الحدود المصطنعة بين الدول الاسلامية، أفادت كثيراً الانظمة السياسية والقائمين عليها طيلة العقود الماضية، ولكنها بالمقابل أضرت كثيراً الشعوب الاسلامية، فاذا استفادت الحكومات في تكريس السلطة من خلال رسم الهالة المصطنعة لما يُسمى بـ "سيادة الدولة"، فان الشعوب تجرعت مرارة الذلّ والهزيمة النفسية، لمجرد التفكير في السفر والتنقل بين البلاد الاسلامية، هذا فضلاً عما تسببت به هذه السيادة من ويلات وحروب وكوارث، فنسيت الحكومات سيادة الشعوب وكرامتها واهتمت بسيادة التراب وما يُرمز الى "الوطن".
وطيلة العقود الماضية ظلت الحدود التي خطّها جنرالات الاستعمار البريطاني والفرنسي، خطوطاً مقدسة على التراب، لا يجوز لأحد مسّها او تجاوزها دون المرور بإجراءات خاصة، ولكن! أمراً واحداً طرأ على هذه الحدود في الآونة الاخيرة جعلها تهتزّ بشدّة، بل وجعلها تنحني أمام حشود بشرية لا تقاوم تحمل من العزيمة والايمان والاخلاص ما لم يشهده العالم، وهو ما جعله يقف مشدوهاً أمام مجريات زيارة أربعين الامام الحسين، عليه السلام، التي يزدلف اليها الملايين كل عام لإحياء هذه الذكرى.
المنافذ الحدودية مع إيران وتجاوز جغرافية الدم
من سخريات القدر أن تكون إحدى مسوغات النظام الصدامي لشن الحرب على ايران عام 1980، خلاف حدودي على منطقة صغيرة في محافظة الكوت تدعى "زين القوس" وأخرى؛ "سيف سعد" فيما كانت تُسمى في ايران بمدينة "ميمك" بمحافظة ايلام، وكان الطرفان يدّعي أحقيته فيها، هذا فضلاً عن الخلاف المعقد والقديم حول شط العرب، وفي ظل هذا الخلاف الحدودي سقط حوالي مليوني انسان بين قتيل وجريح ومعوق، ودمار وخسائر مادية فادحة، وآثار اجتماعية واقتصادية من الصعب إزالتها في صفوف الشعبين؛ العراقي والايراني، فقد سيق الآلاف من الرجال العراقيين الى جبهات الحرب تاركين خلفهم نسائهم وأطفالهم وعوائلهم، ليس فقط تحت مبرر الدفاع عن هذه الحدود، وإنما الدفاع عن "البوابة الشرقية للوطن العربي". فيالها من خديعة كبرى!!
ولو سألنا أي زائر من ايران، من بين الملايين القادمين من مختلف المدن الايرانية، عن مدينة "ميمك"، فربما يحتمل ان تكون مدينة في الهند او تركيا او أي بلد آخر، إلا بلده هو، وكذلك الحال بالنسبة للعراقيين، فعندما يجد هؤلاء الزائرين انفسهم أمام قضية بحجم قضية الامام الحسين، عليه السلام، أي قدسية وقيمة تبقى لحدود مصطنعة بين البلدين.
وهذا لا يقتصر على الزائرين القادمين من ايران، كونهم الأكثر عدداً بين الزائرين من البلاد الاخرى، إنما ينسحب على القادمين من بلاد الخليج ومن الهند وباكستان والبلاد الآسيوية، ومن البلاد الافريقية و الاوربية و الاميركية.
نقل أحد الخطباء أن شخصاً انطلق من إحدى المدن الاميركية باتجاه العراق، وقرر السير حافياً من بداية خروجه من بيته الى الشارع والى المطار، صاعداً نازلاً في محطات الترانزيت وحتى وصوله العراق والتحاقه بمسيرة الزائرين صوب كربلاء المقدسة، ولم يعبأ بمن ينظر اليه في أي مكان، لانه يعرف ما يصنع، بل انه يبعث الرسالة للجميع بأن لا حدود أمام مسيرة الأربعين الحسيني.
زائرو الاربعين والخروقات الأمنية
يعلل البعض فرض الاجراءات المشددة على الحدود، من تأشيرات وسمات دخول لجوازات نافذة، بتحقيق ما يسمى بـ "الأمن القومي"، وهو همّ يفكر به العراقيون كما تفكر به سائر الشعوب في كل مكان، وهم في ذلك محقّون في ظل التهديدات الارهابية والمخططات الرامية لإشعال فتيل الازمات والصراعات بين الشعوب والدول.
ولسنا في وارد مناقشة هذه المفردة في مفهومها ومعناها، وكم كانت مجدية لتحقيق الأمن والاستقرار الحقيقيين للشعوب طيلة العقود الماضية، إنما الذي يهمنا المشهد الأربعيني وتساميه على هذه المفردة في العراق، فالأمن، من حيث المفهوم والتطبيق العملي، هو حالة يستشعرها الانسان (المواطن) قبل غيره، سواءً في محل سكناه وفي عمله وفي أي مكان يعيش فيه، لذا يدرك أن مدى استشعاره بهذا الجانب وامتلاكه الحسّ الأمني، يعني انه يوفر الامن لنفسه ولأبناء مدينته ولشعبه بشكل عام.
واذا كنّا نتوقع هذا الاستشعار والحسّ الأمن لدى المواطن العراقي للدفاع عن أمن واستقرار البلاد ضمن هذه الرقعة الجغرافية المحدودة، فان الملايين من الزائرين يحملون دوافع وحوافز أكبر بكثير من "الوطنية" و"القومية" وغيرها من الانتماءات الاخرى، للحفاظ ليس فقط عن بقعة جغرافية معينة، بل والدفاع عن قضية كبرى مثل قضية الامام الحسين، عليه السلام، وما تضم من مراسيم وشعائر يشارك فيها الملايين من كل مكان بالعالم.
إن توافد هذه الاعداد الهائلة من الزائرين من كل مكان بالعالم، قبل ان يكون مدعاة للقلق من صعوبة السيطرة عليهم والتحقق من هوياتهم وغاياتهم، هو مدعاة للقلق الكبير من المنظمات الارهابية من يقف خلفها، مهما أوتيت من قوة وتنظيم، لانهم يعرفون جيداً إن النهضة الحسينية وزيارة الاربعين تجمع هؤلاء الملايين برباط مقدس واحد يجعلهم يتفانون من أجلها فضلاً عن تحقيق الامن والاستقرار لها، وتحولهم الى عيون وآذان لمواجهة المحاولات الرامية لزعزعة أمن الزيارة الاربعينية.
نحن نلاحظ المواطن من أصول عربية أو آسيوية او افريقية، في الولايات المتحدة الاميركية، يدافع عن أمن واستقرار الدولة التي منحته الجنسية والاقامة الدائمة والحياة التي تمناها، حتى وإن لم يمض على وجوده في اميركا سوى سنوات معدودة، فضلاً عمن ولد في هذه الدولة، فاذا كان في مدينة لوس انجلوس – مثلاً- أقصى الغرب الاميركي، فانه يشعر بالمسؤولية إزاء الامن في نيويورك، في أقصى الشرق الاميركي، وإن تمكن من الإبلاغ عن حالة مشبوهة، لن يتوانى ابداً عن إثبات حسن مواطنته و ولائه لوطنه الجديد.
فهل الولاء للإمام الحسين ولمراسيم العزاء على مصابه في كربلاء وفي الطريق المؤدي اليه، أقل من الولاء الى هذا البلد او تلك الحكومة؟!
نعم؛ هنالك حدود، ولكن؛ نطاقها يتسع للهوية والانتماء والولاء، ويتجاوز التقسيمات الجغرافية ذات البعد السياسي البحت الذي لا يقرّ أي كرامة وأهمية للانسان، وما اذا كانت تخدمه وتخدم تطلعاته في الحياة، أم لا؟
إن الفهم الكامل من لدن المعنيين في العراق لهذه المسألة يفسح المجال لتنامي الشعور الأمني العام لدى الزائرين للإمام الحسين، عليه السلام، ليس فقط في أربعينيته، وإنما في الزيارات المسنونة الاخرى المتعلقة به، مثل الزيارة الشعبانية وزيارة عرفة وغيرها، فالحدود الحالية وجدت للاوقات العادية والرحلات السياحية وغيرها بعيداً عن الزيارات الخاصة بالامام، عليه السلام، فهي بحاجة الى نظرة أخرى وتخطيط وتعامل من نوع خاص.
للكاتب
محمد علي جواد تقي
تعليق