بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم
قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: (مَن أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكلِّ خُطْوَةٍ ألفَ حسنة، ومحا عنه ألفَ سيّئة، ورفع له ألف دَرَجة). كامل الزيارات
كل عام يمكن للمتابع ان يلمس عددا من التغييرات قد طرأت على العراق بين زيارة اربعينية وأخرى.
لم تكن في العام الماضي قد تحققت الانتصارات على أكبر قوة إرهابية متوحشة وتم استعادة أراضي شاسعة من التي احتلتها منذ العام 2014.
ولم يوضع العراق وشعبه في موضع التحدي الوجودي لبقائه دولة موحدة، وهو تحدي استطاع ان يوحد جميع المكونات العراقية ضده، توحيد جاء بعد عدد من الانتصارات التي ساهمت في تشكيل وعي جديد لدى العراقيين بأهمية بلدهم واهمية ان يكون موحدا بعيدا عن الانتماءات الضيقة.
لم تكن الوقفة الموحدة بعيدة عن التهيؤ الجمعي للعراقيين لاستقبال زيارة الأربعين وما حفزته فيهم الشعارات التي رفعوها في عموم العراق مستلهمين من نهضة الامام الحسين (عليه السلام) الدروس والعبر، مثلما كانت نفس الشعارات هي الرافعة التي تحققت عليها الانتصارات على داعش واخواتها.
يقول المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي: (جاءت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) لتفتح طريق الفكر والعمل على الإطاحة بهم وبكل الظالمين، وكان كذلك، فلم يكن فضح الأمويين واجتثاث شجرتهم الخبيثة من فوق الأرض تجديداً لحياة الإسلام والمسلمين فحسب، بل كان فيه أعظم خدمة للبشرية جمعاء حيث تعلمت البشرية من الإمام الحسين (عليه السلام) عبر نهضته المباركة كيف تثور ضد الظلم والظالمين وتكشف زيفهم وتجتث أصولهم في كل عصر وزمان).
لا تنتهي التحديات المصيرية التي تواجه العراقيين، ربما لأنهم حملة رسالة إنسانية عظيمة بسبب ان ارضهم تحتوي على أكثر المراقد قدسية في الإسلام، وهي التي تشع بعطائها المستمر وتحمّل العراقيين مسؤولية العمل على نهجهم.
وهي أيضا عملت على توثيق ارتباط شيعة العالم بمرجعية العراق وشيعته، حيث أصبح العراق وجهة الشيعة في العالم ومقصدها. وهو مايقود الى وحدة الهدف لهذه الزيارة بالنسبة لشيعة العالم، فهذه الملايين الكثيرة من البشر مهما اختلفت امزجتها وثقافاتها ولغاتها ومناطق سكناها تلتف حول هدف واضح هو الوصول الى كربلاء المقدسة من اجل اعلان حبها وولائها لأهل البيت عليهم السلام.
ماهي سمات الزيارة الاربعينية؟
تعمل الزيارة الاربعينية وغيرها من زيارات مليونية على التلاقي الفكري والتواصل المعرفي بين شيعة العالم، وهي توفر فرصة لالتقاء شتى الحضارات الشرقية منها والغربية بما يكفل لكل زائر أو صاحب موكب أن يخرج بحصيلة معرفية.
وهي تمثل نقطة تلاق بين الشيعة أنفسهم ومن شتى بقاع العالم وبين مبادئهم الإنسانية التي تم اختصارها بنقطة تدعى "طف كربلاء".
وتعمل الزيارة الاربعينية على تكريس ثقافة العمل التطوعي وروح المواطنة التي أسهمت في بناء الكثير من الدول الحديثة وتقدمها والعراق يحتاج لمثل هذه الثقافة.
وتمتلك زيارة الأربعين بما لها من خلفية دينية عاطفية فكرية قدرا كبيرا من الدافع على العمل التطوعي يفوق كل الإمكانات المؤسساتية في هذا المجال. فعلى مدى آلاف الكيلو مترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى كربلاء ولعدة أيام تجد الشيبة والشباب؛ الرجال والنساء في حركة متواصلة يبذلون جهودا جبارة وأموالا طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمر أو إحباط ودون أي أجر مادي دنيوي في قبال ما يبذلونه.
وتعمل الزيارة الاربعينية على تكريس ثقافة التكافل الاجتماعي بما يمثله من قيمة إنسانية عالية قبل أن تكون مبدأ دينيا، فالشارع المقدس قننها وارشد إليها؛ كما ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تضمن للإنسان حد الكفاف على اقل التقادير بما يمنحه حياة كريمة بعيدة عن الذل والامتهان.
وزيارة الأربعين عندما تجمع بين العمل التطوعي من جهة والعطاء المادي والروحي اللامحدود ودون مقابل من جهة أخرى بذلك تبلغ ذروة التكافل؛ إذ من أهم السمات التي يكتسبها الانسان في زيارة الاربعين هي سمة العطاء الذي يورث بدوره خصالا اخلاقية وانسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والايثار وتغييب البخل والانانية والحب المفرط للذات.
وتعمل الزيارة الاربعينية على القضاء على التمييز العنصري وتكريس ثقافة المساواة والتواضع والتذكير بالأخوة الانسانية عامة والاسلامية خاصة بما تستمده من الامام الحسين عليه السلام من قيم دينية ومبادئ انسانية ورصيد فكري رصين.
فهي في جمعها لهذه الاعداد المليونية ذات الهدف الموحد، تمكنت من اذابة جميع الفوارق العنصرية بين هذه الاعداد الزاحفة الى كربلاء، اذ تجد فيهم شتى الجنسيات والقوميات والاديان والاتجاهات الفكرية كما تجد الاسود والابيض وقد تساوى الجميع في (الملبس، المطعم، المجلس، المنام، الخدمة)، بل يسير بعضهم الى جنب بعض في اجواء مشحونة بالأخوة والمحبة ونسيان الذات وكأنهم تخلوا عن جميع الفوارق وانتزع الغل من قلوبهم بمجرد ان وضعوا اقدامهم على طريق كربلاء حتى يبلغ ذلك ذروته عندما تجد ان هذه القوميات والاعراق والالوان كل منها يفتخر بان يكون خادما للآخر بروح ملئها المحبة والعطاء.
وهي ايضا تمنح الفرد الكثير من القيم الانسانية التي تساعد في بناء مجتمع متماسك وتمنحه القدرة على الصمود بوجه كثير من المزالق ومن هذه القيم (ترسيخ الإيمان، الحرية، العدالة، الصبر) وغيرها الكثير.
ما الذي يمكن التأكيد عليه في مثل هذه الزيارة؟
على النخب الشيعية المثقفة وضع برامج نهضويّة واعية توعوية وتبليغية، لتحويل زيارات الإمام الحسين عليه السلام ـ وغيرها ـ إلى مؤتمر إسلامي شعبي واسع لكلّ المؤمنين القاصدين إليه من أرجاء العالم.
تكون هذه البرامج معبرة عن قيم الفداء والتضحية والبناء التي اكدت عليها النهضة الحسينية، وذلك عن طريق الأدب والشعر والنثر الحسيني الثوري، وبالبرامج الدينية والاجتماعيّة، وبحلقات التوعية الثقافية، وبجلسات العبادة والروحانية، وبلقاء المرجعيات والشخصيات الكبيرة مع الناس والجماهير، تستمع همومها وقضاياها وتتواصل معها وتعظها وتوجّهها، كما كانت عادة أئمّة أهل البيت (ع) في كلّ عام في الحجّ والعمرة.
يقول المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي: (يجب عليكم جميعاً خلال عملكم وسعيكم في نشر الأهداف الراقية والفاضلة للنهضة الحسينية المقدّسة، أن تبيّنوا للناس كافّة لماذا استشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه، وأن تبيّنوا الخصائص الفريدة والراقية للإسلام وتعرّفونها للبشرية، لكي يتعرّفوا على الإسلام أكثر وعلى ثقافته ومبادئه التي يمثّلها آل الله تعالى وهم أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم، وبهذا العمل ستتمكّنون من تحقيق أهداف الإمام الحسين صلوات الله عليه ونهضته المقدّسة. فاستفيدوا من طاقاتكم كلّها، واستثمروا جهودكم وقدراتكم بأقصى ما يمكنكم).
توصيات ومقترحات
1- زيارة الأربعين بالخصوص هي ترسيخ للهوية الحضارية والاصالة العقائدية في مواجهة الغزو الثقافي والاغتراب العصري وتيارات الانحراف، لذلك لابد من وضع مناهج علمية واستدلالية لبناء هذه الهوية فكريا وثقافيا ونفسيا وروحيا، ومجابهة الشبهات المشبوهة التي تهدف الى خلق الشك والريب واللايقين وزرع الافكار الفاسدة.
2- التأكيد على الرفض لكل أنواع الاستبداد، والتمسك بالحرية والتعددية والاستشارية ورسالة الحقوق والدفاع عن المظلومين، والاهتمام بالقضايا والتحديات الحاضرة من اجل بلورة مواقف موحدة تنطلق من مبادئ وقيم النهضة الحسينية.
3- التضامن الاجتماعي المستدام من خلال خلق التواصل بين كافة فئات المجتمع وبناء الحالة الاستشارية والتكامل بين مختلف المؤسسات والهيئات والتيارات، والتشجيع على تأسيس المنظمات الاجتماعية والحقوقية والمؤسسات العلمية والتعليمية والهيئات الاجتماعية والأهلية والخيرية.
4- تطوير وسائل الاعلام وخلق روح التكامل بين المؤسسات الإعلامية والفكرية من اجل بناء اعلام عالمي مقتدر ومحترف قادر على الوصول الى مختلف الثقافات.
5- اعتماد خطاب اللين والمسالمة والمحبة والتسامح والتأكيد على الخطاب العميق للنهضة الحسينية في بناء السلام والاعتدال والوسطية والتعايش والسلم الاجتماعي.
6- السعي لتوسيع أبواب الحوار الحضاري مع مختلف الجماعات الأخرى للتعريف بقيم اهل البيت عليهم السلام العظيمة، والأفكار العظيمة التي قامت عليها النهضة الحسينية وزيارة الأربعين.
7- عقد المؤتمرات والملتقيات الفكرية والثقافية والشبابية والجماهيرية لخلق نهضة شاملة في التنمية المستدامة وبناء المسؤولية الحضارية وصناعة الانسان المواطن، وبمشاركة الحوزات العلمية والجامعات ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الاجتماعية.
8- التأكيد على مفاهيم الإصلاح والتغيير والنزاهة ومجابهة سلوكيات الفساد السياسي والإداري والمالي، من خلال توعية شاملة عن دور النهضة الحسينية في فضح هذه السلوكيات المدمرة للاوطان والنفوس.
9- تشجيع اهل الخير والعلماء والعقول والمفكرين والمثقفين على الاستثمار في بناء الأوطان وخصوصا المدن المقدسة وبالأخص مدينة كربلاء المقدسة، اقتصاديا وحضريا من خلال التخطيط الاقتصادي الشامل لخلق البنى التحتية السليمة، والقادرة على صناعة المدن العصرية التي تستوعب ملايين الزائرين في بيئة سليمة خضراء، توفر كامل الرفاه والازدهار للمواطنين والزائرين، وتحقق الاكتفاء الذاتي المطلوب.
قال الامام محمد بن علي الباقر عليه السلام: (إنّ الحسين صاحب كربلاء قُتل مظلوماً مَكروباً عَطشاناً لَهفاناً، وحقٌّ على الله عزَّوجَلَّ أن لا يأتيه لَهفان ولا مَكروبٌ ولا مُذنبٌ ولا مَغمومٌ ولا عَطشانٌ ولا ذو عاهةٍ ثمّ دعا عنده وتقرَّب بالحسين عليه السلام إلى الله عزَّوجَلَّ إلاّ نفَّس الله كُربتَه، وأعطاه مسألتَه، وغفر ذنوبه، مَدَّ في عمره، وبسط في رِزقه، فاعتبروا يا أولي الأبصار). كامل الزيارات
* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
تعليق