بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
لا نزال في أجواء ذكرى المولد، وهي ذكرى الرسالة لأنّ رسول الله (ص) بكلّه رسالة، فقد انطلق قبل أن يبعثه الله رسولاً ليجسّد أعلى معاني إنسانية الإنسان في عقله، فكان المتأمل الذي يعيش مع الله في صدقه وأمانته حتى أنّ كلمة (الصادق الأمين) تحوّلت إلى اسم له، وكان الإنسان الذي يلتقي عليه الجميع لأنّه وحده الذي لم يجدوا له أي خطأ في الفكر وأي خطأ في الكلمة، وأي خطأ في السلوك وفي العلاقات.
فلم يذكر أحد في تأريخه، وتأريخه قبل البعثة أربعون سنة، أيّ عيب له أو نقصاً أو انحرافاً، ومن هنا ففي الوقت الذي قال الله له: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) (الشورى/ 52)، كان يعيش روحية الإيمان وروحية الكتاب، لذلك اختاره الله نبيّاً بعد أن كانت النبوة روحية في عقله وفي سلوكه، فكان المعصوم قبل النبوة كما هو المعصوم بعد النبوّة.
الرسول والرِّسالة:
ولذلك نستطيع أن نقول أنّه (ص) جسّد الخطوط العامة للرسالة في معنى الإنسان في الرسالة قبل أن يبعثه الله رسولاً.
فنحن لا نستطيع أن نفصل بين رسول الله (ص) وبين رسالته، هو الرسالة الناطقة، فيما الكتاب هو الرسالة الصامتة، ونحن نعرف أن لابدّ للصمت من حيوية نطق لتجلّي معانيه، وكان رسول الله (ص) يجلّي معاني القرآن في أخلاقه، فكانت أخلاقه كما قالت إحدى زوجاته (أخلاق القرآن) وكان يجسّد القرآن في روحانيته، فكانت روحانيته روحانية القرآن في كلِّ خصائص الروحانية.
وعندما حدّثنا الله تعالى عنه، فقد حدثنا عن رسالته، وذلك في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ (أي وقّروه) وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 157)، فعندما نقرأ هذه الآية فإننا نتحسس أنّ حركة الرسالة كانت تجري في حركته، فهو بالرغم من أنّه نبيّ أُمّي (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48)، (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) (الشورى/ 52)، ولكنه النبيّ الذي لم تكن أمّيته جهلاً، ولكنه إذا لم يكن يمارس القراءة والكتابة فقد أعطى للقراءة والكتابة معيناً لا ينضب على مدى التاريخ يكتبه الناس منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً، ولا زال الناس بحاجة إلى أن يكتبوا الكثير، ويقرأ الناس منه ما بلّغه من كتاب وما قاله من سنّة، ولا يزال الناس يقرأونه بحثاً وتحليلاً وفكراً،ويبقى الرسول الأُمّي يعطي للعالم أعلى أنواع الثقافة ويحرّك فيه أعمق مواقع الفكر بحيث يمتد فكره حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأنّ فكره وحي من الله ووحي يمثل الامتداد في كلِّ مواقع الإنسان في الحياة لأنّه الوحي الذي ينطلق من خالق الإنسان (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14)، وهكذا نجد أنّ الله ركّز في هذه الآية على الاتّباع (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 156)، فالله يكتب رحمته لمن يتّبعه لا لمن ينتمي إليه انتماء الكلمة، ولا لمن ينطلق معه بعيداً عن حالة الاتباع (الَّذين يَتَّبِعون) هذا العنوان الكبير هو للمسلمين، أمّا في موقع الدعوة فإنّه يتحدّث عن اتباع القرآن (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الانتماء إلى الرِّسالة:
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ المسألة الإسلامية هي في انتمائنا إليه، وانتمائنا إلى رسالته وهي قضيّة اتِّباع لا قضية إنتماء، (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية/ 18)، شريعة تختزن الفكر في جوانب العقيدة، وتختزن القانون في جوانب الشريعة، وتختزن كلّ المفاهيم التي تتصل بالكون وبالإنسان وبالحياة، اتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
فكلّ ما عدا الإسلام هوى، وكلّ من يدعو إلى غير نهج الإسلام عقيدة وشريعة وأسلوباً ومنهجاً فهو يتبع الهوى، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18)، لا يعلمون عمق القضايا ولا امتداداتها، (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) (الجاثية/ 19)، وهب أنهم يملكون المال، فتتبعهم من أجل مالهم، وهب أنّهم يملكون الجاه فتتبعهم لتأخذ بعضاً من جاههم، هب أنّهم يملكون السلطة فتنحني تحت تأثير سلطتهم، هب أنّهم يعطونك بعض لذّات الحياة وبعض شهواتها، ولكنهم ماذا يملكون؟ إنّهم – إذا وقفتَ غداً بين يدي الله – وأراد الله أن يصيبك ببلاء، أو أن يصيبك بضرّ، لن يغنوا عنك من الله شيئاً، لن ينفعوك قطّ، فالله تعالى يملك أمرك، ويملك ما تملك ويملك من حولك، ويملك الحياة كلّها.
فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الليل عليكم سرمداً من إلهٌ غير الله يأتيكم بضياء، ولو أنّ الله أراد أن يجعل النهار عليكم سرمداً من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه، ولو أنّ الله أراد أن يجعل ماءكم غوراً فمن يأتيكم بماء مَعين، ولو أنّ الله أمسك عنكم هذا الهواء الذين تتنفّسون، أمسك عنكم نبات الأرض فجعل الأرض لا تنبت، من الذي يخرج ذلك، هل هؤلاء؟ إنّهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً.
الأسلوب القرآني في التعامل:
وهذا هو أسلوب قرآني في التعامل، فإذا واجهك الناس بمظاهر العظمة، فتذكّر عظمة الله، وقارن بين عظمة الإنسان وعظمة الله... فسترى أنّ الإنسان لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/ 73)، إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإنّ الظالمين أنفسهم بالفكر، والظالمين بالفسق وبالانحراف، والظالمين أنفسهم بالبغي والعدوان بعضهم أولياء بعض.. يساعد بعضهم بعضاً.. ويتبع بعضهم بعضاً، فما دخلك بالظالمين، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية/ 19)، فمن تريد أن يكون وليّك؟ هل تريد أن يكون الله مالك السماوات والأرض وخالق الكون كلّه، أو أن يكون فلان الذي خلق كما خلقت، وسيموت كما تموت، ويمرض كما تمرض، ويتألم كما تتألم (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأعراف/ 194)، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة/ 257)، (هذا بصائرُ للنّاس) (الجاثية/ 20).
البصيرة والوعي:
فهذا الحديث وهذا الخط والاتجاه بصائر للناس تبصّر عقولهم بحقائق الأشياء عندما يأتي الآخرون ليربطوهم بسطح الأشياء (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، المهم أن يكون قلبك مبصراً، فإذا كنت أعمى القلب مفتوح العينين فما قيمة عينيك عندما لا يتدخل قلبك ليوجّههما إلى معنى ما ترى وإلى سرّ ما تبصر.
لقد أقام الله السماوات والأرض على الحقِّ، فالسماوات والأرض تتحرّكان في موسيقى الحقّ التي نسمعها بعقولنا قبل أن نسمعها بآذاننا، فلا تكن نشازاً عندما تنسجم الموسيقى الإلهية بالحقِّ، لا تكن نشازاً يخرّب الأجواء الإلهيّة، كن الإنسان الذي يتحرّك عقله بالحقِّ وقلبه بالحقِّ وحياته بالحقِّ حتى تنسجم مع الحقّ الذي ينهمر نوراً من الشمس، وحتى تنسجم مع الحقّ الذي ينهمر مطراً من السماء، وحتى تنسجم مع الحقّ في كلِّ ما أودع الله من القوانين في سنّته في الكون. ولقد خلق الله السماوات والأرض بالحقِّ ولتجزى كلّ نفس بما كسبت.. هذا هو حقّ العدل، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، لأنّ الله لا يمكن أن يظلم أحداً لأنّ من يحتاج للظلم هو الضعيف، والله هو القوي.
معاني وآفاق المولد:
مولده (ص) يمثل حركتنا في اتجاهه، ويمثل حركتنا في مسيرته، ويمثل انفتاحنا عليه، على عقل رسول الله (ص) المشرق بالله، وعلى قلبه المشرق بكلِّ المحبّة والعاطفة والحنان عن الناس (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
إنّه خط عناصر الشخصية الفردية وعناصر الشخصية الاجتماعية (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر/ 1-2)، فالكلّ تحت الغربال، ولكن من هم فوق الغربال (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (العصر/ 3)، وهذا عمق شخصية الفرد الذي يعيش البلاء (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وهذا عمق المجتمع المسلم وهو أن يوصي بعضكم بعضاً بالحقِّ، (وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ) (العصر/ 3)، أن يوصي بعضكم بعضاً بالصبر إذا كلّفكم الحقّ مشقّة أو تضحية، وفي نهاية المطاف (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد/ 17)، بأن تتواصوا بأن يرحم بعضكم بعضاً.
هذا هو محمّد (ص) في قرآنه وفي مولده، فخذوا المولد من عقله ومن قلبه ومن روحه ومن أخلاقه، فستجدون أنّ كلّ واحد منكم يولد من جديد مسلماً كما هو الإسلام في ذكرى ولادة رسول الله (ص).
فنحن وُلِدنا منذ زمن ولكن أن نولد مسلمين محمّديّين.. فهذه هي الولادة التي يمكن أن تجعلنا نحسّ إسلامنا بحقِّ، ونحسّ حياتنا في الضوء المنطلق من الرسالة.. ومن قلب صاحب الرسالة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
لا نزال في أجواء ذكرى المولد، وهي ذكرى الرسالة لأنّ رسول الله (ص) بكلّه رسالة، فقد انطلق قبل أن يبعثه الله رسولاً ليجسّد أعلى معاني إنسانية الإنسان في عقله، فكان المتأمل الذي يعيش مع الله في صدقه وأمانته حتى أنّ كلمة (الصادق الأمين) تحوّلت إلى اسم له، وكان الإنسان الذي يلتقي عليه الجميع لأنّه وحده الذي لم يجدوا له أي خطأ في الفكر وأي خطأ في الكلمة، وأي خطأ في السلوك وفي العلاقات.
فلم يذكر أحد في تأريخه، وتأريخه قبل البعثة أربعون سنة، أيّ عيب له أو نقصاً أو انحرافاً، ومن هنا ففي الوقت الذي قال الله له: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) (الشورى/ 52)، كان يعيش روحية الإيمان وروحية الكتاب، لذلك اختاره الله نبيّاً بعد أن كانت النبوة روحية في عقله وفي سلوكه، فكان المعصوم قبل النبوة كما هو المعصوم بعد النبوّة.
الرسول والرِّسالة:
ولذلك نستطيع أن نقول أنّه (ص) جسّد الخطوط العامة للرسالة في معنى الإنسان في الرسالة قبل أن يبعثه الله رسولاً.
فنحن لا نستطيع أن نفصل بين رسول الله (ص) وبين رسالته، هو الرسالة الناطقة، فيما الكتاب هو الرسالة الصامتة، ونحن نعرف أن لابدّ للصمت من حيوية نطق لتجلّي معانيه، وكان رسول الله (ص) يجلّي معاني القرآن في أخلاقه، فكانت أخلاقه كما قالت إحدى زوجاته (أخلاق القرآن) وكان يجسّد القرآن في روحانيته، فكانت روحانيته روحانية القرآن في كلِّ خصائص الروحانية.
وعندما حدّثنا الله تعالى عنه، فقد حدثنا عن رسالته، وذلك في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ (أي وقّروه) وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف/ 157)، فعندما نقرأ هذه الآية فإننا نتحسس أنّ حركة الرسالة كانت تجري في حركته، فهو بالرغم من أنّه نبيّ أُمّي (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48)، (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ) (الشورى/ 52)، ولكنه النبيّ الذي لم تكن أمّيته جهلاً، ولكنه إذا لم يكن يمارس القراءة والكتابة فقد أعطى للقراءة والكتابة معيناً لا ينضب على مدى التاريخ يكتبه الناس منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً، ولا زال الناس بحاجة إلى أن يكتبوا الكثير، ويقرأ الناس منه ما بلّغه من كتاب وما قاله من سنّة، ولا يزال الناس يقرأونه بحثاً وتحليلاً وفكراً،ويبقى الرسول الأُمّي يعطي للعالم أعلى أنواع الثقافة ويحرّك فيه أعمق مواقع الفكر بحيث يمتد فكره حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأنّ فكره وحي من الله ووحي يمثل الامتداد في كلِّ مواقع الإنسان في الحياة لأنّه الوحي الذي ينطلق من خالق الإنسان (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك/ 14)، وهكذا نجد أنّ الله ركّز في هذه الآية على الاتّباع (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 156)، فالله يكتب رحمته لمن يتّبعه لا لمن ينتمي إليه انتماء الكلمة، ولا لمن ينطلق معه بعيداً عن حالة الاتباع (الَّذين يَتَّبِعون) هذا العنوان الكبير هو للمسلمين، أمّا في موقع الدعوة فإنّه يتحدّث عن اتباع القرآن (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الانتماء إلى الرِّسالة:
وعلى هذا الأساس نعرف أنّ المسألة الإسلامية هي في انتمائنا إليه، وانتمائنا إلى رسالته وهي قضيّة اتِّباع لا قضية إنتماء، (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا) (الجاثية/ 18)، شريعة تختزن الفكر في جوانب العقيدة، وتختزن القانون في جوانب الشريعة، وتختزن كلّ المفاهيم التي تتصل بالكون وبالإنسان وبالحياة، اتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون.
فكلّ ما عدا الإسلام هوى، وكلّ من يدعو إلى غير نهج الإسلام عقيدة وشريعة وأسلوباً ومنهجاً فهو يتبع الهوى، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثية/ 18)، لا يعلمون عمق القضايا ولا امتداداتها، (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) (الجاثية/ 19)، وهب أنهم يملكون المال، فتتبعهم من أجل مالهم، وهب أنّهم يملكون الجاه فتتبعهم لتأخذ بعضاً من جاههم، هب أنّهم يملكون السلطة فتنحني تحت تأثير سلطتهم، هب أنّهم يعطونك بعض لذّات الحياة وبعض شهواتها، ولكنهم ماذا يملكون؟ إنّهم – إذا وقفتَ غداً بين يدي الله – وأراد الله أن يصيبك ببلاء، أو أن يصيبك بضرّ، لن يغنوا عنك من الله شيئاً، لن ينفعوك قطّ، فالله تعالى يملك أمرك، ويملك ما تملك ويملك من حولك، ويملك الحياة كلّها.
فلو أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الليل عليكم سرمداً من إلهٌ غير الله يأتيكم بضياء، ولو أنّ الله أراد أن يجعل النهار عليكم سرمداً من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه، ولو أنّ الله أراد أن يجعل ماءكم غوراً فمن يأتيكم بماء مَعين، ولو أنّ الله أمسك عنكم هذا الهواء الذين تتنفّسون، أمسك عنكم نبات الأرض فجعل الأرض لا تنبت، من الذي يخرج ذلك، هل هؤلاء؟ إنّهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً.
الأسلوب القرآني في التعامل:
وهذا هو أسلوب قرآني في التعامل، فإذا واجهك الناس بمظاهر العظمة، فتذكّر عظمة الله، وقارن بين عظمة الإنسان وعظمة الله... فسترى أنّ الإنسان لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/ 73)، إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإنّ الظالمين أنفسهم بالفكر، والظالمين بالفسق وبالانحراف، والظالمين أنفسهم بالبغي والعدوان بعضهم أولياء بعض.. يساعد بعضهم بعضاً.. ويتبع بعضهم بعضاً، فما دخلك بالظالمين، (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثية/ 19)، فمن تريد أن يكون وليّك؟ هل تريد أن يكون الله مالك السماوات والأرض وخالق الكون كلّه، أو أن يكون فلان الذي خلق كما خلقت، وسيموت كما تموت، ويمرض كما تمرض، ويتألم كما تتألم (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) (الأعراف/ 194)، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) (البقرة/ 257)، (هذا بصائرُ للنّاس) (الجاثية/ 20).
البصيرة والوعي:
فهذا الحديث وهذا الخط والاتجاه بصائر للناس تبصّر عقولهم بحقائق الأشياء عندما يأتي الآخرون ليربطوهم بسطح الأشياء (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46)، المهم أن يكون قلبك مبصراً، فإذا كنت أعمى القلب مفتوح العينين فما قيمة عينيك عندما لا يتدخل قلبك ليوجّههما إلى معنى ما ترى وإلى سرّ ما تبصر.
(هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) (الجاثية/ 20)، فاستبصروا وتبصّروا به، (وهدىً) فاهتدوا به (ورحمةٌ لقومٍ يوقنون) (الجاثية/ 20)، ثمّ يقول الله لنا: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) (الجاثية/ 21)، أتظنّ أنك تعصي الله في الصباح وتعصيه في المساء ثمّ تريد منه أن يدخلك جنته؟ قالها عليّ (ع) لأصحابه وإذا كنتم من أصحابه فاستمعوا له بوعي "أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، هيهات لا يخدع الله عن جنته" (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) (الجاثية/ 21)، فلا يمكن أن يساوي الله سبحانه وتعالى بين من يعيش عمره في الانحراف وفي المعصية وبين من يعيش عمره في الإيمان والعمل الصالح (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الجاثية/ 22).
لقد أقام الله السماوات والأرض على الحقِّ، فالسماوات والأرض تتحرّكان في موسيقى الحقّ التي نسمعها بعقولنا قبل أن نسمعها بآذاننا، فلا تكن نشازاً عندما تنسجم الموسيقى الإلهية بالحقِّ، لا تكن نشازاً يخرّب الأجواء الإلهيّة، كن الإنسان الذي يتحرّك عقله بالحقِّ وقلبه بالحقِّ وحياته بالحقِّ حتى تنسجم مع الحقّ الذي ينهمر نوراً من الشمس، وحتى تنسجم مع الحقّ الذي ينهمر مطراً من السماء، وحتى تنسجم مع الحقّ في كلِّ ما أودع الله من القوانين في سنّته في الكون. ولقد خلق الله السماوات والأرض بالحقِّ ولتجزى كلّ نفس بما كسبت.. هذا هو حقّ العدل، (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)، لأنّ الله لا يمكن أن يظلم أحداً لأنّ من يحتاج للظلم هو الضعيف، والله هو القوي.
معاني وآفاق المولد:
مولده (ص) يمثل حركتنا في اتجاهه، ويمثل حركتنا في مسيرته، ويمثل انفتاحنا عليه، على عقل رسول الله (ص) المشرق بالله، وعلى قلبه المشرق بكلِّ المحبّة والعاطفة والحنان عن الناس (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
فلننطلق معه، ولنعش آفاقه، ولنتجدّد بتجدّد ذكراه، ولنركّز إسلامنا في الحياة كلها، وفي الواقع كلّه. ولنبن في كلِّ بيت من بيوتنا بيتاً للإسلام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم/ 6)، فإذا أردتم أن تعيشوا مع أولادكم ومع عيالكم في الجنة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 23-24)، بما صبرتم على طاعة الله، وبما صبرتم على تجنب معصيته وعلى بلائه، فالمهم أن يكون أمرك صالحاً لتلتقي بهم هناك، وأن تكون زوجتك صالحة لتلتقي بها هناك، وأن تكون ذريتك صالحة لتلتقي بها هناك، لأنّ القيامة تقطع العلاقات إلّا علاقات الإيمان (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 67)، إنّ لكم صداقاتكم في الدنيا.. ولكن هل تبقى الصداقات؟!.. صداقة واحدة هي التي ستبقى، وهي الصداقة القائمة على التقوى، والتي تنطلق من الحب في الله والبغض في الله، والصداقة التي تنطلق من موالاتك لأولياء الله ومن معاداتك لأعداء الله (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) (النساء/ 123)، تقولون إنّنا مسلمون وكلٌّ يحمل جواز سفر إلى الجنة بمجرّد انتمائه (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) فلا تعيشوا في الأماني (وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)، (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) (البقرة/ 111)، فالله لا قرابة له بالمسلمين ولا باليهود ولا بالنصارى (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا).
إنّه خط عناصر الشخصية الفردية وعناصر الشخصية الاجتماعية (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر/ 1-2)، فالكلّ تحت الغربال، ولكن من هم فوق الغربال (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (العصر/ 3)، وهذا عمق شخصية الفرد الذي يعيش البلاء (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) وهذا عمق المجتمع المسلم وهو أن يوصي بعضكم بعضاً بالحقِّ، (وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ) (العصر/ 3)، أن يوصي بعضكم بعضاً بالصبر إذا كلّفكم الحقّ مشقّة أو تضحية، وفي نهاية المطاف (وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد/ 17)، بأن تتواصوا بأن يرحم بعضكم بعضاً.
هذا هو محمّد (ص) في قرآنه وفي مولده، فخذوا المولد من عقله ومن قلبه ومن روحه ومن أخلاقه، فستجدون أنّ كلّ واحد منكم يولد من جديد مسلماً كما هو الإسلام في ذكرى ولادة رسول الله (ص).
فنحن وُلِدنا منذ زمن ولكن أن نولد مسلمين محمّديّين.. فهذه هي الولادة التي يمكن أن تجعلنا نحسّ إسلامنا بحقِّ، ونحسّ حياتنا في الضوء المنطلق من الرسالة.. ومن قلب صاحب الرسالة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)
تعليق