اللهم صل على محمد وآل محمد
قال الله تعالى : ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ 1 .
ركنا السعادة
إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة و التربية . و فصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضى . و لكنا سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، و هو التربية .
إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بامكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما . فتتغلب عليه و تضطره إلى الانسحاب من الميدان حسب درجة قوتها و إصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأخرى قوية ) .
ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً و قدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً .
و لأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لابد من البحث بصورة موجزة عن القضاء و القدر و المصير ، ثم ندخل إلى صلب الموضوع . فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تاثير القضاء و القدر إنكاراً تاماً زاعمين أنهما أمران وهميان لا أكثر . كما أن هناك طائفة أخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع و الأحداث ـ جهلاً بحقائق الدين و العلم ـ إلى القضاء و القدر الحتميين ، و يرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها . و لكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء و القدر و على أساس مقاييس و قوانين دقيقة .
معنى القدر
يقول الله تعالى في القرآن الحكيم : ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ 2
فأصغر الذرات الأرضية و أكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق و تقدير صحيح ، كل قد انتظم في مكانه الخاص به ... و هذا هو معنى القدر . إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم و الحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف و مقداره قبل أشهر عديدة . فإذا لم يكن وضع الشمس و حركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغير ، فانه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ . و بهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس و القمر فيقول : ﴿ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ﴾ 3 .
و هكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً و ثابتاً ، و إذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، و إذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، و إذا وجدنا النطفة تنمو في رحم الحيوان أو الانسان فتتحول إلى موجود كامل ... فذلك كله يسير طبق القوانين والسنن الالهية وكلها مظاهر لقضاء الله و قدره . إذن فالعالم يسير بموجب القضاء و القدر و كل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإلهي .
الجبر و التفويض
و أحد الموجودات في هذا العالم هو الإنسان ، ترتبط كل قواه و أفعاله ، وجميع حركاته و سكناته بالقضاء و القدر الإلهيين . فدقات القلب و دوران الدم ، و الاحساس في العصب ، و الهضم في المعدة ، و التصفية في الكبد ، و الإبصار بواسطة العين ، و السماع بواسطة الأذن ... كل أولئك يسير حسب قضاء الله و قدره ، و لكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء و القدر ينقسم بالنسبة إلى الانسان إلى قسمين :
فقسم منه يتسم بطابع الحتمية و الجبرية حيث يجري من غير إرادة الإنسان و اختياره ، و قسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا و خاضعاً لاختيارنا .
و لنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا و جزء من بدننا و له مقدرات كثيرة . فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه . و منها أيضاً تكلمه . أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا و إختيارنا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا . و هنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني جبرية هذا الدوران وحتمية في اللسان بالتقدير الإلهي أيضاً حيث لا مجال لإرادتنا و اختيارنا فيه .
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، و قد عرفنا التقدير الإلهي فيه .
و أما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه . و لكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لإرادتنا ، فبإمكاننا أن نتكلم ، و بإمكاننا أن نسكت . كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، و نستطيع أن نكذب . فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان ) قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الإلهي . و الثاني اختيارية التكلم ، و إراديته أيضاً بالتقدير الإلهي .
و من هنا يتضح جلياً أن القضاء و القدر قد يجريان بصورة جبرية .
و أحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر اختياري لنا . فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم و حتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإلهي ، و هو صريح قوله تعالى : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ... ﴾ 4 . و لكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي و انقطاع النشاط الحيوي . كما يمكن أن يتم بإرادة و اختيار من قبل شاب يملك من القوة و سلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الانتحار .
و هكذا فالشيخ الذي عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، و الشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته و اختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله و قدره ، مع فارق واحد و هو أنه في الصورة الأولى كان القضاء و القدر حتميين غير اختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء و القدر و أنهى بذلك حياته .
و على هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا ( عليه السلام ) حيث يقول : « سمعت الرضا عليه السلام يقول : كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) إذا ناجى ربه قال : أللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » 5 . و معنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية و الاختيار التي وهبها الله له بالقضاء و القدر استغلالاً سيئاً ، فيصاب بالانحراف .
إرادتنا و اختيارنا
النقطة التي تزل عليها الأقدام ـ غالباً ـ هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء و القدر ظنوا أنه حتمي و جبري . في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء و القدر الإلهي في اختيار الناس وإرادتهم . و هناك حديث عن الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يؤيد هذا الموضوع بوضوح :
« عن أمير المؤمنين أنه قال لرجل ـ سأله بعد انصرافه من الشام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء و قدر ؟ قال عليه السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة و لا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله و قدره ... فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله ... ؟
فيجيب الامام ( عليه السلام ) :
« مه يا شيخ ، فان الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم و قدر لازم ؟! لو كان ذلك لبطل الثواب و العقاب ، و لسقط الوعد و الوعيد » 6 .
فنجد الامام عليه السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الارادية للبشر إلى القضاء والقدر الالهي . و لكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً و القدر لم يكن لازماً . و بنفس المضمون ورد حديث آخر عن الامام الرضا عليه السلام يسأل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا و ترك ما نهوا عنه » 7 .
الأمر بين الأمرين 8 :
و هنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها : الأمر بها ، و الرضا لها ، و المعاونة عليها ، و إرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، و السخط لها ، و الخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر و كيفية التأثير عليها ... « قلت : فلله عز و جل فيها القضاء ؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير و شر إلا و لله فيه قضاء . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟! قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة » 7 .
فنجد أن الامام الرضا عليه السلام يسند جميع الأفعال الصالحة و الطالحة للبشر إلى القضاء الالهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم ... تلك الحرية ، و ذلك الاختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة و العقاب في المعصية .
القضاء الالهي
و لأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار . فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، و قال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فاني ألاقي حتفي و إن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، و إن كان المقدر أن أبقى حياً فاني سأستمر على الحياة و إن رميت نفسي من على السطح ... ففي ذلك خطأ فظيع . لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، و مقدر اختياري واحد . أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :
1 ـ إن القضاء والقدر الالهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً و قوياً .
2 ـ خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء و القدر من عظم دقيق قابل للتهشم .
3 ـ القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء ، إليها .
4 ـ إن القضاء و القدر الالهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته و يتلاشي مخه .
5 ـ القضاء و القدر الالهيين يقضيان بموت الانسان عند تلاشي مخه . هذه هي الأقدار الالهية الحتمية و الجبرية بالنسبة إلى حادثة الانتحار .
6 ـ القضاء و القدر الالهيان يحكمان بأن للانسان الارادة و الاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة .
إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الالهي بالنسبة إلى موتك و حياتك يتبع إرادتك و اختيارك . فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت . و إن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً . و على كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء و القدر .
و من خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الارادة الانسانية ، بالرغم من جريان القضاء و القدر على جميع الأمور ، لأن للانسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر . فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك :
« عن ابن نباتة قال : أن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر . فقيل له يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله ؟ قال : أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » 9 .
حرية البشر
إن أهم ما يمتاز به الانسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه . فجميع الترقيات و أوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة . تمر قرون مديدة على النحلة و لا تزال تبني بيتها على شكل سداسي و ستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً . تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها . و لكن الانسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته و ظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، و منها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم . و من المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية و الاختيار الفطري للانسان في محاضرة خاصة إن شاء الله .
للانسان أن يقرر مصيره
إن جانباً من القضاء و القدر يرجع إلى إرادتنا و اختيارنا . و ان الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الارادية . و لهذا فان الثواب و العقاب من قبل الله نظير الجزاء و العقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر و اختيارهم .
و هكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده . و ما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل و حب الذات إلى التقصير في إداء الواجبات الاجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء و القدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها و جلبوا الشقاء لأنفسهم !!.
إن الله تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :
﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ 10 .
و العباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي و المعنوي بفضل الايمان و العلم . و في ظل الفضائل الخلقية و الملكات الطاهرة و نتيجة الجهد و الجد ... وبذلك صاروا يستحقون إسم الانسان الحقيقي .
إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض و لكن الوصول إلى مقام الصلاح و استحقاق تلك الدرجة ( قدر ) إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي ... و هؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي ( صلى الله عليه و آله ) بإرادتهم و اختيارهم و يصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض .
نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء و القدر . أي أن السنن الآلهية هي التي تحكم في هذا الكون . و كذلك الأمور التي ترتبط بالإنسان . فانها خاضعة للقضاء و القدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء و القدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا و إرادتنا فيه كدقات القلب و دوران الدم ... وجانباً منه تابع لارادتنا و اختيارنا ، و لنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سيئاً .
الوراثة و التربية
و بعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء و القدر و بيان علاقته بالارادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع .
إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء و الأمهات ، و هذا الأمر خاضع للقضاء و القدر . و الصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء و القدر الحتمي و المصير . القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات . و القسم الثاني ما يكون على نحو العوامل السماعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً و في هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها .
« يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين ـ إن كثيراً أو قليلاً ـ على أحوال نموهم » 11 .
« من المعروف أن ضعف العقل و الجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدمي و الصمم و البكم نقائص وراثية ... كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل ... ألخ من الآباء إلى الأبناء و لكن كاستعداد فقط ، و قد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها ... » 12 .
وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير . فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة ، و هذا هو مصيره الحتمي .
المصير الحتمي
هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، و لا بالوسائل الطبية و التربوية ، فهو مجبر على الجنون ، و هكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، و لن تؤثر الأساليب التربوية فيه .
« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع » 13 .
و بهذا الصدد يقول الامام أمير المؤمنين عليه السلام : « الحمق داء لا يداوى ومرض لا يبرأ » 14 .
و هكذا فالطفل الذي يولد من أم مصابة بالسل يملك تربة مساعدة لنشوء هذا المرض فيه و قد ورث هذه التربة المساعدة من أمه . و مع هذا فإن إصابته بالسل ليست قضاءاً حتمياً و قدراً جبرياً . فإن العوامل الصحية الظروف الحياتية الصالحة يمكن أن تضمن له سلامته من المرض . فإذا انفصل عن أمه بعد الولادة مباشرة وخضع لمراقبة دقيقة في بيئة صحية فبإمكانه أن يعيش سالماً مدى العمر . أما إذا تربى في حجر أمه المصابة بالسل و ارتضع من لبنها الملوث ، فبالامكان أن يصاب بالسل بسهولة .
و كما سبق فإن الحالات النفسية و الملكات الصالحة و الطالحة للآباء و الأمهات تؤثر في الأطفال . و هكذا فالطهارة و الرذالة ، و الشجاعة و الجبن والكرم و البخل ، و غيرها من الصفات المختلفة تكون تربة مساعدة للصلاح أو الفساد في سلوك الطفل ... و لكن هذه الصفات ليست قدراً حتمياً بل يمكن إصلاح الفاسد بالطرق التربوية الصالحة ... و على العكس تبديل التربة المساعدة للصلاح إلى الفساد بالطرق التربوية الفاسدة .
التربية و البيئة
إن الطفل المتولد من أبوين صالحين يملك تربة مساعدة لنشوء الصفات الخيرة في نفسه و لكن إذا ترك في بيئة فاسدة منذ الصغر ، أو سلم إلى أفراد خبئاء بذيئي الأخلاق فإن النتيجة ستكشف عن فرد فاسد شرير ، لأن الصفات الموروثة و الفضائل العائلية لا تستطيع المقاومة أمام قوة التربية (1)15 و بالرغم من أن نوحاً قال له : ﴿ ... قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ... ﴾ 16 لم يلتفت إلى كلامه ، وكانت نتيجته الغرق . .
و على العكس من ذلك فان الاطفال الذين يتولدون من أبوين فاسدين ويملكون التربة المساعدة لنشوء الآثار السيئة في سلوكهم ، لو تركوا في محيط مليء بالصلاح و الخير وسلموا إلى مربين صالحين فمن الممكن أن تختفي تلك الآثار السيئة عنهم و ينشأوا أفراداً يتسمون بالفضيلة و الايمان .
« و تؤثر العوامل السيكولوجية تأثيراً أكبر على الفرد ، فهي التي تكسب حياتنا شكلها العقلي و الأدبي . إذ أنها تولد النظام أو التفرق . و هي التي تدفعنا إلى إهمال أنفسنا أو السيطرة عليها ، كما أنها تغير شكل تكوين الجسم و وجوه نشاطه بوساطة الدورة الدموية و التغييرات الغددية ، فإن لنظام العقل و الاستعداد الفسيولوجي تأثيراً قاطعاً ليس على حالة الفرد السيكولوجية فقط بل أيضاً على تكوينه العضوي و الاخلاطي و مع أننا لا نعلم إلى أي مدى تستطيع التأثيرات العقلية التي تنشأ من البيئة أن تحسن أو تقضي على الميول المستمدة من الأسلاف ، فانه لا شك في أنها تلعب دوراً رئيسياً في مصير الفرد ، فهي أحياناً تبدد أسمى الصفات العقيلة ، و تجعل أفراداً معينين ينمون بدرجة لم تكن متوقعة على الاطلاق ... و هي تساعد الضعيف و تجعل القوي أكثر قوة » .
« إنه مهما يكن من أمر ميول الأسلاف ، فإن كل فرد يدفع بتأثير أحوال النمو في طريق يقوده إما إلى العزلة في الجبال أو إلى جمال التلال أو إلى أوحال المستنقعات حيث يطيب للسواد الأعظم من الرجال المتحضرين أن يعيشوا » 17 .
الصفات القابلة للتغيير
إن الامام محمد بن علي الباقر ( عليه السلام ) يعبر عن قابلية تغيير بعض الصفات الوراثية للطفل في رحم الأم بكلمة ( البداء ) ، في ضمن حديث طويل بهذا الصدد فيقول :
« ثم يوحي الله تعالى إلى الملكين : إكتبا عليه قضائي وقدري ، و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان ... » فهذا يدل على أن القضاء و القدر في حق الطفل ليس أمراً قطعياً ، بل قابل للتغيير والتبديل حسب بداء الله تعالى ...
« ... فيقولان : يا رب ، ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما أن إرفعا رؤوسكما إلى رأس أمه ، فيرفعان ... فإذا اللوح يقرع جبهة أمه . فينظران فيجدان في اللوح : صورته ، و رؤيته ، و أجله و ميثاقه ، شقياً أو سعيداً ، و جميع شأنه . فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان » 18راجع تعليقة العلامة الفيلسوف البارع السيد محمد حسين الطباطبائي على الكافي : 1 / 146 .
المصير اللامحتوم
نجد في هذا الحديث نكتتين لطيفتين : الأولى : أن اللوح ليس في ساعد الأم و لا في صدرها بل في جبينها . إن الجبهة بالرغم من أنها من الناحية الجسمية لا تزيد على أنها أحد أعضاء البدن ، إلا أن بالامكان أن تكون كناية عن الجهاز المعنوي و عن أفكار الدماغ عند الأم ، و على هذا فإن مجموعة المقررات التكوينية لجسم الأم و فكرها تكون ممهدة لبناء الطفل .
و النكتة الثانية : ورود كلمة ( البداء ) بالنسبة إلى الأمر الالهي ، و الملائكة أيضاً يثبتون اللوح بشرط البداء ، و في هذا دلالة صريحة على أن جميع الصفات الوراثية في رحم الأم ليست مصيراً حتمياً ، فان هناك عوامل ( قد تكون البيئة و التربية منها ) تغير تلك الصفات .
إذا كانت جميع الصفات الوراثية حتمية غير قابلة للتغيير ، و إذا كانت جميع الصفات الرذيلة في الأبوين تنتقل إلى الأولاد تماماً شأنها شأن لون العيون أو الجنون والحماقة ... لم يكن معنى لارسال الأنبياء من قبل الله تعالى ، وكانت الشرايع والتعاليم السماوية لغواً لا فائدة فيها ، كما أنه من العبث قيام المحاولات الاصلاحية و المذاهب التربوية في المجتمعات البشرية ، لأنها لاتستطيع أن تؤثر في السلوك الموروث.
« ويميل نمو الجسم في اتجاهات مختلفة استجابة للوسط فتصبح صفاته الفطرية حقيقية أو تظل خاملة . فمن المحقق أن ميولاً وراثية معينة تتعدل تعديلاً كبيراً بظروف تكويننا »19 .
تغلب التربية على الوراثة
تبلغ العادات التربوية والتمارين الاصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية و تحدث وضعاً جديداً في الأفراد ، يقول الامام علي ( عليه السلام ) بهذا الصدد : « العادة طبع ثانٍ » 20 .
إن الرئتين في الانسان خلقتا لاستنشاق الهواء ، و الذي يدخن السيجارة لأول مرة ، و يرسل دخانها إلى أعماق رئتيه يحس باضطراب عجيب ، إذ يحس بدوار في رأسه ، يبدأ بالسعال ، تنتابه حالة التقيؤ تملآ الدموع عينيه و هكذا ينقلب حاله أثر الدخان . و هذا بديهي لأن الرئة لم تصنع للدخان بل للهواء النقي .
و لكن بتكرار التدخين تعتاد الرئة على الدخان وتتخلى عن طبعها الأولي الذي كان ينفر من الدخان . و هكذا ينقلب ما كان يبعث على النفور و الاضطراب إلى أداة للتسلية و الترويح عن النفس و هنا نقول بأن الرئة قد تربت على استنشاق الدخان ، و على أثر التكرار حصلت على طبع ثانوي و تركت طبعها الاول . و لهذا السبب فانها ترتاح لعملها غير الطبيعي و تستمر عليه .
إن الأنبياء لم يأتوا لأن يحولوا المجانين الوراثيين إلى عقلاء ، أو يجعلوا من البلداء الفطريين نوابغ ، لأن هذا ما لا يمكن أن يحدث ... لأن الأنبياء يريدون أن يخضعوا البشر إلى مراقبة إيمانية و عملية في خصوص الصفات القابلة للتغير على ضوء التربية الصحيحة ، لا يصالهم إلى السعادة و الكمال الانساني .
أما بالنسبة إلى الذين ينتمون إلى أصول عائلية فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم و يخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم مسير حياتهم . و يحفظوا ثروتهم الوراثية العظيمة من الملكات و الفضائل ، لكيلا يقعوا في هوة الفساد والجهل الطيش على أثر مصاحبة الفساد و الجهل و الطائثين .
و أما بالنسبة إلى الذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء على إطفاء الاستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية و اتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة . و بذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير و الصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة أن يحوز هؤلاء على درجة لا بأس بها من الكمال ... هذا العمل أمر ممكن في نظر العلم و الدين . فما أكثر أولئك الذين كانوا متصفين بصفات رذيلة ثم زرع الاسلام في نفوسهم بذور الخير و الصلاح و اقتلع جذور الشر و الفساد ، فوصوا بفضل التربية الاسلامية الرصينة إلى أوج السعادة .
« لوحدانية الانسان أصل مزدوج . فهي تأتي في وقت واحد من تركيب البويضة التي ينشأ منها وكذلك من تطوره و نموه و من تاريخه ... إن الخصائص الوراثية في البويضة ليست إلا ميول أو إمكانيات وهذه الميول تصبح حقيقة أو تظل تقديرية تبعاً للظروف التي تواجهها النطفة ، فالطفل ، ثم المراهق ، إبان نموهم ... و هكذا يتوقف أصل الانسان على الوراثة أكثر أهمية من النمو، أو العكس بالعكس ؟ ... إن الملاحظات و التجارب تعلمنا أن الدور الذي تلعبه الوراثة و النمو يختلف في كل فرد ، و إن قيمتها النسبية لا يمكن تحديدها عادة » 21
ظهور الاستعدادات الكامنة
يرى العلماء أن التربية عامل قوي جداً حيث تقدر أحياناً على أن توقف عمل الخواص الوراثية السيئة وتعود بالأفراد إلى طريق السعادة والكمال وقد لاتعطي التربية نتيجة حتمية كاملة ... وهذا يتبع الخصوصيات الفطرية للأفراد حيث أنها متفاوتة.
ولكن الثابت أننا يجب أن ننظر إلى جميع الأفراد بعين القبلية ونحتمل أن تؤثر فيهم الأساليب التربوية الصالحة ، فإن كانت هناك استعدادت كامنة للخير والكمال فانها تظهر بفضل التربية الصالحة وتخرج من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل ( كما يقول المنطقيون ) .
« ولما كنا لا نعلم طبيعة هذا الاستعداد بالدقة ، فيجب علينا أن نفترض أنه مناسب وأن نتصرف تبعاً لذلك . فمن المحتم أن يتلقى كل فرد تعليماً يؤدي إلى نمو صفاته المحتملة إلى أن يتبين بصفة قاطعة أن هذه الصفات غير موجودة »22 .
--------------------------
يتبع
تعليق