هل نحن معنيّون بتفسير الحركة الحسينية؟
لا بدّ في بداية البحث من طرح هذا السؤال، وهو: هل نحن معنيون ومطالبون بتقديم تفسير للحركة الحسينية وشرح المبررات والأهداف لهذه الحركة أم لا؟ وهنا قد يُجاب بالنفي أو الإثبات:
وجوه النفي
قد يقال: إنّنا غير معنيين بذلك؛ بلحاظ أحد أُمور:
الأول: إنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام يُعتبر امتثالاً لتكليف شخصي، والتكليف الشخصي لسنا معنيين بتفسير هويته أو مطالبين بامتثاله، وهذا كتكليف النبيّ صلى الله عليه وآله ببعض الأُمور الخاصة كوجوب صلاة الليل ونحوها؛ فيعتبر هذا التكليف من التكاليف الخاصة بذلك المعصوم، ولسنا مكلَّفين به أو مسؤولين عنه.
الثاني: لو تنزّلنا ـ عمّا سبق ـ وفرضنا أنّ ما قام به الإمام الحسين عليه السلام هو تطبيق لتكليف عام لا يختص به، مع ذلك فنحن غير مسؤولين عن ذلك التكليف؛ والسبب في ذلك هو أنّ تطبيقه لا يكون إلّا من خلال شروط موضوعية، وتعيين تلك الشروط والظروف المناسبة وتشخيصها بيد المعصوم عليه السلام، وهو أمرٌ خارج عن إطار قدرتنا وإمكاناتنا البشرية العاديّة القابلة للخطأ والصواب.
وبالتالي؛ فنحن لسنا معنيين بتفسير هوية الحركة أو شرح مبرراتها؛ إذ لا ثمرة في ذلك.
الثالث: إنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام لم يتصدوا لشرح حقيقة هذه الحركة، ولم يتصدوا لوضع المبررات لها، وإنّما اكتفوا بربط الأُمّة الإسلامية بحركة الإمام الحسين عليه السلام ربطاً غيبياً من خلال المراسم العزائية، أو ربطاً عاطفياً من خلال إثارة الضمائر المتفاعلة مع حركة الإمام الحسين عليه السلام. فإذا كان هذا هو موقف أهل البيت عليهم السلام من النهضة الحسينية، فموقف غيرهم لا بدّ أن يتطابق معهم؛ لأنّهم أهل العصمة والطهارة.
وجوه الإثبات
ولكن قد يقال في مقابل وجوه النفي المتقدّمة: بأنّ هناك وظيفة ومسؤولية على عواتقنا وهي ضرورة شرح حركة الإمام الحسين عليه السلام المباركة؛ وذلك لوجوه ثلاثة تصلح للرد على ما تقدم من وجوه النفي:
الوجه الأوّل: إنّ حركة الإمام الحسين عليه السلام كانت تطبيقاً لتكليف عام توافرت فيه كافّة الشروط، وحيثما توافرت الشروط تعيَّن التكليف، وأمّا تشخيص الظروف المناسبة لتطبيق مثل هذا التكليف في كل زمان فهو بيد الأُمّة من خلال طرق الإحراز التعبّدي؛ إذ ليس المطلوب من المكلَّف أن يصل إلى تشخيص موضوع التكليف وقيوده تشخيصاً حقيقياً يقينياً، وإنّما هو مُطالَب بالطرق التعبّدية بإحراز موضوع التكليف وقيوده، وهذا أمرٌ ممكن، بل لازم على المكلَّف في كل زمان، سواء أكان فرداً أم مجتمعاً. وبذلك يتبيَّن ضرورة دراسة وتحليل النهضة الحسينية بشكل مفصَّل وواضح.
الوجه الثاني: إنّ شرح حقيقة هذه الحركة هو مصداق من مصاديق التعرّف على مقامات الإمام المعصوم عليه السلام، فإنّ من مقامات الإمام المعصوم وصوله إلى مرتبة الشهادة، ومن مقاماته عليه السلام قيامه بحركة تُعدّ مظهراً لمشيئة الله} ومظهراً للهداية الإلهية التي أُنيطت بهداية المعصوم عليه السلام؛ فالتعرّف على هذه الحركة هو مصداق وصغرى من صغريات معرفة مقاماتهم العظيمة.
ومن الواضح، فنحن مكلَّفون بمعرفة مقاماتهم ومراتبهم الوجودية الإلهية.
كما أنّ التعرّف على مقاماتهم يُعتبر من صغريات إحياء أمرهم، ولا يتوقف إحياء الأمر على إقامة المراسم العزائية فحسب، وإنّما من أوضح مصاديقه هو شرح مقاماتهم وتفسير مسيرتهم وبيان الأسرار الخفية والأهداف الإلهية في هذه المسيرة العظيمة. ومن الواضح فنحن مأمورون بإحياء أمرهم عليهم السلام.
الوجه الثالث: إنّ التعرّف على حركة الإمام الحسين عليه السلام هو تعرّفٌ على السنن التاريخية والسنن الإلهية في مسيرة تاريخ المعصومين بصفة عامة، فكما أنّ لحركة التاريخ سنناً اجتماعية تحكمها في كل جيل وفي كل فترة من الفترات، فإنّ هناك ـ أيضاً ـ سنناً إلهية متكررة تحكم تاريخ الرسالة السماوية وتاريخ مسيرة الدين نفسه، فإنّه يستفاد من الآيات المباركة: ﴿إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[1]، ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾[2]، وقوله} عن لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[3]: إنّ العلم والعصمة والنبوّة هي في أُسرة واحدة وسلالة واحدة، انحدرت من الأجداد إلى الآباء إلى الأبناء، وإنّ جعل هذا العلم في هذه الأُسرة وفي هذه السلالة هو عامل من عوامل نشأة الحجية لكل معصوم من هؤلاء المعصومين بلحاظ أنّه انحدار من هذه الأصلاب الطاهرة، بعضها من بعض، وهو عامل في تخلق النطفة منذ تكونها في هذا الإطار القدسي المعطر بالعلم والعصمة والكتاب، فالانحدار من عصمة واحدة عاملٌ من عوامل تخلق النطفة وهي مقترنة بالحجية والإمامة على الخلق، وهذا هو معنى أنّ فيهم ميراث النبوّة والإمامة، وهو معنى ما ورد في الزيارة الشريفة للإمام الحسين عليه السلام: «السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله... »[4]، فإنّه ليس المقصود هو الإرث الحسّي وهو تناقل الكتب السماوية من يد إلى يد أُخرى، بل إنّ هذا النوع من الإرث ما هو إلّا مظهر من مظاهر الإرث الحقيقي؛ بمعنى أنّ هذا السنخ من المعلومات والقداسة والعصمة حمله صلب واحد وعرق واحد ممتد في هذا النور الذي تَقلَّب في الأصلاب والأرحام: «أشهدُ أنّك كنتَ نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهَّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها»[5]. فقراءة ثورة الحسين عليه السلام وتفسير ماهية تلك الحركة المباركة ـ من أجل التعرّف على السنن الإلهية في حركة تاريخ الرسالة ـ من الأُمور المهمّة جدّاً، والتي لا بدّ من دراستها والتنقيب عنها بشكل مفصّل وواضح.
فإنّنا عندما نسأل ـ مثلاً ـ: ما هي العلاقة بين أن يُقيم إبراهيم عليه السلام الكعبة وأن يكون بزوغ نبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله من الكعبة، وأن يكون ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف من الكعبة؟
وما هي العلاقة بين تقديم إسماعيل عليه السلام للذبح قرباناً إلى الله، وتقديم الحسين عليه السلام قرباناً إلى الله تبارك وتعالى وفداءً للدين؟
وما هي العلاقة بين زواج الإمام علي عليه السلام من امرأة عراقية فاطمة أُمّ البنين وبين خروج الإمام علي عليه السلام إلى العراق والانتقال بالعاصمة الإسلامية إلى هناك؟ وما هي العلاقة بين خروج الإمام علي عليه السلام إلى العراق، واختيار الإمام الحسين عليه السلام العراق مهداً لحركته، واختيار المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف العراق عاصمة لدولته دولة العدل والقسط؟ وما هي العلاقة بين زواج الحسين عليه السلام من امرأة فارسية لتكون أُمّاً لزين العابدين عليه السلام، وبين كون بلاد فارس قاعدة للتشيع وخروج الخراساني الذي هو من أنصار الإمام المهدي من هذه القاعدة؟ وما هي العلاقة بين كون أُمّ الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف جارية رومية وكون المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ركناً من أركان دولة المهدي عج الله تعالى فرجه الشريف؟
فإنّ هذه الأحداث ليست أُموراً وقعت صدفة من دون أن تكون بينها روابط، بل إنّ هذه الأحداث تكشف لنا عن سنن إلهية كانت بمثابة وضع روابط مفاصل حركة الدين وحركة الرسالة منذ نوح عليه السلام ـ الذي أرسى سفينته في الكوفة ـ إلى ظهور المهدي المنتظر عج الله تعالى فرجه الشريف وقيام دولته المباركة في الكوفة. فالتعرّف على حركة الحسين عليه السلام وتفسير ماهيّتها وشرح مبرّراتها لربطها بهذه المسيرة مسيرة الرسالة منذ اليوم الأول لها إلى آخر يوم على وجه البسيطة[6]، فالمبرّر لدراسة حركة الإمام عليه السلام وكوننا معنيين بالدراسة هو الوصول إلى كل تلك المعارف المهمة على مرّ تاريخ الرسالة الإلهية، وهو الغاية القصوى من الدين.
آية الله السيد منير الخباز
مجلة الإصلاح الحسيني - العدد السادس
تعليق