه وآله: ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله
أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان له كلمات أخرى تدعو إلى الرحمة وترغب فيها وتبين عوائدها الطيبة من ذلك قوله سلام الله عليه:
أحسن يحسن إليك ارحم ترحم ارحم من دونك يرحمك من فوقك وقس سهوه بسهوك ومعصيته بمعصيتك لربك وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربك عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم
من دونه
وفي موجبات الرحمة الإلهية قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
ببذل الرحمة تستنزل الرحمة . رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة .
أبلغ ما تستدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة .
وهذا خلق الأنبياء والأوصياء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أرحم الناس بالناس فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح ودعاهم إلى السلام والأخلاق الطيبة وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا من أبى حتى قال الله تعالى فيه:
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم).
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
فكان من أوصافه صلى الله عليه وآله أنه يشق عليه ضر الناس أو هلاكهم،وأنه حريص عليهم جميعا.. من مؤمن أو غير مؤمن وأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين منهم خاصة. وكان صلى الله عليه وآله رحمة لأهل الدنيا لأنه أتى بدين فيه سعادتهم وهو القائل: إنما أنا رحمة مهداة.
وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبقت الآفاق وشملت الناس جميعا فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل والفقراء والمساكين ويشفق على الصبيان والبنات والمظلومين والمحرومين ويرحم أصحابه
والمخالفين ويدعوهم بأخلاقه العظيمة إلى الهداية من الضلال والنور من الظلمات حتى عرف بالعفو والصفح والمواساة وتطييب الخواطر وجبر القلوب. والمسح بيد الرحمة على رؤوس اليتامى وصدور المحزونين وجراح المكلومين.
ومن بعده.. كان وريثه وسبطه: الحسين سلام الله عليه مقتفيا آثاره الشريفة في كل خلق فاضل كريم فوعظ الناس كجده المصطفى صلى الله عليه وآله لينقذهم من الظلمات إلى النور ويخلصهم من شراك الشياطين وأسر ظلمة السلاطين الذين يأخذون بأيديهم إلى مهاوي الجحيم.
وقد مد سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه على الناس يد الرحمة..
فشمل القاصي والداني والعدو والصديق والمخالف والمؤالف لأن الله تبارك وتعالى بر رحيم وقد دعاه إلى ذلك فأغاث الملهوف وأدخل على قلب المحزون السرور وتفقد المحرومين والمعوزين وعاد المرضى ومسح على آلام المحرومين والمظلومين فأبرأها وعلى عيون المضللين فبصرها وعلى آذان المغفلين فأسمعها كلمات الهداية والرشد وعلى صدر المفجوعين فسكنها وطمأنها.
وكان من رحمته على المؤمنين أن ذرف عليهم دموعه حزينة ساخنة سخية ثم شفعها بكلمات هي بلسم العليل وهدية الخليل والماء البارد على جمرة الغليل.. فحين اشتد بولده علي الأكبر عليه السلام رجع إلى أبيه الحسين سلام الله عليه يستريح فلما ذكر له ما أجهده من العطش بكى الحسين وقال: وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها. ثم أخذ لسان ولده فمصه ودفع إليه خاتمة ليضعه في فيه
فعاد (علي) إلى الميدان مبتهجا بالبشارة حتى قتل عددا كبيرا من أعداء الله. وبعد أن قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل حمل آل أبي طالب حملة واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: صبرا على الموت يا بني عمومتي! والله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم وكان النداء الحسيني الرحيم يقع على قلوبهم موضع المطمئن المسكن، فيصبرهم ويشد عزائمهم على الأمر العصيب.
وحين خرج ابن أخيه (القاسم بن الحسن) وهو غلام لم يبلغ الحلم نظر إليه الحسين (عليه السلام) واعتنقه وبكى نظر إليه وهو بقية أخيه السبط الشهيد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام)ولولا إصراره على النزال ما أذن له عليه السلام ولكن هذا الغلام الغيور لم يصبر أن يرى أعداء الله يقتلون أولياء الله.. حتى إذا استشهد قام عمه على رأسه وقال:بعدا لقوم قتلوك خصمهم يوم القيامة جدك. ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك. ثم احتمله فألقاه مع ولده علي الأكبر .
ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا ولا تغادر منهم أحدا ولا تغفر لهم أبدا. صبرا يا بني عمومتي! صبرا يا أهل بيتي! لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا .
ولما استشهد أخوه أبو الفضل العباس (سلام الله عليه) حضر عنده وبكى عليه.
لقد جاء الحسين عليه السلام بهذا ال ركب القدسي من أهل بيته النجباء ليقدمهم قرابين لله تعالى فداء لدينه الأقدس ورحمة بالأمة كي تنتفع بدمائهم وائتمارا بما يريد الله تعالى ويرضى.. وقد قال (عليه السلام): شاء الله أن يراني قتيلا ويرى النساء سبايا. هذا ما بلغ به أخاه محمد بن الحنفية أما ما قاله لأم المؤمنين (أم سلمة) رضوان الله عليها فهو: يا أماه! وأنا أعلم أني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا وقد شاء عز وجل أن يرى حرمي ورهطي مشردين وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا .
فقدم الحسين عليه السلام كل شئ لله لأجل أن تسمع صرخته آذان النائمين والغافلين والذين خدرتهم الدنيا. فبتضحياته تلك.. استطاع أن يثبت للأمة بأن الخلافة بيد أعداء الاسلام وأن الدين في خطر وأن بني أمية لا يتورعون عن تحريف الرسالة المحمدية وعن استئصال أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)وأهل بيت الوحي والرسالة، وعن التنكيل بحرم المصطفى وبناته. وبذلك عين الإمام الحسين عليه السلام. للأمة - رحمة بها - تكليفها لتنجو بأدائه من غضب الله عز وجل.
ومن أجل ذلك.. قدم أهل بيته وأصحابه حتى الطفل الرضيع فتقدم وهو يتأذى لعويل الأيامى وصراخ الأطفال فأمر عياله بالسكوت وودعهم وتقدم يقتل بسيفه أعداء الله حتى أردى منهم جمعا كثيرا ثم عاد إلى عياله
يودعهم ثانيا ويأمرهم بالصبر قائلا لهم: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم .
كلمات.. نزلت منزل الرحمة على النفوس الحزينة ومنزل الطمأنينة على القلوب الخائفة الوجلة فسكن بها روعتهن وبل غلتهن.
ثم التفت عليه السلام إلى ابنته سكينة فرآها منحازة عن النساء باكية معولة فوقف عليها مصبرا ومسليا.
يقول الشيخ التستري: الملاطفة من الآباء مع الأولاد مستحب خاصة ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة. وقد تحقق ذلك من الحسين عليه السلام بأحسن وجوهه وأراد ذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة أراد أن يفرحها بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها فما تزداد بهذه إلا غصة وحزنا . وقيل: فضمها الحسين عليه السلام إلى صدره الشريف وقبلها ومسح دموعها بكمه وقال:
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي * منك البكاء إذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة * ما دام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي * تأتينه.. يا خيرة النسوان!
ولقد ترك الحسين عليه السلام آثار رحمته الأبوية عليها فعاشت بعده أكثر من ستين عاما لا تنساه ولا تنسى دروس الصبر والوفاء. وكذلك ترك على أخته زينب عليها السلام آثارا من الصبر الجميل حين عزاها وأوصاها في كربلاء قائلا لها: يا أختاه! تعزي بعزاء الله
فإن سكان السماوات يفنون وأهل الأرض كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون .
فزرع في قلبها الصبر والثبات ورباطة الجأش فنهضت بأعباء مسؤوليات تنوء من حملها الجبال الرواسي وتحملت مصائب وآلاما تنهد لهولها عزائم الرجال الأشداء.. فهي التي شهدت واقعة الطف بكل مآسيها وفجائعها ومصائبها ونكباتها وعانت الجوع والعطش وكلفت بجمع الأرامل واليتامى وانتشال الأطفال من تحت حوافر الخيل وستر العيال في خيمة والأسر إلى الكوفة والشام مربطين بالحبال هدية إلى الطاغية عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية والسفر إلى المدينة بعد وقوف حزين في كربلاء يوم أربعينية أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه تبكي عليه وعلى إخوتها وولديها وأولاد إخوتها وبني عمومتها والخلص من الأصحاب الشهداء الأبرار.
وفي المدينة أبلت البلاء الحسن في عرض وقائع فاجعة الطف العظمى، فألهبت العواطف وألبت القلوب وخلقت ثورة في المدينة بانت فيما بعد آثارها فترجمت إلى ثورات انفجرت ضد الحكم الأموي حتى زلزلته ودمرته.
لما عرف الإمام الحسين عليه السلام من أصحابه صدق النية والإخلاص
في المفاداة دونه أوقفهم على غامض القضاء بإنه مقتول غدا وكلهم مقتولون فقالوا بأجمعهم: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟! فدعا لهم بالخير وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرفهم منازلهم فيها.
ولما فرغ عليه السلام من الصلاة يوم عاشوراء قال لأصحابه:
يا كرام! هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبوا عن حرم الرسول.
فقالوا: نفوسنا لنفسك الفداء ولدماؤنا لدمك الوقاء فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
إنها الرحمة الحسينية تجعل المر شهدا..
وقف جون مولى أبي ذر الغفاري أمام الحسين عليه السلام يستأذنه فقال عليه السلام: يا جون! إنما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في إذن مني. فوقع جون على قدميه يقبلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم! إن ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني.. لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين فقتل خمسا وعشرين وقتل فوقف عليه السلام وقال: اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمد صلى الله عليه وآله وعرف بينه وبين آل محمد صلى الله عليه وآله. فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك .
وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخا كبيرا صحابيا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسمع حديثه وشهد معه بدرا وحنينا فاستأذن الحسين وبرز شادا وسطه بالعمامة رافعا حاجبيه بالعصابة ولما نظر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى وقال: شكر الله لك يا شيخ. فقتل على كبره ثمانية عشر رجلا وقتل .
ولما استشهد جنادة الأنصاري جاء ابنه عمرو وهو ابن إحدى عشرة سنة يستأذن الإمام الحسين عليه السلام فأبى وقال: هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره ذلك، فقال الغلام: إن أمي أمرتني. فأذن له فقتل.. فأخذت أمه عمودا. وقيل سيفا. فردها الحسين عليه السلام إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين وهي تنشئ:
إني عجوز في النسا ضعيفة * خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربة عنيفة * دون بني فاطمة الشريفة
وقال عليه السلام لبشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي: إن ابنك قد أسر في ثغر الري فقال بشر: عند الله أحتسبه ونفسي.. فلما سمع الحسين عليه السلام مقالته قال: رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاذهب واعمل في فكاك ابنك. قال بشر: أكلتني السباع حيا إن أنا فارقتك فقال عليه السلام له:
فأعط ابنك محمدا هذه الأثواب البرود وكان معه ليستعين بها في فكاك أخيه. وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار وقتل بشر في الحملة الأولى .
ولا تقف الرحمة الحسينية عند حد.. فبعد شهادة القاسم عليه السلام برز أخوه أحمد بن الحسن فقاتل حتى أخذه العطش فنادى: يا عماه! هل من شربة ماء؟ فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن أخي! اصبر قليلا حتى تلقى جدك رسول الله صلى الله عليه وآله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبدا .
فرجع الغلام وقاتل صابرا متصبرا بكلمة عمه الحسين سلام الله عليه.
ولما سقط الإمام الحسين عليه السلام بعد جراحات لا يقوى معها على قيام.. نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبط عليه السلام وله إحدى عشرة سنة وقد أحدق به القوم فأقبل يشتد نحو عمه وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمه فأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة! أتضرب عمي؟! فضربه واتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة فصاح الغلام: يا عماه! ووقع في حجر الحسين عليه السلام فضمه إليه وقال: يا ابن أخي! اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين.
فرمى الغلام حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.
في حالة كان يجود الحسين عليه السلام بنفسه ضم إليه ذلك الغلام وصبره بتلك الكلمات التي تنسي الألم وشدة الموقف.
إنها الرحمة الحسينية التي فاضت: خيرا وإنسانية وكرما لا على
الانسان فحسب بل تعدته إلى البهائم..
فعند مبارزته اشتد به العطش فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجاج فكشف جنده وكانوا أربعة آلاف كشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء ليشرب .
وأكثر من ذلك ما رواه الطبري حيث ذكر في تاريخه فبعد أن: طلع عليهم الحر الرياحي مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده أو يقدم به الكوفة فوقف الحر وأصحابه مقابل الحسين في حر الظهيرة
قال الطبري: فلما رأى سيد الشهداء ما بالقوم من العطش (أي الحر وأصحابه) أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل فسقوهم وخيولهم عن آخرهم ثم أخذوا يملأون القصاع والطساس ويدنونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت وسقي آخر.. حتى سقوا الخيل كلها.
وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر فجاء آخرهم وقد أضر به العطش فقال الحسين عليه السلام: أنخ الراوية وهي الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال عليه السلام: أنخ الجمل. ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء فقال له الإمام الحسين عليه السلام: أخنث السقاء فلم يدر (علي بن الطعان) ما يصنع لشدة العطش فقام عليه السلام بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه .
وهذه هي الرحمة الحسينية العجيبة فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة وبيده الكريمة يقدم الماء في البيداء المقفرة إلى العطاشى من أعدائه الذين سيشهرون سيوفهم غدا عليه بل سيبضعونه بها وهو يعلم ذلك لكن الرحمة تمنعه من الانتقام منهم وإجراء القصاص قبل الجناية. وهذا هو الذي أيقظ في الحر بن يزيد الرياحي حالة الندم والتوبة متأثرا برحمة الإمام الحسين عليه السلام وهذا هو الذي جعل الأجيال تحب الإمام الحسين عليه السلام وتجله وتقدسه لأنه رجل المكارم ورجل الأخلاق الفاضلة التي تترفع ولا تمد إلى الناس إلا يد رحمة.. حتى تشمل الخيول خيول الأعداء.
قال الشيخ التستري: (باب سقي الماء)والظاهر أنه مستحب حتى للكفار في حال العطش وللبهائم وواجب في بعض الأوقات وأجره أول أجر يعطى يوم القيامة. وقد تحقق من الإمام الحسين عليه السلام أنواع السقي كل ها حتى السقي للمخالفين له والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة وسقي ذي الجناح فقال له: اشرب وأنا أشرب...
(باب الإطعام) وكفى في فضله أن الخلاص من العقبة قد حمل عليه في الآية الشريفة * (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة) * قال الإمام السجاد عليه السلام: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا .
أجل.. فذلك الرجل العطوف الشفيق الرحيم يقتل، ويقتل عطشانا بعد أن سقى الناس حتى أعداءه وحتى البهائم التي ركبوها للكر عليه وقتله. وذلك الرجل الطيب الذي طالما أشبع الجياع قتل وقتل ساغبا جائعا وكانت يده السخية تحمل الطعام والماء كل ليلة إلى الفقراء والمساكين والأيتام والأسر الأبية حتى ترك ذلك أثرا على ظهره.. فسئل الإمام زين العابدين ولده عليه السلام عن ذلك فقال: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين .
إلا أن هذا الظهر العطوف.. قد عملت فيه سيوف ورماح وسهام أعداء الله عملها ثم جاءت خيولهم فداسته.
وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين وجاد على الناس حتى العدو منهم بالنصيحة والموعظة لم يدخر من ذلك شيئا.. قد هشمته السيوف وسنابك الخيل.
وذلك الوجه النوري المقدس الذي سجد لله طويلا وبكى على آلام الناس طويلا فصل عن البدن ورفع على الرمح تشفيا ونكالا ولم يستح العدو وقد رأى الحسين عليه السلام يبكي فسئل عن ذلك وهو في ساحة الطف فأخبر بأنه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته. لقد كان منهم ما تتفطر له السماوات وتنهد الجبال.. حيث:
فرى الغي نحرا يغبط البدر نوره * وفي كل عرق منه للحق فرقد
وهشم أضلاعا بها العطف مودع * وقطع أنفاسا بها اللطف موجد
اللهم صل على محمد وال محمد
------------------------------
الرحمة.. كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبة وهي خلق إنساني أوجب الله تعالى وهو أرحم الراحمين أن يرحم من تخلق به إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه عز وجل ولذا نسمع رسول الله نبي الرحمة صلى الله عليه وآله يقول:
الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء
وجاء رجل فقال له: أحب أن يرحمني ربي. فقال له المصطفى صلى الله عليه وآله: ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله
أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان له كلمات أخرى تدعو إلى الرحمة وترغب فيها وتبين عوائدها الطيبة من ذلك قوله سلام الله عليه:
أحسن يحسن إليك ارحم ترحم ارحم من دونك يرحمك من فوقك وقس سهوه بسهوك ومعصيته بمعصيتك لربك وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربك عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه كيف لا يرحم
من دونه
وفي موجبات الرحمة الإلهية قال عليه أفضل الصلاة والسلام:
ببذل الرحمة تستنزل الرحمة . رحمة الضعفاء تستنزل الرحمة .
أبلغ ما تستدر به الرحمة أن تضمر لجميع الناس الرحمة .
وهذا خلق الأنبياء والأوصياء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أرحم الناس بالناس فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح ودعاهم إلى السلام والأخلاق الطيبة وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا من أبى حتى قال الله تعالى فيه:
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم).
(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
فكان من أوصافه صلى الله عليه وآله أنه يشق عليه ضر الناس أو هلاكهم،وأنه حريص عليهم جميعا.. من مؤمن أو غير مؤمن وأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين منهم خاصة. وكان صلى الله عليه وآله رحمة لأهل الدنيا لأنه أتى بدين فيه سعادتهم وهو القائل: إنما أنا رحمة مهداة.
وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبقت الآفاق وشملت الناس جميعا فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل والفقراء والمساكين ويشفق على الصبيان والبنات والمظلومين والمحرومين ويرحم أصحابه
والمخالفين ويدعوهم بأخلاقه العظيمة إلى الهداية من الضلال والنور من الظلمات حتى عرف بالعفو والصفح والمواساة وتطييب الخواطر وجبر القلوب. والمسح بيد الرحمة على رؤوس اليتامى وصدور المحزونين وجراح المكلومين.
ومن بعده.. كان وريثه وسبطه: الحسين سلام الله عليه مقتفيا آثاره الشريفة في كل خلق فاضل كريم فوعظ الناس كجده المصطفى صلى الله عليه وآله لينقذهم من الظلمات إلى النور ويخلصهم من شراك الشياطين وأسر ظلمة السلاطين الذين يأخذون بأيديهم إلى مهاوي الجحيم.
وقد مد سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه على الناس يد الرحمة..
فشمل القاصي والداني والعدو والصديق والمخالف والمؤالف لأن الله تبارك وتعالى بر رحيم وقد دعاه إلى ذلك فأغاث الملهوف وأدخل على قلب المحزون السرور وتفقد المحرومين والمعوزين وعاد المرضى ومسح على آلام المحرومين والمظلومين فأبرأها وعلى عيون المضللين فبصرها وعلى آذان المغفلين فأسمعها كلمات الهداية والرشد وعلى صدر المفجوعين فسكنها وطمأنها.
وكان من رحمته على المؤمنين أن ذرف عليهم دموعه حزينة ساخنة سخية ثم شفعها بكلمات هي بلسم العليل وهدية الخليل والماء البارد على جمرة الغليل.. فحين اشتد بولده علي الأكبر عليه السلام رجع إلى أبيه الحسين سلام الله عليه يستريح فلما ذكر له ما أجهده من العطش بكى الحسين وقال: وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها. ثم أخذ لسان ولده فمصه ودفع إليه خاتمة ليضعه في فيه
فعاد (علي) إلى الميدان مبتهجا بالبشارة حتى قتل عددا كبيرا من أعداء الله. وبعد أن قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل حمل آل أبي طالب حملة واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: صبرا على الموت يا بني عمومتي! والله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم وكان النداء الحسيني الرحيم يقع على قلوبهم موضع المطمئن المسكن، فيصبرهم ويشد عزائمهم على الأمر العصيب.
وحين خرج ابن أخيه (القاسم بن الحسن) وهو غلام لم يبلغ الحلم نظر إليه الحسين (عليه السلام) واعتنقه وبكى نظر إليه وهو بقية أخيه السبط الشهيد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام)ولولا إصراره على النزال ما أذن له عليه السلام ولكن هذا الغلام الغيور لم يصبر أن يرى أعداء الله يقتلون أولياء الله.. حتى إذا استشهد قام عمه على رأسه وقال:بعدا لقوم قتلوك خصمهم يوم القيامة جدك. ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك ثم لا ينفعك. ثم احتمله فألقاه مع ولده علي الأكبر .
ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا ولا تغادر منهم أحدا ولا تغفر لهم أبدا. صبرا يا بني عمومتي! صبرا يا أهل بيتي! لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا .
ولما استشهد أخوه أبو الفضل العباس (سلام الله عليه) حضر عنده وبكى عليه.
لقد جاء الحسين عليه السلام بهذا ال ركب القدسي من أهل بيته النجباء ليقدمهم قرابين لله تعالى فداء لدينه الأقدس ورحمة بالأمة كي تنتفع بدمائهم وائتمارا بما يريد الله تعالى ويرضى.. وقد قال (عليه السلام): شاء الله أن يراني قتيلا ويرى النساء سبايا. هذا ما بلغ به أخاه محمد بن الحنفية أما ما قاله لأم المؤمنين (أم سلمة) رضوان الله عليها فهو: يا أماه! وأنا أعلم أني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا وقد شاء عز وجل أن يرى حرمي ورهطي مشردين وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا .
فقدم الحسين عليه السلام كل شئ لله لأجل أن تسمع صرخته آذان النائمين والغافلين والذين خدرتهم الدنيا. فبتضحياته تلك.. استطاع أن يثبت للأمة بأن الخلافة بيد أعداء الاسلام وأن الدين في خطر وأن بني أمية لا يتورعون عن تحريف الرسالة المحمدية وعن استئصال أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)وأهل بيت الوحي والرسالة، وعن التنكيل بحرم المصطفى وبناته. وبذلك عين الإمام الحسين عليه السلام. للأمة - رحمة بها - تكليفها لتنجو بأدائه من غضب الله عز وجل.
ومن أجل ذلك.. قدم أهل بيته وأصحابه حتى الطفل الرضيع فتقدم وهو يتأذى لعويل الأيامى وصراخ الأطفال فأمر عياله بالسكوت وودعهم وتقدم يقتل بسيفه أعداء الله حتى أردى منهم جمعا كثيرا ثم عاد إلى عياله
يودعهم ثانيا ويأمرهم بالصبر قائلا لهم: استعدوا للبلاء واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم وسينجيكم من شر الأعداء ويجعل عاقبة أمركم إلى خير ويعذب عدوكم بأنواع العذاب ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم .
كلمات.. نزلت منزل الرحمة على النفوس الحزينة ومنزل الطمأنينة على القلوب الخائفة الوجلة فسكن بها روعتهن وبل غلتهن.
ثم التفت عليه السلام إلى ابنته سكينة فرآها منحازة عن النساء باكية معولة فوقف عليها مصبرا ومسليا.
يقول الشيخ التستري: الملاطفة من الآباء مع الأولاد مستحب خاصة ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة. وقد تحقق ذلك من الحسين عليه السلام بأحسن وجوهه وأراد ذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة أراد أن يفرحها بتقبيل وجهها ومسح رأسها وتسليتها فما تزداد بهذه إلا غصة وحزنا . وقيل: فضمها الحسين عليه السلام إلى صدره الشريف وقبلها ومسح دموعها بكمه وقال:
سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي * منك البكاء إذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة * ما دام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي * تأتينه.. يا خيرة النسوان!
ولقد ترك الحسين عليه السلام آثار رحمته الأبوية عليها فعاشت بعده أكثر من ستين عاما لا تنساه ولا تنسى دروس الصبر والوفاء. وكذلك ترك على أخته زينب عليها السلام آثارا من الصبر الجميل حين عزاها وأوصاها في كربلاء قائلا لها: يا أختاه! تعزي بعزاء الله
فإن سكان السماوات يفنون وأهل الأرض كلهم يموتون وجميع البرية يهلكون .
فزرع في قلبها الصبر والثبات ورباطة الجأش فنهضت بأعباء مسؤوليات تنوء من حملها الجبال الرواسي وتحملت مصائب وآلاما تنهد لهولها عزائم الرجال الأشداء.. فهي التي شهدت واقعة الطف بكل مآسيها وفجائعها ومصائبها ونكباتها وعانت الجوع والعطش وكلفت بجمع الأرامل واليتامى وانتشال الأطفال من تحت حوافر الخيل وستر العيال في خيمة والأسر إلى الكوفة والشام مربطين بالحبال هدية إلى الطاغية عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية والسفر إلى المدينة بعد وقوف حزين في كربلاء يوم أربعينية أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه تبكي عليه وعلى إخوتها وولديها وأولاد إخوتها وبني عمومتها والخلص من الأصحاب الشهداء الأبرار.
وفي المدينة أبلت البلاء الحسن في عرض وقائع فاجعة الطف العظمى، فألهبت العواطف وألبت القلوب وخلقت ثورة في المدينة بانت فيما بعد آثارها فترجمت إلى ثورات انفجرت ضد الحكم الأموي حتى زلزلته ودمرته.
لما عرف الإمام الحسين عليه السلام من أصحابه صدق النية والإخلاص
في المفاداة دونه أوقفهم على غامض القضاء بإنه مقتول غدا وكلهم مقتولون فقالوا بأجمعهم: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرفنا بالقتل معك أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟! فدعا لهم بالخير وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرفهم منازلهم فيها.
ولما فرغ عليه السلام من الصلاة يوم عاشوراء قال لأصحابه:
يا كرام! هذه الجنة قد فتحت أبوابها واتصلت أنهارها وأينعت ثمارها وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم فحاموا عن دين الله ودين نبيه وذبوا عن حرم الرسول.
فقالوا: نفوسنا لنفسك الفداء ولدماؤنا لدمك الوقاء فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
إنها الرحمة الحسينية تجعل المر شهدا..
وقف جون مولى أبي ذر الغفاري أمام الحسين عليه السلام يستأذنه فقال عليه السلام: يا جون! إنما تبعتنا طلبا للعافية فأنت في إذن مني. فوقع جون على قدميه يقبلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم! إن ريحي لنتن وحسبي للئيم ولوني لأسود فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي ويشرف حسبي ويبيض لوني.. لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين فقتل خمسا وعشرين وقتل فوقف عليه السلام وقال: اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمد صلى الله عليه وآله وعرف بينه وبين آل محمد صلى الله عليه وآله. فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك .
وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخا كبيرا صحابيا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسمع حديثه وشهد معه بدرا وحنينا فاستأذن الحسين وبرز شادا وسطه بالعمامة رافعا حاجبيه بالعصابة ولما نظر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى وقال: شكر الله لك يا شيخ. فقتل على كبره ثمانية عشر رجلا وقتل .
ولما استشهد جنادة الأنصاري جاء ابنه عمرو وهو ابن إحدى عشرة سنة يستأذن الإمام الحسين عليه السلام فأبى وقال: هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره ذلك، فقال الغلام: إن أمي أمرتني. فأذن له فقتل.. فأخذت أمه عمودا. وقيل سيفا. فردها الحسين عليه السلام إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين وهي تنشئ:
إني عجوز في النسا ضعيفة * خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربة عنيفة * دون بني فاطمة الشريفة
وقال عليه السلام لبشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي: إن ابنك قد أسر في ثغر الري فقال بشر: عند الله أحتسبه ونفسي.. فلما سمع الحسين عليه السلام مقالته قال: رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاذهب واعمل في فكاك ابنك. قال بشر: أكلتني السباع حيا إن أنا فارقتك فقال عليه السلام له:
فأعط ابنك محمدا هذه الأثواب البرود وكان معه ليستعين بها في فكاك أخيه. وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار وقتل بشر في الحملة الأولى .
ولا تقف الرحمة الحسينية عند حد.. فبعد شهادة القاسم عليه السلام برز أخوه أحمد بن الحسن فقاتل حتى أخذه العطش فنادى: يا عماه! هل من شربة ماء؟ فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن أخي! اصبر قليلا حتى تلقى جدك رسول الله صلى الله عليه وآله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبدا .
فرجع الغلام وقاتل صابرا متصبرا بكلمة عمه الحسين سلام الله عليه.
ولما سقط الإمام الحسين عليه السلام بعد جراحات لا يقوى معها على قيام.. نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبط عليه السلام وله إحدى عشرة سنة وقد أحدق به القوم فأقبل يشتد نحو عمه وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمه فأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة! أتضرب عمي؟! فضربه واتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة فصاح الغلام: يا عماه! ووقع في حجر الحسين عليه السلام فضمه إليه وقال: يا ابن أخي! اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين.
فرمى الغلام حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه.
في حالة كان يجود الحسين عليه السلام بنفسه ضم إليه ذلك الغلام وصبره بتلك الكلمات التي تنسي الألم وشدة الموقف.
إنها الرحمة الحسينية التي فاضت: خيرا وإنسانية وكرما لا على
الانسان فحسب بل تعدته إلى البهائم..
فعند مبارزته اشتد به العطش فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجاج فكشف جنده وكانوا أربعة آلاف كشفهم عن الماء وأقحم الفرس الماء ليشرب .
وأكثر من ذلك ما رواه الطبري حيث ذكر في تاريخه فبعد أن: طلع عليهم الحر الرياحي مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده أو يقدم به الكوفة فوقف الحر وأصحابه مقابل الحسين في حر الظهيرة
قال الطبري: فلما رأى سيد الشهداء ما بالقوم من العطش (أي الحر وأصحابه) أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل فسقوهم وخيولهم عن آخرهم ثم أخذوا يملأون القصاع والطساس ويدنونها من الفرس فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت وسقي آخر.. حتى سقوا الخيل كلها.
وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر فجاء آخرهم وقد أضر به العطش فقال الحسين عليه السلام: أنخ الراوية وهي الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال عليه السلام: أنخ الجمل. ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء فقال له الإمام الحسين عليه السلام: أخنث السقاء فلم يدر (علي بن الطعان) ما يصنع لشدة العطش فقام عليه السلام بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه .
وهذه هي الرحمة الحسينية العجيبة فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة وبيده الكريمة يقدم الماء في البيداء المقفرة إلى العطاشى من أعدائه الذين سيشهرون سيوفهم غدا عليه بل سيبضعونه بها وهو يعلم ذلك لكن الرحمة تمنعه من الانتقام منهم وإجراء القصاص قبل الجناية. وهذا هو الذي أيقظ في الحر بن يزيد الرياحي حالة الندم والتوبة متأثرا برحمة الإمام الحسين عليه السلام وهذا هو الذي جعل الأجيال تحب الإمام الحسين عليه السلام وتجله وتقدسه لأنه رجل المكارم ورجل الأخلاق الفاضلة التي تترفع ولا تمد إلى الناس إلا يد رحمة.. حتى تشمل الخيول خيول الأعداء.
قال الشيخ التستري: (باب سقي الماء)والظاهر أنه مستحب حتى للكفار في حال العطش وللبهائم وواجب في بعض الأوقات وأجره أول أجر يعطى يوم القيامة. وقد تحقق من الإمام الحسين عليه السلام أنواع السقي كل ها حتى السقي للمخالفين له والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة وسقي ذي الجناح فقال له: اشرب وأنا أشرب...
(باب الإطعام) وكفى في فضله أن الخلاص من العقبة قد حمل عليه في الآية الشريفة * (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة) * قال الإمام السجاد عليه السلام: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا .
أجل.. فذلك الرجل العطوف الشفيق الرحيم يقتل، ويقتل عطشانا بعد أن سقى الناس حتى أعداءه وحتى البهائم التي ركبوها للكر عليه وقتله. وذلك الرجل الطيب الذي طالما أشبع الجياع قتل وقتل ساغبا جائعا وكانت يده السخية تحمل الطعام والماء كل ليلة إلى الفقراء والمساكين والأيتام والأسر الأبية حتى ترك ذلك أثرا على ظهره.. فسئل الإمام زين العابدين ولده عليه السلام عن ذلك فقال: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين .
إلا أن هذا الظهر العطوف.. قد عملت فيه سيوف ورماح وسهام أعداء الله عملها ثم جاءت خيولهم فداسته.
وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين وجاد على الناس حتى العدو منهم بالنصيحة والموعظة لم يدخر من ذلك شيئا.. قد هشمته السيوف وسنابك الخيل.
وذلك الوجه النوري المقدس الذي سجد لله طويلا وبكى على آلام الناس طويلا فصل عن البدن ورفع على الرمح تشفيا ونكالا ولم يستح العدو وقد رأى الحسين عليه السلام يبكي فسئل عن ذلك وهو في ساحة الطف فأخبر بأنه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته. لقد كان منهم ما تتفطر له السماوات وتنهد الجبال.. حيث:
فرى الغي نحرا يغبط البدر نوره * وفي كل عرق منه للحق فرقد
وهشم أضلاعا بها العطف مودع * وقطع أنفاسا بها اللطف موجد
تعليق