بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
هذا شرح لكتاب المسائل المنتخبة
للسيد السيستاني دام ظله الوارف
كتاب الاجتهاد والتقليد
المقدمة
المتن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين .
وبعد :
يجب على كل مكلّف أن يحرز امتثال التكاليف الإلزامية الموجّهة إليه في الشريعة المقدّسة، ويتحقّق ذلك بأحد أمور: اليقين التفصيلي، الاجتهاد، التقليد، الاحتياط، وبما أنّ موارد اليقين التفصيلي في الغالب تنحصر في الضروريات، فلا مناص للمكلّف في إحراز الامتثال فيما عداها من الأخذ بأحد الثلاثة الأخيرة.
الاجتهاد : وهو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة.
التقليد : ويكفي فيه تطابق العمل مع فتوى المجتهد الذي يكون قولُه حجة في حقِّه فعلاً مع إحراز مطابقته لها.
والمقلِّد قسمان :
1 ــ من ليست له أيّة معرفة بمدارك الأحكام الشرعية.
2 ــ من له حظّ من العلم بها ومع ذلك لا يقدر على الاستنباط.
الاحتياط : وهو العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول ، وهذا هو الاحتياط المطلق ، ويقابله الاحتياط النسبي كالاحتياط بين فتاوى مجتهدين يُعلم إجمالاً بأعلمية أحدهم ، وسيجيء في المسألة ( 18) .
والاجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدّى له من يكتفي به سقط التكليف عن الباقين، وإذا تركه الجميع استحقوا العقاب جميعاً ، وقد يتعذّر العمل بالاحتياط على بعض المكلّفين، وقد لا يسعه تمييز موارده ــ كما ستعرف ذلك ــ وعلى هذا، فوظيفة من لا يتمكّن من الاستنباط هو التقليد ، إلاّ إذا كان واجداً لشروط العمل بالاحتياط فيتخيّر ــ حينئذٍ ــ بين التقليد والعمل بالاحتياط.
———————————————
الشرح
بعـد أن يعـلم المكـلـف (الإنسان البالغ العاقـل) أنَّ الله سبحـانه وتعالى قـد كـلّفـه بمجمـوعـة من التكاليف الإلـزامية ( الواجبات والمحرمات ) فإن عقلهُ يوجب عليه أن يمتثل تلك التكاليف , وحيث أن الامتثال لابد أن يكون مسبـوقـاً بمعرفة تلك التكاليف ( لأن العمل فرع العلم ) ليتأكد المكلف أنه عمل بما فرضه الله تعالى عليه على وفق الضوابط الشرعية فلابد له من أن يسلك أحد الطرق التالية لمعرفة التكاليف الإلزامية :
1ــ اليقين التفصيلي بالتكليف :
ويقصد باليقين : هو العلم الذي لا يشوبه احتمال مخالف ,فعندما أقول مثلاً : " أنني متيقن من إن الصلاة واجبة " فهذا يعني أنني اعلم بدرجة 100% أن الصلاة واجبة ولا أحتمل عدم وجوبها أبداً بأي نسبة حتى وإن كانت نسبة ضئيلة .
والمراد بالتفصيلي : هو العلم الذي ليس فيه أي شك أو ترديد في قبال العلم الإجمالي . فمثلاً عندما أقول أنا اعلم بنجاسة أحد الإناءين ولكنني لا أدري بالضبط هل إن الإناء الأبيض هو النجس أم الإناء الأسود هو النجس فهذه الحالة (( علمي بالنجاسة وترددي أن النجس هل هو الإناء الأبيض أوالاناء الأسود )) يطلق عليها العلم الإجمالي , فالعلم الإجمالي هو علمٌ فيه تردد وشك . أما إذا قلت أنا أعلم أن الإناء الأسود نجس قطعاً والإناء الأبيض طاهر قطعاً فهذه الحالة يعبر عنها بالعلم التفصيلي أي علم ليس فيه أي تردد أو شك .
ولكن هذه الطريقة (( أي اليقين التفصيلي بالتكليف ))لا تؤدي الغرض (أي معرفة التكاليف الإلزامية جميعها بما يكفي لأن يكون العمل مطابق للضوابط الشرعية ) لأن التكاليف التي نتيقن بها تفصيلاً هي التكاليف الضرورية غالباً 6(( أي القضايا التي لاتحتاج إلى دليل لإثباتها والتي يتيقن المسلمون جميعاً بها دون الحاجة لإقامة الدليل كوجوب الصلاة والصوم والحج وحرمة الكذب وقتل النفس ...... الخ )) فالمسلمون جميعاً يعلمون أن الصلاة واجبة ولا يحتاجون أن يسالوا عالماً عن الصلاة أنها واجبة أو ليست واجبة ولهذا يقال أن قضية " الصلاة واجبة " من ضروريات الدين الإسلامي .
فهل يكتفي المسلم إذا أراد أن يؤدي الصلاة مثلاً بحسب الطريقة التي أمر الله تعالى بها أن يعلم أن الصلاة واجبة وأن صلاة الصبح مثلاً ركعتان فقط هل يكفي هذا المقدار من العلم لأداء صلاة صحيحة ؟!
الجواب : كلا لأن الصلاة فيها أجزاء (( كالركوع والسجود والقراءة )) ، وفيها شرائط (( كالوقت والاستقبال وطهارة الثياب )) ، وفيها موانع من صحة الصلاة (( كالقهقهة والكلام )) وهذه الأمور جميعها تشتمل على احكام غير معلومة بالعلم التفصيلي للمكلف فلابد له من تحصيل العلم بها بطرق أخرى غير طريقة (( اليقين التفصيلي بالتكليف )) .
.2 - الاجتهاد : وهو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة .
بيان مفردات التعريف :
الاستنباط : استنبط الشيء: استخرجه بعد خفاءٍ , استنبط الفقيهُ الحكمَ : استخرج الفقه الباطن بفهمه واجتهاده . .
مداركه : المدارك جمعُ " مَدْرَك " :وهو الدليل الذي يستند أليه الفقيه في استخراج الحكم الشرعي وهو الكتاب المجيد والسنَّة المطهَّرة وتشمل (( كلام المعصوم وفعله وتقريره )) والعقل والإجماع .
المقررة : أي الأدلة التي تقرر في علم أصول الفقه أنها حجة يستطيع الفقيه الاعتماد عليها في استخراج الحكم الشرعي , وهذا القيد ( المقررة ) لأبعاد الأدلة التي لا تكون حجة ولا يستطيع الفقيه أن يعتمد عليها في استخراج الأحكام الشرعية كالقياس الشرعي والاستحسان مما يعتمد عليه علماء العامة في فقههم .
وعليه فالاجتهاد : هو استخراج الأحكام الشرعية الخفيّة " غير المعلومة عند الناس " بواسطة الرجوع إلى الأدلة التي تقرر في علم الأصول إنها حجة يجوز الاعتماد عليها في استخراج الحكم الشرعي وهي ( القرآن ) والسنّة والعقل والإجماع .
وعملية الاجتهاد هذه من الواجبات الكفائية فإذا قام شخص واستطاع استنباط الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلمون للقيام بواجباتهم الشرعية سقط الوجوب عن باقي المكلفين .
فالمكلف إذا كانت له القدرة على الاجتهاد ومعرفة الأحكام الشرعية من خلاله فهو أفضل الطرق لمعرفة التكاليف الإلزامية ولكن هذه الطريقة غير متيسرة لجميع الناس لأنها تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين فالمجتهد يقضي شطراً كبيراً من حياته متفرغاً لدراسة العلوم اللغوية والعقلية والشرعية حتى تحصل لديه ملكة الاجتهاد وهذا قد يستغرق سنوات طويلة قد تصل إلى عشرين أو ثلاثين سنة . ثم أنه ليس كل من درس هذه العلوم تحصل له ملكة الاجتهاد . ولهذا فقد رخّصَ الشارع للمكلف أن يسلك طرق أخرى غير الاجتهاد لمعرفة التكاليف الإلزامية وهي التقليد والاحتياط .
3 – التقليد :
التقليد لغةً : بمعنى جعل الشخص أو غيره ذا قلادة , فيقال تقلّـدَ السيف أي ألقى حمالته " حمالة السيف " في عنقه , وفي حديث الخلافة : " قلدها رسول الله علياً " أي جعلها قلادة له.
فمعنى إن العامي يقلد المجتهد : أنه يجعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه فالعامي " هو كل شخص لم يبلغ درجة الاجتهاد " فيعمل طبقاً للأحكام التي يستنبطها المجتهد , فالمجتهد هو من يتحمل مسؤولية استنباط الحكم الشرعي أمام الله سبحانه وتعالى أما مسؤولية المقـلّد فتنحصر في التطبيق التام للأحكام التي يستنبطها المجتهد الذي يكون قوله حجة في حق المكلف " المقلّـد " .
والمجتهد الذي يكون قوله حجة في حق المكلف : هو المجتهد الجامع لشرائط التقليد وليس أي مجتهد يكون قوله حجة في حق المكلف . وتفصيل هذه الشرائط والأحكام المتعلقة بها ستأتي إن شاء الله تعالى في طيات بحث التقليد هذا فيعلم المكلف من هو المجتهد الذي يكون قوله حجة في حقه .
وطريقة ( التقليد ) لمعرفة الأحكام الشرعية هي من أفضل الطرق و أسهلها بالنسبة للمكلف الذي لا يستطيع أن يبلغ درجة الاجتهاد . وهي طريقة موافقة لحكم العقل إذ طريقة العقلاء جميعاً هي رجوع الجاهل بالشيء للعالم به , فالمريض الجاهل بقضية تشخيص المرض وعلاجه يرجع إلى العالم بها وهو الطبيب , والجاهل بالأحكام المدنية للدولة يرجع إلى العالم بها وهو المحامي وهكذا في جميع الأمور لأنه لا يتسنى للإنسان أن يكون عالماً بكل شيء بل كل إنسان هو عالم في مجال عمله واختصاصه وترجع الناس إليه فـيه وهو جاهـل في أمور أخرى يرجع إلى العالميـن بها عـنـد الحاجـة . فكذلك غير المجتهد إذا احتاج إلى معرفة حكم شرعي فهو يرجع إلى العالم المختص بالأحكام الشرعـية واستنباطهـا وهو المجـتهد الجامع للشرائط فـيأخـذ الحكم الشرعي عنه دون أن يسأله عن الدليل كما أن المريض يـأخـذ وصفة الطـبيب دون أن يسأله عن كيفية تشخيصه للمرض وهذه العملية هي ما يعبر عنها بـ ( التقليد ) .
ثم أنَّ المقلد الذي يرجع إلى المجتهد لأخذ الحكم الشرعي عنه (( تقليده )) على قسمين:
إما أن يكون الشخص ليس لديه أيّة معرفة بأدلة الأحكام الشرعية وهم اغلب المقلدين .
. أو يكون الشخص لديه قدر من معرفة أدلة الأحكام الشرعية فهو درس هذه العلوم الشرعية وقد يكون وصل مرتبة جيدة فيها " كطلبة البحث الخارج " ولكنه لم يصل بعد إلى ملكة الاجتهاد أي لم يتمكن بعد من استنباط الحكم الشرعي من الأدلة " الكتاب , السنة , العقل والإجماع " فهذا الشخص يجب عليه التقليد أيضاً ما لم يكن محتاطاً .
ويكفي في التقليد أن يكون عمل المكلف مطابق لفتوى المجتهد الذي يجب على المكلف تقليده ما لم يكن مجتهداً أو محتاطاً .
فلو صلى المكلف مثلاً بدون الرجوع إلى المجتهد الجامع للشرائط الذي يجب عليه تقليده ولكن كانت صلاته هذه مطابقة للطريقة التي يفتي بها المجتهد الذي يجب عليه تقليده فإن مجرّد المطابقة هذه تكفي لأن نقول أن هذا المكلف مقلّد للمجتهد . فلا يشترط المصنف " دام ظله " أن يكون المقلد ( مستنداً ) في عمله إلى فتوى المجتهد
( بمعنى أنه إذا أراد أن يعمل عملاً فإنه يرجع إلى المجتهد أو إلى رسالته ويعمل وفق رأيه ) وكذلك لم يشترط " الالتزام " ( بمعنى أن المكلف يكون لديه التزام نفسي أنه كلما أراد العمل فإنه يعود للمجتهد لمعرفة رأيه الفقهي في ذلك العمل ) .
بل إن المكلف حتى لو لم يكن ملتزماً بفتوى المجتهد ولم يكن مستنداً في عمله إلى فتوى المجتهد , ولكن صادف أنّ عمله مطابق لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده فإنه يعتبر مقلّد لذلك المجتهد .
هذا هو رأي المصنف " دام ظله " في التقليد بصورة عامة ولكنه يستثنى من ذلك صورة خاصة ستأتي في المسألة 14 فإنه في بعض الفروض تلك المسألة يشترط في صدق التقليد (أي لكي ينطبق على المكلف أنه مقلد للمجتهد ) الالتزام بفتوى المجتهد ولا تكفي مجرد المطابقة وسيأتي تفصيل الكلام عنها في تلك المسألة إن شاء الله تعالى .
. . هوامش الشرح : الواجب الكفائي : وهو الواجب الذي يسقط بفعل الغير ولكنه إذا لم يقم به أحد أُثم الجميع مثاله : رد السلام , فإن رد السلام واجب كفائي أي إذا سلم شخص على مجموعة من المسلمين فإنه يجب على كل أفراد المجموعة أن يردوا السلام بالوجوب الكفائي ,لكن إذا رد أحد أفراد المجموعة سقط وجوب الرد عن باقي افراد المجموعة وإن لم يرد أي شخص من المجموعة أستحق جميع الأفراد العقاب لأنهم آثمون بعدم الرد .
.
الحجة : بمعنى التنجيزوالتعذير :
فالتنجيز: بمعنى أن المجتهد إذا قال بوجوب شيء فيجب على المكلف فعله وإذا قال بحرمة شيء فيجب على المكلف اجتنابه .
أما المعذرية : فتعني أن المجتهد إذا استنبط حكماً وكان مخالفاً للحكم الواقعي الذي يعلمه الله سبحانه وتعالى ولم يصل إليه المجتهد باجتهاده فأن المجتهد وكذلك الشخص الذي قلده يكون معذوراً في هذه المخالفة فلا يستحق العقاب لأن المجتهد بذل جهده لمعرفة الحكم الشرعي ولم يعرفه بالشكل الصحيح والمقلد يجوز له تقليده
.
4 -الاحتياط . هو العمل الذي يتقن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول .
. فالاحتياط هو: أن يأتي المكلف بما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته : فلو أن المكلف أحتمل وجوب جلسة الاستراحة مثلاً في الصلاة فإنه يأتي بها وإن أحتمل بأن التدخين حرام فإنه يتركه وبهذا فإن المكلف يتيقن أن ذمته برأت من الحكم الواقعي الذي يحتمله ( ففي المثال ــ حكم جلسة الاستراحة ــ لأنه لا يعلم أنها واجبة واقعاً أو ليست واجبة , وــ حكم التدخين ــ لأنه لا يعلم أن التدخين حرام أو لا ) ولكنه بأدائه لجلسة الاستراحة يتيقن أن ذمته برأت لأنها لو كانت واجبة واقعاً فقد أداهـا ولو لم تكن واجبة لم يكن عليه شيء إذا أداها بنية رجاء المطلوبية(( أي برجاء أن تكون مطلوبة عند الشارع )) , وكذلك في قضية التدخين كذلك يتيقن أن ذمته قد برأت لأن التدخين لو كان حراماً في الواقع ((أي في علم الله تعالى )) فهو قد تركه وإن لم يكن حراماً فليس عليه شيء .
وبهذا يتضح قول المصنف " دام ظله " : أن الاحتياط هو العمل الذي يتيقن معه المكلف ببراءة ذمته من الحكم الواقعي الذي يجهله .
وهذا الاحتياط بهذه الكيفية يعبر عنه بالاحتياط المطلق وهناك نوع آخر من الاحتياط يعبر عنه بالاحتياط النسبي : ومثاله أن يحتاط المكلف بين فتاوى مجتهدين يعلم أجمالاً بأن أحدهما هو الأعلم
فلو وجد المكلف أن المجتهد زيد يفتي بوجوب " الإقامة " مثلاً قبل الصلاة والمجتهد خالد يفتي باستحباب " الإقامة " قبل الصلاة وهو يعلم أن أحدهما ( إما زيداً أو خالداً ) أعلم الموجودين من المجتهدين ففي هذه الحالة يحتاط المكلف بين قوليهما , الاحتياط في هذه الحالة يقتضي أن يأتي بجلسة الاقامة لأنّهُ إذا كان قول زيد هو المطابق للواقع فإنه عمل المكلف (( اتيانه بالأقامة)) يكون موافقاً للواقع وإن كان قول خالد هو المطابق للواقع فإن عمله "الإتيان بالأقامة "لا يكون مخالفاً للواقع مع مراعاة أن يكون إتيانه للإقامة بنية رجاء المطلوبية . فأن عمل المكلف هذا يعبر عنه بالاحتياط النسبي ومعه يتيقن المكلف من براءة ذمته من الحكم الواقعي المجهول وهو حكم جلسة الاستراحة فبعد اختلاف زيد وخالد في حكم جلسة الاستراحة فلا يكون حكمها معلوماً بالنسبة للمكلف لأن أحدهما يقول بأنها واجبة والآخر يقول بأنها مستحبة ولا يعقل أن يكون الشيء الواحد واجباً ومستحباً في نفس الوقت ( لأن الواجب لا يجوز تركه والمستحب يجوز تركه ) ولاابد أن يكون لها حكم واقعي واحد في علم الله تعالى أما الوجوب أو الاستحباب هذا الحكم مجهول بالنسبة للمكلف فلو عمل بالاحتياط فسوف يتأكد من براءة ذمته تجاه ذلك الحكم .
فالاحتياط هو الطريق الرابع الذي بواسطته يحرز المكلف امتثال التكاليف الإلزامية . . ولكن هذا الاحتياط لا يكون متيسراً في جميع الأحوال ولكافة المكلفين فقد يكون الاحتياط متعذراً في بعض الأحوال ، وقد لا يسع المكلف تميز مورد الاحتياط وما يقتضيه الاحتياط في أحوال أخرى ، فمثلاً :
مثال تعذر الاحتياط :
لو شك المكلف في صلاة الجمعة مثلاً أنها واجبة أو محرّمة , فهو يحتمل وجوبها ويحتمل حرمتها ففي هذه الحالة الاحتياط مستحيل لأننا قلنا أن الاحتياط هو: (أن يفعل كل ما يحتمل وجوبه ويترك كل ما يحتمل حرمته) وفي هذه الحالة فالمكلف لو ترك صلاة الجمعة فعمله مخالف للاحتياط لأنها يحتمل أن تكون واجبة ,ولو صلى الجمعة فان عمله أيضا مخالف للاحتياط لأنها يحتمل ان تكون محرمة .
ففي هذا المثال الاحتياط مستحيل " متعذر " لأن المكلف في النهاية إما أن يصلي صلاة الجمعة أو لا يصليها ولا اختيار ثالث له وكل من الصلاة وعدمها مخالف للاحتياط . ففي هذه الحالة يجب على المكلف إما أن يجتهد في هذه المسألة إذا كان ممن بلغ درجة الاجتهاد أو يقلد مجتهداً في هذه المسألة .
مثال تعسر معرفة الاحتياط :
لو شك المكلف في صلاة الظهر يوم الجمعة أن قراءة الحمد والسورة في الركعة الأولى والثانية الواجب فيها هو الجهر أم الإخفات ؟
فإنَّ مقتضى الاحتياط في هذه الحالة أن يكرر القراءة فيها مرتين فيقرأهما بالإخفات تارةً وبالجهر تارة أخرى ناوياً في أحداهما القراءة المأمور بها وفي الثانية قراءة الحمد والسورة بعنوان القرآنية ( أي ينوي أن يقرأ قرآناً في الصلاة ) وذلك لجواز قراءة القرآن في الصلاة في أي موضع منها ولا تعد قراءة القران منافية للصلاة . فهذا الاحتياط بهذه الكيفية وبهذه النية قد لا يكون متيسراً لكثير من المكلفين.
ففي هذه الحالة الاحتياط غير متعذر بل هو ممكن ولكن المكلف قد لا يعرف طريقة الاحتياط : فإن كان المكلف قادراً على معرفة طريقة الاحتياط تخير بين العمل بالاحتياط أو التقليد وإن لم يكن قادراً على معرفة الاحتياط فيجب عليه التقليد لأن معرفة التكليف الإلزامي حينئذ تكون منحصرة بالتقليد
هوامش الشرح : . . جلسة الاستراحة : هي الجلسة بعد السجدة الثانية في الركعة التي ليس فيها تشهد . كالركعة الأولى من كل صلاة والركعة الثالثة من صلوات الظهر والعصر والعشاء . . فهو يقطع مثلاً أن زيد أو خالد هو أعلم من باقي المجتهدين ولكنه لا يعلم أن زيداً هو الأعلم أم أن خالداً هو الأعلم فالمكلف هنا لديه علم بأن أحدهما هو الأعلم ولا يحتمل أعلمية غيرهما ولديه شك وترديد أن زيد أعلم من خالد أو بالعكس وهذه الحالة يعبر عنها بالعلم الإجمالي بأن أحدهم هو الأعلم .
. لأن الاحتياط في كل حالة معينة يقتضي أمراً يختلف عن الحالة الأخرى وسنبين ذلك في (( أقسام الاحتياط ))إن شاء الله تعالى .
وذلك لأن العلاقة بين الأحكام الشرعية ( الوجوب , الحرمة , الاستحباب , الكراهة , الإباحة ) علاقة تضاد أي لا يجتمع حكمان على شيء واحد في وقت واحد مطلقاً كما لا يجتمع السواد والبياض ( وهما ضدان ) على شيء واحد في وقت واحد فلا يمكن أن يكون الشيء هو ابيض وهو أسود في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يكون الشيء ( حرام وواجب في وقت واحد ) أو ( يكون حرام ومكروه في وقت واحد ) وهكذا باقي الأحكام الشرعية سواء كانت تكليفية أو وضعي. .
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
هذا شرح لكتاب المسائل المنتخبة
للسيد السيستاني دام ظله الوارف
كتاب الاجتهاد والتقليد
المقدمة
المتن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين .
وبعد :
يجب على كل مكلّف أن يحرز امتثال التكاليف الإلزامية الموجّهة إليه في الشريعة المقدّسة، ويتحقّق ذلك بأحد أمور: اليقين التفصيلي، الاجتهاد، التقليد، الاحتياط، وبما أنّ موارد اليقين التفصيلي في الغالب تنحصر في الضروريات، فلا مناص للمكلّف في إحراز الامتثال فيما عداها من الأخذ بأحد الثلاثة الأخيرة.
الاجتهاد : وهو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقرّرة.
التقليد : ويكفي فيه تطابق العمل مع فتوى المجتهد الذي يكون قولُه حجة في حقِّه فعلاً مع إحراز مطابقته لها.
والمقلِّد قسمان :
1 ــ من ليست له أيّة معرفة بمدارك الأحكام الشرعية.
2 ــ من له حظّ من العلم بها ومع ذلك لا يقدر على الاستنباط.
الاحتياط : وهو العمل الذي يتيقّن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول ، وهذا هو الاحتياط المطلق ، ويقابله الاحتياط النسبي كالاحتياط بين فتاوى مجتهدين يُعلم إجمالاً بأعلمية أحدهم ، وسيجيء في المسألة ( 18) .
والاجتهاد واجب كفائي ، فإذا تصدّى له من يكتفي به سقط التكليف عن الباقين، وإذا تركه الجميع استحقوا العقاب جميعاً ، وقد يتعذّر العمل بالاحتياط على بعض المكلّفين، وقد لا يسعه تمييز موارده ــ كما ستعرف ذلك ــ وعلى هذا، فوظيفة من لا يتمكّن من الاستنباط هو التقليد ، إلاّ إذا كان واجداً لشروط العمل بالاحتياط فيتخيّر ــ حينئذٍ ــ بين التقليد والعمل بالاحتياط.
———————————————
الشرح
بعـد أن يعـلم المكـلـف (الإنسان البالغ العاقـل) أنَّ الله سبحـانه وتعالى قـد كـلّفـه بمجمـوعـة من التكاليف الإلـزامية ( الواجبات والمحرمات ) فإن عقلهُ يوجب عليه أن يمتثل تلك التكاليف , وحيث أن الامتثال لابد أن يكون مسبـوقـاً بمعرفة تلك التكاليف ( لأن العمل فرع العلم ) ليتأكد المكلف أنه عمل بما فرضه الله تعالى عليه على وفق الضوابط الشرعية فلابد له من أن يسلك أحد الطرق التالية لمعرفة التكاليف الإلزامية :
1ــ اليقين التفصيلي بالتكليف :
ويقصد باليقين : هو العلم الذي لا يشوبه احتمال مخالف ,فعندما أقول مثلاً : " أنني متيقن من إن الصلاة واجبة " فهذا يعني أنني اعلم بدرجة 100% أن الصلاة واجبة ولا أحتمل عدم وجوبها أبداً بأي نسبة حتى وإن كانت نسبة ضئيلة .
والمراد بالتفصيلي : هو العلم الذي ليس فيه أي شك أو ترديد في قبال العلم الإجمالي . فمثلاً عندما أقول أنا اعلم بنجاسة أحد الإناءين ولكنني لا أدري بالضبط هل إن الإناء الأبيض هو النجس أم الإناء الأسود هو النجس فهذه الحالة (( علمي بالنجاسة وترددي أن النجس هل هو الإناء الأبيض أوالاناء الأسود )) يطلق عليها العلم الإجمالي , فالعلم الإجمالي هو علمٌ فيه تردد وشك . أما إذا قلت أنا أعلم أن الإناء الأسود نجس قطعاً والإناء الأبيض طاهر قطعاً فهذه الحالة يعبر عنها بالعلم التفصيلي أي علم ليس فيه أي تردد أو شك .
ولكن هذه الطريقة (( أي اليقين التفصيلي بالتكليف ))لا تؤدي الغرض (أي معرفة التكاليف الإلزامية جميعها بما يكفي لأن يكون العمل مطابق للضوابط الشرعية ) لأن التكاليف التي نتيقن بها تفصيلاً هي التكاليف الضرورية غالباً 6(( أي القضايا التي لاتحتاج إلى دليل لإثباتها والتي يتيقن المسلمون جميعاً بها دون الحاجة لإقامة الدليل كوجوب الصلاة والصوم والحج وحرمة الكذب وقتل النفس ...... الخ )) فالمسلمون جميعاً يعلمون أن الصلاة واجبة ولا يحتاجون أن يسالوا عالماً عن الصلاة أنها واجبة أو ليست واجبة ولهذا يقال أن قضية " الصلاة واجبة " من ضروريات الدين الإسلامي .
فهل يكتفي المسلم إذا أراد أن يؤدي الصلاة مثلاً بحسب الطريقة التي أمر الله تعالى بها أن يعلم أن الصلاة واجبة وأن صلاة الصبح مثلاً ركعتان فقط هل يكفي هذا المقدار من العلم لأداء صلاة صحيحة ؟!
الجواب : كلا لأن الصلاة فيها أجزاء (( كالركوع والسجود والقراءة )) ، وفيها شرائط (( كالوقت والاستقبال وطهارة الثياب )) ، وفيها موانع من صحة الصلاة (( كالقهقهة والكلام )) وهذه الأمور جميعها تشتمل على احكام غير معلومة بالعلم التفصيلي للمكلف فلابد له من تحصيل العلم بها بطرق أخرى غير طريقة (( اليقين التفصيلي بالتكليف )) .
.2 - الاجتهاد : وهو استنباط الحكم الشرعي من مداركه المقررة .
بيان مفردات التعريف :
الاستنباط : استنبط الشيء: استخرجه بعد خفاءٍ , استنبط الفقيهُ الحكمَ : استخرج الفقه الباطن بفهمه واجتهاده . .
مداركه : المدارك جمعُ " مَدْرَك " :وهو الدليل الذي يستند أليه الفقيه في استخراج الحكم الشرعي وهو الكتاب المجيد والسنَّة المطهَّرة وتشمل (( كلام المعصوم وفعله وتقريره )) والعقل والإجماع .
المقررة : أي الأدلة التي تقرر في علم أصول الفقه أنها حجة يستطيع الفقيه الاعتماد عليها في استخراج الحكم الشرعي , وهذا القيد ( المقررة ) لأبعاد الأدلة التي لا تكون حجة ولا يستطيع الفقيه أن يعتمد عليها في استخراج الأحكام الشرعية كالقياس الشرعي والاستحسان مما يعتمد عليه علماء العامة في فقههم .
وعليه فالاجتهاد : هو استخراج الأحكام الشرعية الخفيّة " غير المعلومة عند الناس " بواسطة الرجوع إلى الأدلة التي تقرر في علم الأصول إنها حجة يجوز الاعتماد عليها في استخراج الحكم الشرعي وهي ( القرآن ) والسنّة والعقل والإجماع .
وعملية الاجتهاد هذه من الواجبات الكفائية فإذا قام شخص واستطاع استنباط الأحكام الشرعية التي يحتاجها المسلمون للقيام بواجباتهم الشرعية سقط الوجوب عن باقي المكلفين .
فالمكلف إذا كانت له القدرة على الاجتهاد ومعرفة الأحكام الشرعية من خلاله فهو أفضل الطرق لمعرفة التكاليف الإلزامية ولكن هذه الطريقة غير متيسرة لجميع الناس لأنها تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين فالمجتهد يقضي شطراً كبيراً من حياته متفرغاً لدراسة العلوم اللغوية والعقلية والشرعية حتى تحصل لديه ملكة الاجتهاد وهذا قد يستغرق سنوات طويلة قد تصل إلى عشرين أو ثلاثين سنة . ثم أنه ليس كل من درس هذه العلوم تحصل له ملكة الاجتهاد . ولهذا فقد رخّصَ الشارع للمكلف أن يسلك طرق أخرى غير الاجتهاد لمعرفة التكاليف الإلزامية وهي التقليد والاحتياط .
3 – التقليد :
التقليد لغةً : بمعنى جعل الشخص أو غيره ذا قلادة , فيقال تقلّـدَ السيف أي ألقى حمالته " حمالة السيف " في عنقه , وفي حديث الخلافة : " قلدها رسول الله علياً " أي جعلها قلادة له.
فمعنى إن العامي يقلد المجتهد : أنه يجعل أعماله على رقبة المجتهد وعاتقه فالعامي " هو كل شخص لم يبلغ درجة الاجتهاد " فيعمل طبقاً للأحكام التي يستنبطها المجتهد , فالمجتهد هو من يتحمل مسؤولية استنباط الحكم الشرعي أمام الله سبحانه وتعالى أما مسؤولية المقـلّد فتنحصر في التطبيق التام للأحكام التي يستنبطها المجتهد الذي يكون قوله حجة في حق المكلف " المقلّـد " .
والمجتهد الذي يكون قوله حجة في حق المكلف : هو المجتهد الجامع لشرائط التقليد وليس أي مجتهد يكون قوله حجة في حق المكلف . وتفصيل هذه الشرائط والأحكام المتعلقة بها ستأتي إن شاء الله تعالى في طيات بحث التقليد هذا فيعلم المكلف من هو المجتهد الذي يكون قوله حجة في حقه .
وطريقة ( التقليد ) لمعرفة الأحكام الشرعية هي من أفضل الطرق و أسهلها بالنسبة للمكلف الذي لا يستطيع أن يبلغ درجة الاجتهاد . وهي طريقة موافقة لحكم العقل إذ طريقة العقلاء جميعاً هي رجوع الجاهل بالشيء للعالم به , فالمريض الجاهل بقضية تشخيص المرض وعلاجه يرجع إلى العالم بها وهو الطبيب , والجاهل بالأحكام المدنية للدولة يرجع إلى العالم بها وهو المحامي وهكذا في جميع الأمور لأنه لا يتسنى للإنسان أن يكون عالماً بكل شيء بل كل إنسان هو عالم في مجال عمله واختصاصه وترجع الناس إليه فـيه وهو جاهـل في أمور أخرى يرجع إلى العالميـن بها عـنـد الحاجـة . فكذلك غير المجتهد إذا احتاج إلى معرفة حكم شرعي فهو يرجع إلى العالم المختص بالأحكام الشرعـية واستنباطهـا وهو المجـتهد الجامع للشرائط فـيأخـذ الحكم الشرعي عنه دون أن يسأله عن الدليل كما أن المريض يـأخـذ وصفة الطـبيب دون أن يسأله عن كيفية تشخيصه للمرض وهذه العملية هي ما يعبر عنها بـ ( التقليد ) .
ثم أنَّ المقلد الذي يرجع إلى المجتهد لأخذ الحكم الشرعي عنه (( تقليده )) على قسمين:
إما أن يكون الشخص ليس لديه أيّة معرفة بأدلة الأحكام الشرعية وهم اغلب المقلدين .
. أو يكون الشخص لديه قدر من معرفة أدلة الأحكام الشرعية فهو درس هذه العلوم الشرعية وقد يكون وصل مرتبة جيدة فيها " كطلبة البحث الخارج " ولكنه لم يصل بعد إلى ملكة الاجتهاد أي لم يتمكن بعد من استنباط الحكم الشرعي من الأدلة " الكتاب , السنة , العقل والإجماع " فهذا الشخص يجب عليه التقليد أيضاً ما لم يكن محتاطاً .
ويكفي في التقليد أن يكون عمل المكلف مطابق لفتوى المجتهد الذي يجب على المكلف تقليده ما لم يكن مجتهداً أو محتاطاً .
فلو صلى المكلف مثلاً بدون الرجوع إلى المجتهد الجامع للشرائط الذي يجب عليه تقليده ولكن كانت صلاته هذه مطابقة للطريقة التي يفتي بها المجتهد الذي يجب عليه تقليده فإن مجرّد المطابقة هذه تكفي لأن نقول أن هذا المكلف مقلّد للمجتهد . فلا يشترط المصنف " دام ظله " أن يكون المقلد ( مستنداً ) في عمله إلى فتوى المجتهد
( بمعنى أنه إذا أراد أن يعمل عملاً فإنه يرجع إلى المجتهد أو إلى رسالته ويعمل وفق رأيه ) وكذلك لم يشترط " الالتزام " ( بمعنى أن المكلف يكون لديه التزام نفسي أنه كلما أراد العمل فإنه يعود للمجتهد لمعرفة رأيه الفقهي في ذلك العمل ) .
بل إن المكلف حتى لو لم يكن ملتزماً بفتوى المجتهد ولم يكن مستنداً في عمله إلى فتوى المجتهد , ولكن صادف أنّ عمله مطابق لفتوى المجتهد الذي يجب عليه تقليده فإنه يعتبر مقلّد لذلك المجتهد .
هذا هو رأي المصنف " دام ظله " في التقليد بصورة عامة ولكنه يستثنى من ذلك صورة خاصة ستأتي في المسألة 14 فإنه في بعض الفروض تلك المسألة يشترط في صدق التقليد (أي لكي ينطبق على المكلف أنه مقلد للمجتهد ) الالتزام بفتوى المجتهد ولا تكفي مجرد المطابقة وسيأتي تفصيل الكلام عنها في تلك المسألة إن شاء الله تعالى .
. . هوامش الشرح : الواجب الكفائي : وهو الواجب الذي يسقط بفعل الغير ولكنه إذا لم يقم به أحد أُثم الجميع مثاله : رد السلام , فإن رد السلام واجب كفائي أي إذا سلم شخص على مجموعة من المسلمين فإنه يجب على كل أفراد المجموعة أن يردوا السلام بالوجوب الكفائي ,لكن إذا رد أحد أفراد المجموعة سقط وجوب الرد عن باقي افراد المجموعة وإن لم يرد أي شخص من المجموعة أستحق جميع الأفراد العقاب لأنهم آثمون بعدم الرد .
.
الحجة : بمعنى التنجيزوالتعذير :
فالتنجيز: بمعنى أن المجتهد إذا قال بوجوب شيء فيجب على المكلف فعله وإذا قال بحرمة شيء فيجب على المكلف اجتنابه .
أما المعذرية : فتعني أن المجتهد إذا استنبط حكماً وكان مخالفاً للحكم الواقعي الذي يعلمه الله سبحانه وتعالى ولم يصل إليه المجتهد باجتهاده فأن المجتهد وكذلك الشخص الذي قلده يكون معذوراً في هذه المخالفة فلا يستحق العقاب لأن المجتهد بذل جهده لمعرفة الحكم الشرعي ولم يعرفه بالشكل الصحيح والمقلد يجوز له تقليده
.
4 -الاحتياط . هو العمل الذي يتقن معه ببراءة الذمة من الواقع المجهول .
. فالاحتياط هو: أن يأتي المكلف بما يحتمل وجوبه ويترك ما يحتمل حرمته : فلو أن المكلف أحتمل وجوب جلسة الاستراحة مثلاً في الصلاة فإنه يأتي بها وإن أحتمل بأن التدخين حرام فإنه يتركه وبهذا فإن المكلف يتيقن أن ذمته برأت من الحكم الواقعي الذي يحتمله ( ففي المثال ــ حكم جلسة الاستراحة ــ لأنه لا يعلم أنها واجبة واقعاً أو ليست واجبة , وــ حكم التدخين ــ لأنه لا يعلم أن التدخين حرام أو لا ) ولكنه بأدائه لجلسة الاستراحة يتيقن أن ذمته برأت لأنها لو كانت واجبة واقعاً فقد أداهـا ولو لم تكن واجبة لم يكن عليه شيء إذا أداها بنية رجاء المطلوبية(( أي برجاء أن تكون مطلوبة عند الشارع )) , وكذلك في قضية التدخين كذلك يتيقن أن ذمته قد برأت لأن التدخين لو كان حراماً في الواقع ((أي في علم الله تعالى )) فهو قد تركه وإن لم يكن حراماً فليس عليه شيء .
وبهذا يتضح قول المصنف " دام ظله " : أن الاحتياط هو العمل الذي يتيقن معه المكلف ببراءة ذمته من الحكم الواقعي الذي يجهله .
وهذا الاحتياط بهذه الكيفية يعبر عنه بالاحتياط المطلق وهناك نوع آخر من الاحتياط يعبر عنه بالاحتياط النسبي : ومثاله أن يحتاط المكلف بين فتاوى مجتهدين يعلم أجمالاً بأن أحدهما هو الأعلم
فلو وجد المكلف أن المجتهد زيد يفتي بوجوب " الإقامة " مثلاً قبل الصلاة والمجتهد خالد يفتي باستحباب " الإقامة " قبل الصلاة وهو يعلم أن أحدهما ( إما زيداً أو خالداً ) أعلم الموجودين من المجتهدين ففي هذه الحالة يحتاط المكلف بين قوليهما , الاحتياط في هذه الحالة يقتضي أن يأتي بجلسة الاقامة لأنّهُ إذا كان قول زيد هو المطابق للواقع فإنه عمل المكلف (( اتيانه بالأقامة)) يكون موافقاً للواقع وإن كان قول خالد هو المطابق للواقع فإن عمله "الإتيان بالأقامة "لا يكون مخالفاً للواقع مع مراعاة أن يكون إتيانه للإقامة بنية رجاء المطلوبية . فأن عمل المكلف هذا يعبر عنه بالاحتياط النسبي ومعه يتيقن المكلف من براءة ذمته من الحكم الواقعي المجهول وهو حكم جلسة الاستراحة فبعد اختلاف زيد وخالد في حكم جلسة الاستراحة فلا يكون حكمها معلوماً بالنسبة للمكلف لأن أحدهما يقول بأنها واجبة والآخر يقول بأنها مستحبة ولا يعقل أن يكون الشيء الواحد واجباً ومستحباً في نفس الوقت ( لأن الواجب لا يجوز تركه والمستحب يجوز تركه ) ولاابد أن يكون لها حكم واقعي واحد في علم الله تعالى أما الوجوب أو الاستحباب هذا الحكم مجهول بالنسبة للمكلف فلو عمل بالاحتياط فسوف يتأكد من براءة ذمته تجاه ذلك الحكم .
فالاحتياط هو الطريق الرابع الذي بواسطته يحرز المكلف امتثال التكاليف الإلزامية . . ولكن هذا الاحتياط لا يكون متيسراً في جميع الأحوال ولكافة المكلفين فقد يكون الاحتياط متعذراً في بعض الأحوال ، وقد لا يسع المكلف تميز مورد الاحتياط وما يقتضيه الاحتياط في أحوال أخرى ، فمثلاً :
مثال تعذر الاحتياط :
لو شك المكلف في صلاة الجمعة مثلاً أنها واجبة أو محرّمة , فهو يحتمل وجوبها ويحتمل حرمتها ففي هذه الحالة الاحتياط مستحيل لأننا قلنا أن الاحتياط هو: (أن يفعل كل ما يحتمل وجوبه ويترك كل ما يحتمل حرمته) وفي هذه الحالة فالمكلف لو ترك صلاة الجمعة فعمله مخالف للاحتياط لأنها يحتمل أن تكون واجبة ,ولو صلى الجمعة فان عمله أيضا مخالف للاحتياط لأنها يحتمل ان تكون محرمة .
ففي هذا المثال الاحتياط مستحيل " متعذر " لأن المكلف في النهاية إما أن يصلي صلاة الجمعة أو لا يصليها ولا اختيار ثالث له وكل من الصلاة وعدمها مخالف للاحتياط . ففي هذه الحالة يجب على المكلف إما أن يجتهد في هذه المسألة إذا كان ممن بلغ درجة الاجتهاد أو يقلد مجتهداً في هذه المسألة .
مثال تعسر معرفة الاحتياط :
لو شك المكلف في صلاة الظهر يوم الجمعة أن قراءة الحمد والسورة في الركعة الأولى والثانية الواجب فيها هو الجهر أم الإخفات ؟
فإنَّ مقتضى الاحتياط في هذه الحالة أن يكرر القراءة فيها مرتين فيقرأهما بالإخفات تارةً وبالجهر تارة أخرى ناوياً في أحداهما القراءة المأمور بها وفي الثانية قراءة الحمد والسورة بعنوان القرآنية ( أي ينوي أن يقرأ قرآناً في الصلاة ) وذلك لجواز قراءة القرآن في الصلاة في أي موضع منها ولا تعد قراءة القران منافية للصلاة . فهذا الاحتياط بهذه الكيفية وبهذه النية قد لا يكون متيسراً لكثير من المكلفين.
ففي هذه الحالة الاحتياط غير متعذر بل هو ممكن ولكن المكلف قد لا يعرف طريقة الاحتياط : فإن كان المكلف قادراً على معرفة طريقة الاحتياط تخير بين العمل بالاحتياط أو التقليد وإن لم يكن قادراً على معرفة الاحتياط فيجب عليه التقليد لأن معرفة التكليف الإلزامي حينئذ تكون منحصرة بالتقليد
هوامش الشرح : . . جلسة الاستراحة : هي الجلسة بعد السجدة الثانية في الركعة التي ليس فيها تشهد . كالركعة الأولى من كل صلاة والركعة الثالثة من صلوات الظهر والعصر والعشاء . . فهو يقطع مثلاً أن زيد أو خالد هو أعلم من باقي المجتهدين ولكنه لا يعلم أن زيداً هو الأعلم أم أن خالداً هو الأعلم فالمكلف هنا لديه علم بأن أحدهما هو الأعلم ولا يحتمل أعلمية غيرهما ولديه شك وترديد أن زيد أعلم من خالد أو بالعكس وهذه الحالة يعبر عنها بالعلم الإجمالي بأن أحدهم هو الأعلم .
. لأن الاحتياط في كل حالة معينة يقتضي أمراً يختلف عن الحالة الأخرى وسنبين ذلك في (( أقسام الاحتياط ))إن شاء الله تعالى .
وذلك لأن العلاقة بين الأحكام الشرعية ( الوجوب , الحرمة , الاستحباب , الكراهة , الإباحة ) علاقة تضاد أي لا يجتمع حكمان على شيء واحد في وقت واحد مطلقاً كما لا يجتمع السواد والبياض ( وهما ضدان ) على شيء واحد في وقت واحد فلا يمكن أن يكون الشيء هو ابيض وهو أسود في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يكون الشيء ( حرام وواجب في وقت واحد ) أو ( يكون حرام ومكروه في وقت واحد ) وهكذا باقي الأحكام الشرعية سواء كانت تكليفية أو وضعي. .
تعليق